على البار تجلس وحيدة، والطقس بارد في الخارج.
وصلت قبيل المغيب، ومشت إلى الميناء الصغير في قرية الصيادين الوادعة. تنزهت هناك لبضع دقائق لكنها في ثوبها الحريري الأخضر، لم تتمكن من مجابهة رياح المحيط. خصلات شعرها تتطاير في كل اتجاه، شعرات تحجب عينيها وأخرى في فمها. لماذا لم تجلب معها شيئاً ثقيلاً؟ تلوم نفسها. كان الجو مفاجأة لم تستعد لها وكم تكره المفاجآت.
النادل المسؤول في المطعم تردد في إدخالها عندما عرف أنها تريد مشروباً فحسب. تقول له: “ولا على المشرب؟” يتأفف، يلقي نظرة سريعة ويعود، يشير لها أن اتبعيني وينسل بخفة ورشاقة أمامها. تجد طريقها بصعوبة بين بحر الأجساد ذاك، لكنها على الأقل تشعر بالدفء بينهم، خاصة بعد أن قرصتها رياح الأطلسي الباردة.
تنظر طويلاً إلى قائمة المشروبات، تربكها كثرة الخيارات. في الواقع لا تدري إن كانت ترغب فعلاً بكأس، أم أنها ستشرب فقط إرضاءً للنادل الذي يرسل باتجاهها نظرات نافدة الصبر.
الصف عند المدخل يزداد طولاً. تُطمئن نفسها بأن الجميع جاءوا للطعام، ولن يرغب أحدهم بمقعد منفرد ومنزو على المشرب، قريب من آلة الحساب حيث يتدافع الندل، وبجوار الممر المؤدي إلى المطبخ والحمام. لا أحد يريده فعلاً! هل عليها أن تطلب طعاماً لتحظى بقبول النادل؟ لا، لن تفعل هذا قطعاً. كأس واحدة تكفي، وربما زجاجة ماء.
ولكي تفر من نظرات النادل التي توترها، تركز اهتمامها على الساقي خلف الطاولة منهمكا في إعداد المشروبات. أسمر ويميل إلى النحافة، معتدل الطول، وله لحية صغيرة وكثة تغطي ملامح وجهه، ربما تجعله يبدو أكبر من عمره، وعيناه حالمتان وحزينتان بعض الشيء.
*
في الصباح تستمتع أكثر ما تستمتع بعزلتها، تغتبط لفكرة أنها تتنزه وحيدة، وتتناول إفطارها وحيدة. تستقل الحافلة مع الآخرين، لكنها عندما تبتسم لهم تفعل ذلك بترفع، لتعود سريعاً إلى الكتاب الذي بين يديها، زاهدة وراغبة عن عالمهم. وعلى المقهى بعد أن تنكسر الشمس، تجلس وحيدة أيضاً، تطلب شيئاً بارداً، تخلع خفيها وتمد قدميها على الكرسي المقابل، وتنخرط بمراقبة الوجوه حولها من وراء نظاراتها السوداء، تنظر إليهم بقليل من الفضول وبشيء من التسامح. تغمض عينيها وتفكر بأنها الآن متخفية ولا مرئية؛ لا عيون عاذلة تراقب، ولا ألسنة خبيثة تنم.
لا تستطيع أن تكون نفسها إلا في السفر، في مكان لا تعرف فيه أحداً، ولا يتعرف فيه عليها أحد. بمجرد أن تحط رحالها في مدينة غريبة، تشعر وكأن عبئاً انزاح عن كاهلها، وللمرة الأولى منذ شهور – منذ آخر رحلة لها – تتمكن من أخذ نفس طويل؛ عميق وممتد، كما علمتها مدربة اليوغا، ليملأ صدرها وتلافيف رئتيها وكل جزء من جسدها بالحياة. ومثل بريق خاطف، يتدفق الدم في وجنتيها. قد تفقد بعض الوزن لكثرة تسكعها في الشوارع، لكن الإشراق لا يفارقها، مشعة وتفيض بالبهجة. تشعر أن الأقنعة، كل الأقنعة التي تضطر إلى وضعها تسقط؛ قناع الابنة البارة والنموذجية أمام أسرتها الصغيرة وعائلتها الممتدة يسقط؛ قناع الفتاة المثالية المنضبطة التي قلما تخطئ، أمام صديقاتها وزملاء عملها أيضاً يسقط؛ وقناع السيدة المحافظة أمام السائق والبواب والباعة يسقط كذلك.
تزور معلماً جديداً كل يوم، وتقرأ بنهم. تمشي وتمشي حتى تتورم قدماها. تجرب أطعمة جديدة بين وقت وآخر، وتأكل الحلويات بشهية. وتدخن أيضاً، لكنها تفعل ذلك بتململ واضح، ودون كثير رغبة، كأنها تقوم بهذا كي تغيظ أحدهم أو كنكاية. لكن نكاية بمن؟ بمن حولها، وسلسلة أقاويلهم التي لا تنتهي؟ تنتشي لفعل ذلك على طاولة المقهى وهي وحدها، تميل برأسها إلى الخلف، تنفث الدخان من فمها وعيناها مغمضتان، وأمامها تقبع المنفضة الخزفية البيضاء. اسم المقهى مطبوع عليها، وشيء قليل من الرماد مذرور في جوفها.
كل هذا جذاب وساحر، حتى يحل المساء ويدنو الليل، حينها يتلبس عزلتها هذه غطاء من الشجن وشيء من الكآبة. تغتم من غير سبب واضح، وهي في الفراش الواسع في الفندق، مستندة على ظهر السرير الخشبي الصلب، وأمامها اللاب توب، تشاهد فيلماً عاطفياً، دائما قصة شجية، حب صعب التحقق. ترفع رأسها لترى انعكاس صورتها على مرآة التسريحة أمامها، وتمرر أصابعها بين خصلات شعرها الطويل، يا للخسارة، يا للأسى!
*
سألت الساقي ماذا يعدّ في تلك الكأس ذات البطن الكبير. يملأها بالثلج حتى منتصفها أولاً، يسكب الخليط ثم يمزجه بقصبة بلاستيكية شفافة. “جِن وتونِك.” ثم وبقليل من التفكير، قالت له بنبرة قاطعة بعد أن ألقت نظرة أخيرة على القائمة “سآخذ مارغريتا.” تعود لمتابعته بشيء من الافتتان. الطريقة التي يعد بها كأس البيناكولادا: قطعة صغيرة من رأس الأناناس الأخضر، يشق جزء من سطحها بسكينه الرفيعة، حتى المنتصف تقريباً وبحرص شديد، ثم يثبتها على حافة الكأس بدقة، ولاحقاً يصب المزيج، الذي له لون وكثافة القشدة، من الخلاطة إلى الكأس وحتى آخر نقطة بحذر، ثم يشك مكعباً منمنما من ثمرة الأناناس في عود خشبي، ويرشه برقائق من جوز الهند، ويضع العود بتوازن مثالي وتام على وجه الكأس.
“واو! إن ما تقوم به فن!” هكذا قالت له، باغتته الملاحظة، وردّ عليها شاكراً وهو يهز رأسه وعلا الارتباك ملامحه، وعاد سريعاً للانغماس في عمله، يعد كأساً وراء أخرى.
في غمرة انشغالها بمتابعته نسيت أمر النادل الآخر. تنتظر الساقي أن يفرغ من طلبها، يضع الثلج في البداية ويتبعه بكميات متفاوتة من مشروبات مختلفة ثم يخضها معاً في إناء معدني لامع وقد أغلقه جيدا. يخض ويخض لنصف دقيقة، ربما أقل. في النهاية يفرك نصف ليمونة خضراء قطعها في المنتصف على حافة الكأس الباردة، ويمررها على صحن تكوم فيه ملح بحري ذو حبيبات خشنة، بعد ذلك يسكب المزيج على قطع الثلج البلورية، وأخيراً يزين وجه المشروب بشريحة مجففة من الليمون. يضع الكأس ذات العنق المتطاول والأنيق أمامها. ولكي تطيل من لحظة تواصلهما تسأله عن الطقس، وهي تمرر أصابعها على حافة المنضدة المدببة، تقول إنها متفاجئة بهذا البرد. قال إن هذا بالفعل أبرد صيف مرّ عليه خلال الثماني والعشرين سنة التي قضاها هنا!
“لم أحمل معي سترة ولا شالا.” هكذا رددت وهي تمد يدها بتبرم إلى الكأس. ثم بعد رشفة أولى، سألته: أنت إذن في الثامنة والعشرين؟ لكن الحوار انقطع بصمت غريب بعد أن هز رأسه، ووصله طلب جديد على الورقة المعلقة أمامه.
تنزل إلى الحمام، رأسها يدور، ربما عليها أن تتوقف الآن عن الشرب، لن تنهي الكأس. تعيد غسل كفيها أكثر من مرة، وتفرك ما بين أصابعها، يصل الماء حتى معصميها، ثم تمسح على رقبتها بماء بارد. لا تجد محارماً ورقية. تشعر بالضيق لهذا. تتجه إلى فسحة الدرج المظلمة ويداها مبللتان، تقف عند عتباته الأولى، وتنظر إلى فوق، يصلها بصيص ضوء خافت وضجيج الحياة من الأعلى.
تتسمر أمام الدرج مترددة، لكنها بعد لحظات تنتبه لطيف شخص ما ينزل باتجاهها، يحجب النور عنها، تغمرها العتمة، وتجد نفسها مرغمة على أن توسع له، وبمجرد أن يمر بمحاذاتها تحزم أمرها وتخطو ببطء باتجاه العتبة الأولى.
تعود لمقعدها بخطوات متثاقلة. تأخذ رشفة تقول لنفسها إنها الأخيرة. وتشعر بالخدر في شفتيها، تلعق ما تبقى من ملح عليهما. تزداد حدة الأصوات في رأسها، حتى اصطدام السكاكين الفضية والشوك بقعر الأواني الخزفية يصلها كارتطام قوي، ومقارعة الكؤوس بعضها ببعض له رنات حادة، وكذلك همسات جارها على المقعد المجاور لصديقته الشقراء تأتيها من بين أنغام الموسيقى الصاخبة. لا تفهم شيئاً مما يقوله لكن لغة جسديهما تنبئ بالكثير.
تحدق بالساقي وهو في أوج انهماكه، يستخرج منديلاً من جيبه، يمسح به يديه الرطبتين، جرح صغير على إبهامه ملفوف بلاصقة شفافة، ويتحدث بصوت عال مع زميل باغته بمعانقه من الخلف، يبتسمان، ويتمايلان معاً على وقع الموسيقى.
يجلب المزيد من الثلج، في دلو كبير. يغرف ويغرف، ولا يبدو أن للدلو قعر، ولا لكمية الثلج الذي يحتويه نهاية. يعاودها الدوار، تتململ في كرسيها، تشعر بثقل جفنيها. تسأله عن الحساب، تاركة له إكرامية كبيرة. ولكن أين تجد سيارة أجرة في هذه القرية المنسية؟ تسأله، يتردد، ثم يقول بأنه لا يعرف إن كان يتوجب عليها المشي إلى حيث مواقف سيارات الأجرة.
“سأتدبر الأمر.” تقول له بنبرة تحاول أن تكون لا مبالية. “لا، سأطلب لك سيارة أجرة، أوكي؟” يرد عليها رافعاً صوته. يستخرج هاتفه مبتعداً، وخلال دقيقة أو اثنتين، يعود لها، يميل بجذعه باتجاهها من وراء طاولة المشرب، “ستكون عند الباب في غضون ثوان، أوكي؟” يكرر كلامه لها وكأنه يتحدث إلى طفل. تشعر بالحر فجأة، وتدرك بأنها لن تطيق البقاء لحظة أخرى وسط هذه الضوضاء. ترفع شعرها في عقدة صغيرة من الخلف، وتفتح الزر العلوي لفستانها، وتغادر مقعدها بعجالة. تسترق نظرة أخيرة ناحيته، فتراه مستغرقاً في خلط المشروبات. تدفع عنها الأجساد المترنحة في طريقها إلى مدخل المطعم، ولما تصل إلى الباب الزجاجي، تستطلع بحثاً عن سيارة الأجرة. الشارع شبه خال، وهي تلبث جامدة في مكانها مصغية إلى هدير الأمواج، وتعب نفساً طويلاً من هواء الأطلسي البارد، هذا كل ما تحتاجه الآن!
*****
خاص بأوكسجين