رواية جيمس جويس الأخيرة
العدد 240 | 11 كانون الثاني 2019
أحمد الزناتي


تقول الروائية الأمريكية سلفيا بلاث (1932-1962) إنّها حين انتهتْ من قراءة رواية “يوليسيس” للمرّة الأولى، اهتزّت ثقتها بنفسها وصاحت: “أنا لا شيء على الإطلاق… صفر”. الحقيقة أنَّ هذا كان شعور جميع مَن قرأ أعمال الأديب الأيرلندي الأشهر جيمس جويس، وفاجأهم ذلك الإعصار العاصف من الألفاظ والكلمات والأفكار التي بدَتْ أنها تأتي من بوابة جحيم مجهولة، لا يملك مفاتيحها سوى جويس نفسه.

بعد انتهائه من رواية “يوليسيس”، كرَّس جيمس جويس السنوات الأخيرة من حياته، وعلى نحو أدّق السبعة عشر عامًا السابقة على وفاته (1923-1939) في إنجاز مسوّدة الرواية الأخيرة، والأكثر تعقيدًا وغموضًا في تاريخ الأدب “يقظة فينيغين”، ثمّ دفع بها إلى المطبعة لتخرجَ إلى النور قبل سنتين من وفاته سنة 1941. لازم ضعفُ البصر جويس طوال حياته، وبعد انتهائه من روايته الأخيرة الضخمة، كان الرجل قد قارب حدود العمى التام، وهو المصير ذاته الذي لقيه جون ملتون حين أنهى “الفردوس المفقود”.  ولما أنجزَ جويس “يقظة فينيغين” قال: “قد تكون هذه الرواية اليوم خارج “الأدب”، إلا أنّها ستصير قلبَ “الأدب” مستقبلًا”.

اقتبسَ جويس عنوان روايته من مصدر أيرلندي أصيل، أغنية أيرلندية قديمة تحكي قصّة تيم فينيغين، الرجل الذي يعشق الويسكي ويعمل في حمل الطوب والحجارة، يسقط ذات يوم من فوق سلّم مرتفع فتتحطّم جمجمته، فيحمل الرفاق جثمانه إلى منزله ويشرعون في إقامة الطقوس الأيرلندية قبل الوفاة، تدور كؤوس الويسكي، ويدور شجار بينهم، فتسقط قطرات من الويسكي على جسد تيم، فيستيقظُ ويقول لهم: “إنّ الشراب يعيد الحياة للموتى، هل تعتقدون أنني ميّت؟”. وفي نهاية الفصل الأول تظهر شخصية HCE= Here Comes Everyman، أو (هنا يأتي كلّ إنسان)، مُبحرًا إلى شواطئ مدينة دبلن ليأخذَ دورًا محوريًا في الأحداث. الرموز واضحة. يرمز تيم إلى آدم، والسقوط من السُلّم هو هبوط آدم من جنة عدن، وقطرات الويسكي -كلمة ويسكي هي كلمة إنجليزية مُنحدرة من أصل أيرلندي وتعني (ماء الحياة).

اعتمدَ جويس في روايته البناء الدائري، تقنية العودَ الأبدي لنيتشه، مُتجاهلًا القواعد الأرسطية القديمة: الحبكة والتصاعد الدرامي والوصول إلى نقطة النور، كأنّ ذلك “لعبة صبيان” لا يقوى عليها الكِبار، فالقصّة لا بداية لها ولا نهاية، بل قد لا تكون ثمّة قصّة مكتملة من الأساس. يستعير جويس تقنية الفيلسوف والمؤرخ الإيطالي الشهير جامباتستا ڤيكو في حركة المسار الدائري للتاريخ، فالتاريخ سلسلة من الدورات في حركة دائمة من المدّ والجزر، عودٌ على بدء، نهاية الدائرة هي النقطة التي انطلق منها القلم، خطّ مستقيم الاستدارة على حد تعبير محيي الدين بن عربي.

يعترف جويس بصعوبة الرواية وتعقيدها، فيقول إنَّ الرواية تنتهي في منتصف عبارةٍ، وتبدأ في منتصف العبارة نفسِها، مما حدا بكثيرٍ من الباحثين إلى إعادة النظر في تأويل وفهم هذا العمل المُلغِز، كأنّه يتحدى القارئ أو يختبر قدرته على الصبر أو السهر. في عبارةٍ أخرى يقول: “يقظة فينيغين ملائمة لقارئ مثالي، يعاني من أرقٍ مثالي”. نعلم جميعًا أنّ صعوبة الرواية لا ترجع إلى بنيتها الدائرية، بل إلى اللغة المعقّدة التي استخدمها جويس فيها، واستعار مفردات من لغات العالم الحيّة والميّتة، في محاولة لإضفاء طابع “الكونية” على نصّه، كما أنّه كتب النصّ بلغة ثورية مخالفة للأسلوب الأدبي السائد وقتها، كأنه ينتقم من الإنجليز الذين استعمروا بلاده ثلاثمئة عام، فوضع يده على أغلى ما تملكه إنجلترا، لغة شكسبير وميلتون، وشرع في تحطيمها وتحويلها إلى قطع صغيرة، وبدأ يكتب بهذه الأجزاء الصغيرة تاريخ العالم.

وقد أبدع جويس في هذه الرواية، شأنها شأن رواية يوليسيس، في استخدام أسلوب تيار الوعي، الذي يحاكي فيه الطريقة التي يتحدّث فيها العقل إلى نفسه دون أيّ تدخل من العالم الخارجي، وعادةً لا تكتمل الأفكار وتكون مبتورة، ويقول جويس إنّه طوّر هذا الأسلوب من رواية فرنسية منسية عنوانها Les laurierssont coupés، للكاتب الفرنسي Édouard Dujardin، التقطها بالصدفة من كشك بمحطة قطارات دبلن.

كانت البداية سنة 1944، حين حاول أستاذ الميثولوجيا الأمريكي الشابّ آنذاك، جوزيف كامبل (1904-1987)، الذي صار أكبر باحث معاصر في تاريخ الأساطير، بالتعاون مع الروائي الأمريكي هنري مورتون روبنسون (1898-1961)، فكّ شفرات “يقظة فينيغين”، فأصدرا كتابًا ضخمًا يقع فيما يزيد عن أربعمئة صفحة، يحمل عنوان: “مفتاح إلى يقظة فينيغين”.  يعود اهتمام كامبل وروبنسون إلى تحليل الرواية إلى سببيْن: السبب الأول هو ذيوع شهرة “يقظة فينيغين عالميًا بوصفها تحفة جويس النادرة، أما السبب الثاني فهو إعراض كثيرين عن قراءتها باعتبارها ذلك “الكتاب العظيم” الذي لا يُمكن لأحدٍ قراءته. في هذا الكتاب المهمّ، بذل المؤلّفان جهدًا هائلًا لتحليل الرواية، فصلًا فصلًا، بل صفحةً صفحة لكشف عالم جويس الغرائبي الغامض. الواقع أنَّ هدف كامبل، الذي تخصّصَ في تحليل أساطير العالم القديم وربطها بماضي الإنسان ومستقبلِه، وجدَ في “يقظة فينيغين” ضالّته، فرواية جويس حاولَت، هي الأخرى، اختزال تاريخ البشرية في ليلةٍ واحدةٍ، هي مدّة الرواية، أو تقديم ليلة كونية واحدة تلخّص تاريخ الإنسانية من خلال قصّة واحدة تكرّر بلا انتهاء، علاقة رجلٍ بامرأة.

***

في يناير 2014 جمع أستاذ جامعي ياباني متقاعد اسمه Tatsuo Hamada سلسلة من الحوارات التي أجرِيَت مع عشرةٍ من كبار متخصصي “يقظة فينيغين” في الجامعات الأمريكية والإنجليزية، وينشرها تحت اسم How/why/what to read ، Finnegans Wake? “كيف نقرأ يقظة فينيغين؟ ولماذا؟ وما الذي نقرؤه؟”

يقول Hamada في مقدّمة الكتاب إنّه يعتقد أنّ جويس سوف يرحب بكاتب ياباني يكتبُ عنها، فالرواية تضمّ مفردات يابانية، كما ضمّت مفردات عربية وعبرية وصينية وسنسكريتية وأنجلو ساكسونية قديمة. خطّة الكتاب، أو الحوارات، شديدة التنظيم والإحكام، تشي بعقل أستاذ جامعي ياباني مولع بالتنظيم والتبويب، ففي مقدمة الكتاب يقدّم Hamada ثبتًا بالموضوعات التي تناولها المُحاوَرون لدى تحليلهم لـ “يقظة فينيغين”. أسئلة الحوارات واحدة رغم تعدد الضيوف، وهي تسير على وتيرةٍ واحدة، ربما لتجميع الإجابات في النهاية ووضعها في مصفوفة بيانية حسابية للحصول على نتائج جديدة.

تخيّرتُ من ضمن صفحات الكتاب ثمانية أسئلة أساسية تكرّرتْ بنصّها على مدار الحوارات.

هل يُمكن قراءة يقظة فينيغين من البداية للنهاية؟ هل في الكتاب مقاطع عصيَّة على الفهم؟ هل استطعتَ فهم الحبكة وأنتَ تقرأ الرواية؟ هل ثمّة فائدة تُرجى من قراءة “يقظة فينيغين”؟ هل كانت قراءة “يقظة فينيغين” تجربة ممتعة؟ ماذا أراد جيمس جويس من وراء كتابتها؟

رغم عدم معرفتهم الشخصية ببعضهم البعض، يتفقُ جميع الأساتذة الذين حاورهم البروفيسور الياباني على إجاباتٍ شبه متطابقة، وهي أنَّ الرواية قابلة للقراءة من البداية إلى النهاية، ولكن على القارئ أن يحرّرَ عقله من كل ما قرأ من قبل، ومِن كل أنماط الحبكات الروائية والسردية التي مرّت عليه. عليه أن يتحلّى بالصبر، وأن يتخيّلَ دومًا شكل الدائرة وهو يقرأ، أن يُمسكَ قلمًا ويضع نقطةً ويدور بالقلم على الورقة بشكلٍ دائري ليصنع دائرةً مُحكمة الرسم قدر الإمكان.

كما اتفقوا على أنَّ قراءة “يقظة فينيغين” هي تجربة ممتعة، إلا أنَّ المُتعة ليست في السرد الروائي بقدرِ ما كانت في الانطباع الذي استطاع جويس أن يخلقه في ذهن القارئ. وقال أحدهم: “أنتَ تعلم أنَّ جاك لاكان وديريدا تحدّثا كثيرًا عن “يقظة فينيغين” ، وإن لم يقرآ الرواية كاملةً”. المهمّ ما يصل إلى ذهنك من تأثير وشعورٍ بالفضول. كما ذهب معظمهم إلى أنّه من المستحيل فهم جميع أجزائها وعباراتها، وربما هذا الغموض هو الذي يقودُ القارئ إلى حالة الفضول المزعج اللذيذ الذي يدفع القارئ للاستمرار في قراءتها.

بالنسبة إلى السؤال الأهم في هذه الحوارات: ما الذي أراده جويس من وراء كتابة رواية مثل “يقظة فينيغين” ؟ يقول أستاذ جامعي متخصّص في أعمال الكاتب الأيرلندي: “أعتقد أنَّ جويس أرادَ أن يزجَّ بنا إلى حالة الحُلم ذاتها، من خلال توسيع  مجموعة محددة من الأحداث التي نراها في حالة اليقظة. خلقَ جويس حالة اندماج مستحيلة داخل الحُلم، هي تلك الحالة التي تخرسُ فيها قدراتنا اللغوية أو تصاب بالشلل، وتتوهّج فيها قدرتنا على التخيّل والشعور. أرادَنا جويس أن نمرَّ بالتجربة التالية: كيف سيكون الأمر لو أننا امتلكنا “لا وعيًا” منظمًا في بناءٍ مثل بناء اللغة، أو العكس، ماذا لو أنَّ اللغة نُظمتْ في بناءٍ أشبه ببناء اللا وعي”. قراءة “يقظة فينيغين” لا تتطلّبُ من قارئها، المصاب بأرقٍ مثالي وفقًا لتعبير جويس، إلا أن يتخلّصَ من التزامه بفهم الأدب من خلال العقل وحده، متأسيًا برؤية مُلهم جويس في هذه الرواية، أقصد الفيلسوف الإيطالي فيكو حين قال إن الإنسان في عملية اكتسابه للمعرفة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعتمد على العقل وحده، وإنما يحتاج إلى جميع ملكاته الأخرى، أن ينفتحَ على حواسّه، أن يكون مستعدًا لكلّ فهم وكل تأويل، أن يقولَ “نعم” لكل شيء، وهي آخر كلمة في “يوليسيس” جويس.

_______________________________________________________________

المقال من كتاب “خزانة الكتب الجميلة” الصادر عن دار كلمات الكويت 2018

*****

خاص بأوكسجين

 


روائي وقاص من مصر. من رواياته "البساط الفيروزي: في ذكر ما جرى ليونس السمّان"" 2017، و""ماضي"" 2017."