رسائل كافكا: قبلات مكتوبة تتخاطفها الأشباح
العدد 176 | 22 آب 2015
ترجمة: شذى يوسف


من السّهل الاعتقاد أن فرانز كافكا لم يكن يمارس الجنس أو أنه كان يعاني نقصاً في الانجذاب الجنسي. حيث تفتقر أعماله بشكل ملحوظ لوجود أي شكل من أشكال الإثارة الجنسيّة (النزعة الإيروتيكيّة). كما أن تفصيلاً واضحاً ساد في سيرته الذاتيّة ألا وهو خوفه الكبير من والده، الأمر الذي أثّر على طفولته بشكل أو آخر. وهناك هذه الصورة عنه، كما كتبت مجلّة “سبايكد”، على أنّه “متبصّرٌ وحيد وشديد القدسيّة في هذا العالم الغارق بالفساد”، كل هذا كتبه جيمس هاويس في “التنقيب عن كافكا”، واصفاً ما اصطلح على تسميته “كافكا الحقيقي” بأنه “نسجٌ نقيّ ضدّ الوثنيّة سواء كانت أدبيّة أو متعلّقة بالدّين”، هو الذي “كان يتردد على بيوت الدّعارة في براغ.” رغم كونه معذّباً برغباته الجنسيّة – كما وصفه صديقه وكاتب سيرته الذاتيّة ومنفّذ وصيّته ماكس برود – لم ينكر كافكا على نفسه تمضية أوقات برفقة المومسات بصورة متكررة إضافةً إلى اهتمامه بالبورنوغرافيا.

 لكن في جزء من الرّواية، لا نستغرب أن كافكا عانى نقصاً حاداً في الثّقة بالنفس خلال علاقتي حب عاشهما مع امرأتين –خطوبته على فيليس باور ثم علاقته بالصحافيّة التشيكيّة ميلينا يسينسكا – وقد كانت هاتان العلاقتان “تعذيباً” بحقّ، مشكلتان مطالبة لكافكا “بالالتزام” هو الذي “سعى على الدوام للتهرب منه”. كما أنه أمضى معظم فترة خطوبته من فيليس بالمراسلة، وقد قامت مكتبة “شوكين” بنشر مراسلاته الشخصيّة مع كلتا المرأتين في مجلّدات منفصلة. “لرواياته بصمة واضحة: نفس الاهتمام العصابي بالتفاصيل الدقيقة؛ نفس جنون الارتياب من تبدل موازين القوى؛ نفس مناخ الاختناق العاطفي الممتزج بصورة مفاجئة بما فيه الكفاية، مع لحظات من الحماس والبهجة الصبيانيّة.” هذا ما كتبته الناقدة ميتشيكو كاكوتاني في صحيفة اليويورك تايمز، وذلك في بحثها الذي حمل عنوان رسائل إلى فيليس عام 1988″النيويورك تايمز” في بحثها الذي حمل عنوان “رسائل إلى فيليس”عام 1988.

تُجسّد رسالة الخامس والعشرين من آذار/ مارس، 1914 إلى فيليس هذه الصفات، بما في ذلك ميل كافكا إلى “توبيخ” خطيبته و”تراجع واضح” عن نيّته الزواج منها. وكجواب على سؤالها غير الصريح فيما إذا كانت باور قد تجد فيه “الدّعم الحيوي الذي تحتاجه بلا شك” كتب كافكا، “لا شيء صراحةً أستطيع قوله عن ذلك:”

عزيزتي ف،  إن ما تريدين معرفته عني هو أمر لا أستطيع أن أمنحك إيّاه، أستطيع أن أعطيه لك فقط عندما أركض خلفك في التيرجارتين (حديقة في ألمانيا)، وأنت على وشك التواري تماماً، وأنا نفسي على وشك السّجود؛ فقط عندما أتعرّض للإذلال ككلب، هكذا أستطيع القيام بذلك. والآن عندما تطرحين عليّ هذا السؤال أستطيع فقط أن أقول: أحبّك يا ف.، بكلّ جوارحي، بهذا الصّدد يمكنك أن تثقي بي تماماً. أمّا فيما يخصّ البقيّة، عزيزتي ف.، فأنا لا أعرف نفسي تماماً. فما ينتابني من مفاجآتٍ وخيبات أملٍ عن نفسي، يستمرّ كسلسلة لا تنتهي.

كلّ هذا الإحباط، احتقار الذّات، التلميحات الغامضة والخائفة، والتشبّه بالكلاب عناصرٌ غالباً ما ارتبطت بفرانز كافكا، وعلى الرغم من اعترافه الصريح بالحب. لم يمض وقت طويل بعد أن تمّ تشخيص إصابته بالسل عام 1917، حتى قام كافكا بفسخ الخطوبة. في عام 1920، بدأ علاقة غراميّة قويّة من ناحيته – مكتوبة بكثافة –مع ميلينا يسينسكا،  ظهر هذا جليّاً في ما تمّ جمعه من رسائله إليها. تضمّنت هذه الرسائل الأسلوب نفسه من الدوافع الشخصية والأدبية المنظّمة: عبارات الإخلاص الرقيقة التي تصل إلى طرق مظلمة وغامضة مثل “القبلات المكتوبة … تتخاطفها الأشباح على طول الطريق” و “لقد أمضيت كل حياتي في مقاومة الرغبة بوضع حد لها.” رسالة واحدة يبدو أن لاعلاقة لها بميلينا على الإطلاق بل هي تجسيد لمشروع كافكا الكاتب:

 أحاول باستمرار التواصل مع شيء لا يمكن إشراك الغير فيه، لشرح شيء لا يمكن تفسيره، ولأتحدّث عن شيء أشعره أنا وحدي في عظامي ولا يمكن لأحد آخر أن يحس به. من حيث الجوهر هو ليس إلّا هذا الخوف الذي تحدّثنا عنه غالباً، لكنّ الخوف ينتشر ليصل إلى كل شيء، الخوف من الأمور الكبيرة كما الصغيرة، والخوف من العجز عن نطق كلمةٍ واحدة، على الرغم من أن هذا الخوف قد لا يكون مجرّد خوف، بل توقٌ إلى شيءٍ أكبر من كل ما هو مخيف.

مختارات كهذه تبرّر التأكيد في عنوان بحث كاكوتاني: “رسائل حب كافكا الكافكاويّة”. كما لو أنّه استخدم هذه الرسائل كحقل تجارب لصراعاته الداخليّة المتشابكة، شكوكه، وهواجسه التي ستشقّ طريقها إلى رواياته في النهاية. بالإضافة إلى ما نراه فيها، من هذه الزخارف الكافكاويّة المقطّرة. أبدع كافكا خلال فترة خطبته لفيليس باور “أعماله الأكثر أهمية، بما فيها رواية “المسخ”، وخلال علاقته بميلينا يسينسكا تبلورت روايته المفضلة لديّ شخصيّاً “القصر”.

ورغم أن موضة مقاربة الأدب عبر سيرة الكاتب الشخصية قد ولت، أي قراءة حياة كاتب ما من خلال أعماله، فإن وجود المئات من رسائل كافكا المنشورة جعل أمر فصل أعماله عن حياته أمراً صعباً. وقد وصف إلياس كانيتّي رسائل كافكا بأنها حوار “كان يجريه مع نفسه”، وكل منها “تعتبر فهرساً للأحداث العاطفية التي ألهمته رواية “المحاكمة” وغيرها من أعماله”. وعلى الرغم من النوبات العاطفيّة غير المتوقعة التي انتابت كافكا، فإن هذه الرسائل أضافت قيمة كبيرة لدعم ذلك التقييم النّقدي.

_________________________________

المقال مأخوذ من موقع openculture.com

 

الصورة من رسوم المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني (1920 – 1993) ولها أن تكون رسوماً أولية لشخصيات أفلامه متسائلاً ” لماذا أرسم شخصيات أفلامي؟ لما أدوّن ملاحظات غرافيكية عن وجوههم، أنوفهم، شواربهم، ربطات عنقهم، حقائبهم.. هي طريقتي ربما لأبدأ بمشاهدة الفيلم وجهاً لوجه، لأرى من أي نوع هو، محاولاً ترميم شيء مهما كان صغيراُ وصولاً إلى حدود العدم، لكن ذلك يبدو لي شيئاً يمكن فعله مع الفيلم، ليبدأ حديثه معي في الخفاء”.

*****

خاص بأوكسجين