رسائل
العدد 205 | 17 كانون الثاني 2017
أناييس نن/ هنري ميللر


[ لوفيسيين ]

[ 30 آب، 1932]

هنري،

   مرة أخرى أخرج إلى الهواء الطلق. لا أريد أنْ أراك على مدى بضعة أيام. لقد طلبتَ مني أشياء لا يتحمّلها مخلوق بشري. طلبتَ مني أنْ أزدهر على نصف حب، وأيضاً أنْ أمنحك تفهُّمي لجون[1] لكي تضيفه إلى تفهُّمك وتؤلِّف كتابك على أساسهما. لقد أردتُ أنْ أمنحك المستحيل، الهائل، اللا إنسانيّ. ظننتُ أنَّ في استطاعتي أنْ أتحمَّل وصول كل تلك الصفحات التي تُنصِف فيها في كل يوم روعتها. أنت تختبر شجاعتي حتى الزبى، كما التعذيب. كيف أتخلَّص من هذا الكابوس؟ ليس لدي إلا مورد واحد أستمدُّ منه القوة (من الناحية الإنسانيّة، أنا مُجرَّدة من القوة)، لا أملكُ إلا الكتابة، وهذا ما أفعله الآن بيأسٍ لن تستطيع أنْ تفهمه أبداً – أنا أكتب رُغماً عن نفسي، رُغماً عمّا تسميها عيوبي، رُغماً عن المرأة، رُغماً عن إنسانيّتي، رُغماً عن القارات التي تنهار. ثمة أمران قد يقعان : في غضون بضعة أيام قد أُصبح غير هيّابة من جديد، وتستطيع أنْ تواصل إجراء تجاربك المُثيرة للاهتمام والشنيعة؛ أو قد أُرسلُ إليك بطاقة بريدية من اسطنبول. لا تأتِ لتُريني سرعة إنسانيتك – خلف إنسانيتك هناك دائماً شخص عظيم يُثمّنها.

   قد لا أرسل إليك هذه الرسالة. لا زال لديّ الحدس بأنّ أهمّ شيء في المُطلق هو كتابك، وأنّه ينبغي ألا أزعج عملك في هذا. أما ما تبقّى فمجرد حياة إنسانية.

 

أناييس

***

 

[ لوفيسيين ]

6 أيلول عام 1932

هنري،

   غادرتَ تواً. أخبرتُ هيو بأنَّ لديّ ما أُضيفه إلى عملي. يجب أنْ أرتقي إلى غرفتي من جديد، وأنفرد بنفسي. كنتُ مترعةً بك إلى درجة أنني خشيتُ أنْ أُظهرَ وجهي. هنري، لم يحدث من قبل أنْ جعَلَتني مغادرتُك لي مُحطّمة هكذا. لا أعرف ما الذي جذبني إليك في هذه الليلة، ما الذي جعلني مسعورة لأبقى إلى جوارك، لأنام معك، لأضمّك إليّ… إنها رقّة رهيبة ومجنونة… رغبة لأرعاك… كانت مغادرتك لي ألماً مُمضّاً. عندما تتكلَّم كما تتكلَّم عن “فتاة” [بالزي الرسمي]، عندما تكون مُراعياً للآخرين ومؤثّراً، أفقد عقلي. إنّني مستعدة مقابل بقاءك معي ليلة واحدة أنْ أرمي بحياتي كلها، أنْ أُضحّي بمائة شخص، أنْ أحرق لوفيسيين، وأصبح قادرة على فعل أي شيء. لا تقلق بهذا الشأن، يا هنري، كل ما في الأمر أنني لا أقوى على منع نفسي من قول إنني أفيض، إنني أحبك كما لم أحبّ أي شخص آخر. وحتى لو أنكَ غادرت في صباح الغد فإنَّ فكرة أنكَ كنتَ نائماً في المنزل نفسه كانت ستكون بمثابة الخلاص المريح جداً من العذاب الذي عانيته هذه الليلة، عذاب قطعني إلى قطعتين بعد أنْ أغلقتَ الباب خلفك. هنري، هنري، هنري، أحبّك، أحبّك، أحبّك. كنتُ أغار من [جين] رينو[2] الذي استأثر بك طوال كل تلك الأيام، وهو يقيم في كليشي. هذه الليلة كل شيء يؤلِم، ليس فقط الانفصال، بل نهم الجسد والعقل الرهيب هذا إليك الذي يزداد ويتفاقم أكثر فأكثر مع كل يوم من وجودك. لا أعلم ما هذا الذي أكتب. اشْعرْ بي وأنا أضمك كما لم أفعل من قبل، بعمق أكبر، بحزن أبلغ، بيأس أشدّ، بشغف أقوى. إنني أركع أمامك، أمنحك نفسي وهي ليست كافية. أعبدك. أعبد جسدك، ووجهك، وصوتك، وذاتك الإنسانية، آه يا هنري، لا أستطيع أنْ أذهب الآن وأنام بين ذراعيّ هيو – لا أستطيع. أريد أنْ أهرب فقط لأنفرد مع مشاعري نحوك.

 

أناييس

***

[كليشيٍ]

الأربعاء [7 أيلول، 1932]

أناييس

   أضمّن هذه الرسالة نسخة من الصفحات الخمس الأولى فقط التي حاولت أنْ أُعيد كتابتها لأجلك – إنني مسرور جداً من نتائج جهودي. أخشى أنني اضطررتُ مراراً على أنْ أُشوّه أفكارك الأساسية لكي أُخفيها[3]. لكنَّ هذا سوف يُبيِّن لك، يُثبت لك، كم تجعلين لغتك صعبة، وكم تحتاج من العمل أحياناً، لتقول ما يريد المرء أنْ يقول بعد أنْ يقوله. لا أعلم ماذا سيكون رأيك في هذه المسودة. قد ترين بعض التطور في اللغة، أو في طريقة التعبير عن نفسك، ولكن مع نقص معادل في القوة. لأنني لا أستطيع أنْ أنفَذْ إلى أفكارك بالعمق الكافي، وأُقدِّرها وأُعيد تشكيلها. ومع ذلك، مع وضع هذا في بالك، ووجود النسخة الوحيدة للمقارنة، قد تُعيدين كتابتها من جديد وتستعيدين الحيوية المفقودة، والأفكار المُمزّقة، وما إلى ذلك. هذا هو أملي الوحيد. إنَّ أملي خائب في نفسي – لأنني لم أتمكن من فعل ما هو أفضل من هذا. ومع ذلك، سوف أستمر مع الصفحات المتبقية – وأناشدك أنْ تُرسلي إليّ، مع تقدُّم العمل، كل الصفحات التي كتبت، وأْن تسمحي لي بمراجعتها. إنَّ ما أنجزتُه أنجزتُه في غضون بضع ساعات. كنتُ أودّ أن أستمر لكنَّ وامبلي بولد قادم لأخذ النصيحة مني وأريد أنْ أتخلص منه. ورينو يقوم بزيارة أحد أصدقائه هذا اليوم وأنا حر – حرٌ في أنْ أرتاح – في أنْ أفكِّر بالإنكليزية على سبيل التغيير. وصلتْ رسالتك الرائعة وأنا في الخارج. كنا نحن الثلاثة [بالإضافة إلى فريد] قد ذهبنا إلى فيرساي على متن الدراجات وعدنا إلى المنزل مُرهقين من ارتقاء التلال. لكنها كانت رحلة عظيمة خلال الغابة – أفضل رحلة بالدراجات قمتُ بها حول باريس. سقطتُ على الأريكة ونمت كالميت حتى منتصف الليل. ثم ذهبت إلى الدوم مع رينو وحاولتُ أنْ أكتب لك، لكنني لم أستطع.

   إنَّ ما كتبتِهِ لي غاية في الجمال إلى درجة الإيلام ولا أستطيع بعد أنْ أكتب رداً عليه. سوف أخبرك فقط أنه كما أنكِ كنتِ مُترعة بي كذلك كنت أنا بك، وأنه في اللحظة التي أُغلِقَت البوابة خلفنا بدأنا نتكلم عنكِ واستمر الكلام في باريس وطوال الليل ونحن جالسون نتبادل أطراف الحديث بهدوء على المصطبة. لقد تأثّرتُ بتقرير رينو السريع والعميق لك – لقد قال أشياء رائعة عنك، كل الأشياء التي ترغبين في أنْ تُقال عنك. وعندما قرأ صفحات فريد، عن أناييس، خابَ أمله. لم تكن جيدة بالقدر الكافي. إنه يريد أنْ يكتب عنك بنفسه. إنه مولع بك. وهذا كله يمدّني بشعور رائع. في الواقع، لم أرغب في الذهاب في تلك الليلة، لكنني شعرت بأنَّ هيوغو لم يكن مسروراً كثيراً بالفكرة ولم أرغب في إيذائه. أعرف شعورك حيال فكرة تقاسُم رينو الأشياء معي – ولكن ما يتقاسمه معي شيء ربما ما كنتِ لترغبين في تقاسُمه معي. وأنا أؤكد لك أنه شيء لا يستحق الاهتمام. ولكن عندما اقترحتُ إسبانيا في ذلك الوقت حدث ذلك مع هذا الشعور – بالرغبة بتقاسُم شيء معك حصراً – بلا مقاطعات، بلا اتصالات هاتفية فظيعة، بلا عودة سريعة إلى أدوار أخرى.

   سوف يغادر صباح يوم السبت وسوف أرتاح قبل أي شيء، لأنه على الرغم من أنني استمتعت بالعطلة، إلا أنها كانت أطول قليلاً مما ينبغي. كانت أقرب شبهاً بالعمل.

   هل ستكونين حرة في أي وقت من الآن وحتى يوم السبت؟ لدينا فقط موعد واحد كبير أمامنا، وهو ليل يوم الخميس، لقضائه مع فريد وبوليت، في البال نيغر. وبعد ذلك نذهب إلى الليزال. أنا أركضُ الآن لأهرب قبل وصول وامبلي بولد. إذا كانت لديك ليلة حرة  أعلميني ؛ نستطيع أنْ نضع أي خطط تريدين.

   ما الذي لاحظه رينو ووجده مُثيراً للاهتمام؟ إنها الأزياء، الإيماء، الصوت – بالإضافة إلى السِحر الطبيعي، الذكاء الراقي، السماحة الشديدة، كرم الضيافة غير المعروف لدى الفرنسيين، إلى آخره. آه، سوف تتوقين بشدة إلى سماع كل شيء عما حدث. إنني أهنِّئ نفسي مراراً وتكراراً. كلا، لا تركعي أمامي – أنتِ العظيمة، وأنا لستُ أكثر من انعكاس، من ضوء أرسلتِهِ.

 

هنري

____________________________________________________

[1] – جون: زوجة ميللر في ذلك الحين.

[2] – جين رينو: كان صديقاً ميللر.

[3] – الحديث هنا عن رواية نن “منزل السِفاح” لنن ، التي كان ميللر يراجعها.

*****

خاص بأوكسجين