زارنا آل المومِن
العدد 244 | 17 حزيران 2019
مريم الدوسري


صفّرت طويلاً هواءً مبحوحاً أتوسل الجنّ يأخذني، أو يعيدها لي، فالصفير كما قالت لغةُ الجن بعد الغروب، لكنها لم تعلمني لغة المومِن.

حين زارنا آل المومِن، ضيفتهم جدتي في مجلسها بعد أحضانٍ و قُبَل، بتمرٍ و قهوةٍ عربية تعبقُ بعيدٍ دائمٍ له رائحة الهيل و الزعفران. كلما هزّ أحد الضيوف فنجانه بأن لا مزيد، غمرت جدتي الفنجان في إناءٍ كاد يفيض بما فيه من ماء، تغسل قهوةَ الكبار وأحاديثهم، رصينةً ومكتومة. حومّت الفناجين لنَفَسٍ، مأخوذةً بما سمعت، قبل أن تغرق تحت وطأة الكلام في قعر الإناء.

تحلّق الضيوف جلوساً على الأرض حول المدفأة الكهربائية الحمراء، بينما حمّصت جدتي لصغار المومِن على الأسلاك المعدنية قطعاً من الخبز، غمسوها متى ما نضجت، في شايّ بالحليب و السكر. زمْجرت المدفأة تلتقم ما علق بين أسلاكها من فتات الخبز، و قرقعت الملاعق في الأكواب ضحكاً، تحاول انقاذ ما لم تلتقمه الأفواه سريعاً مما ترهل من خبزٍ وعمرٍ و عشرة.

ثقيلةً تهادت يتبعها الضيوف إلى غرفة النوم ليشاهدوا معاً مسلسلاً بدوياً نساؤه ضاريات فاتنات بذقونٍ وجباهٍ موشومة، و رجاله سمرٌ شوامخ بعيونٍ كحيلة وصدورٍ مزَنّرة. كلهن وضحى، و كلهم ابن عجلان. تابعت جدتي الأحداث جالسة على طَرفِ السرير، تنقل بصرها بين الشاشة و المرآة، تمشط، بعد أن أرخت الثوب الأبيض عن رأسها، شعراً أشقر مطيّباً بالبخور. حين فرغت من تسريح سنواتٍ متعبةٍ تشابكت، ضفرت ما بقي لها من عزم و قوة، في ذيلِ فأرٍ قصيرٍ و منهك.

جلس المومِن الصغير جوارها، حين تمددت على الفراش، يشبك أصابعه بأصابعها التي نحُلت و بهتت في رؤوسها الحناء، ويقلب بين يديه كفها العريض، ليس في باطنه ما يُقرأ سوى رائحة ماء الورد و زيت اللوز عتقتها السنين، و على ظاهره دروبٌ من عروقٍ زرقاء تشق البياض المجدّر. مطّ الصغير الجلد، و أعاد رسم الخرائط. ضمّته إلى صدرها الزاخر بما قيل و بما لم يقل بعد، و ما لن يقال أبداً، و قبّلت خده تطلب منه أن يطفئ النور، يمكنه الابقاء على التلفاز، إن شاء، و لكنها تود أن تُلين جسدها المكدود قليلاً. ولأن الطويلة تساعد جارتها القصيرة، نهضتُ أنا بالرغم من قِصَريّ لأطفئ الأنوار، أتجنب بياض المفارش العتيقة الباهت، التي غمرت صالة السنيما المنزلية برائحة المشموم و كرات العث.

استلقت إلى جانبها الأيمن جنيناً جاوز السبعين، توسدت ذراعاً مطويّة فوق الوسادة، فيما ربتت بالأخرى على ساقها إيقاع تعويذة. حجبت بملفعها الأسود عن وجهها همساً مدبلجاً، وأضواءً تراقصت منعكسة على الجدران، بينما تسلل آل المومِن نَفَساً خافتاً منتظماً تلو الآخر.

في طريقهم إلى الحوش، حملوا معهم المخزن الصغير تحت الدرج، مخبأً عصياً في لعبة الغميّضة. استلوا من التكيّة و الدواشق النقوش الزرقاء، ورداً كانت أم كاجو. أخذوا المدفأة، وصباحات شتوية بأقدامٍ مجوربة تطل من تحت بطانيات ثقيلة. أخذوا منسف الرز، و رزاً نقّته يدٌ مُحناة، و أيدٍ أخرى صغيرة تبحث عن حصوات وحشرات تخطئها العين المتعبة، كما يخطيء الخيطُ عين الإبرة. أخذوا جدائل سعفٍ لم يكن للصغار صبر النخيل لضفرها حُصُراً وسُفَرا. أخذوا دفاتراً محيّ ما فيها و خُطّ المرة تلو الأخرى، فما رُبيّ القط الكبير، و ما مُحيت أمية. أخذوا أصيافاً من صباحات البحر، مالحةً، وضحكاً له طعم بطيخ ريّانٍ أحمر.

فرش آل المومِن سجادةً، دُعِكت عطلة الأسبوع الماضي بمكانس أزبدت مجنونةً بصابون الملابس، و خبط أقدامٍ  تتفادى أن تنزلق نحو نهاية صيفٍ، و انقضاء طفولة. وضبوا الحاجيات في صرّة تعاونوا على حملها، وخرجوا تتبعهم جدتي في ثوبها الأبيض، تغطي وجهها ببَطّولةٍ لها رائحة مطهر الجروح وصبغه البنفسجي المزرق، لا يكاد يسمع لنعلها وقع على الأرض- عظيمة كسماءٍ، مهيبةً كبحرٍ، في يومٍ رمادي مُتَوجس.

*****

خاص بأوكسجين


كاتبة من البحرين