رسائل فريدا إلى ريفيرا: جوف إبطيك ملاذي
العدد 214 | 13 حزيران 2017
فريدا


تقديم:

ماريا بوبوفا

تعد الرسامة المكسيكية فريدا كاهلو من أكثر الشخصيات الملفتة في الثقافة المعاصرة. أصيبت كاهلو في عمر الصبا بمرض شلل الأطفال، مما تسبب في جعل قدمها اليمنى غير مكتملة النمو، ولإخفاء نقصها، عمدت لاحقاً على التخفي بتنانيرها الملونة الشهيرة. بعد عقد من الزمن، وعندما كانت من بين خمس وثلاثين طالبة فقط في مدرسة المكسيك الإعدادية المرموقة، تعرضت لحادث سير أليم، خلّف عدداً من الكسور في جسدها، إضافة إلى تمزقات داخلية ناجمة عن قضيب حديدي ثقب معدتها ورحمها. ولمدة ثلاثة أشهر، قبعت تحت جبيرة غطت جسدها بأكمله. وعلى الرغم من أنها صممت في نهاية المطاف على المشي مجدداً، فقد ظلت طيلة حياتها تعاني من انتكاسات متكررة بسبب الألم الهائل، وتعين عليها الدخول إلى المستشفى بشكل متكرر، فضلاً عن إجراء ما يزيد عن ثلاثين عملية جراحية. ولشغل وقتها خلال الفترة التي بقيت فيها طريحة الفراش، بدأت كاهلو أولى خطواتها في عالم الرسم- وواصلت مسيرتها لتصبح إحدى أكثر الرسامين تأثيراً في الفن الحديث.

وبعد مرور سنتين على الحادث، وفي العام 1927، التقت الرسام دييغو ريفيرا، وأعجبت بأعماله وأصبح مرشدها. وفي العام 1929، وعلى الرغم من اعتراض والدة كاهلو الشفهي، تزوجت فريدا ودييغو لتبدأ بذلك رحلة زواج وصف بأنه الأكثر صخباً والأسوأ سمعة في تاريخ الفن. إذ كان لكلا الشريكين علاقات متعددة، لعل أشهرها علاقتها الجنسية الثنائية مع المغنية والراقصة والممثلة الفرنسية جوزفين باكر والمفكّر الماركسي ليون تروتسكي. وبرغم ذلك، اتسمت الصلة التي تربطها مع دييغو بالشغف فوق العادي والوله اللا محدود.  

رسائل الحب التي بعثتها كاهلو إلى ريفيرا والتي تم العثور عليها في كتاب “مذكرات فريدا كاهلو: صورة ذاتية حميمة”The Diary of Frida Kahlo: An Intimate Self-Portrait (المكتبة العامة) والتي تغطي سبعة وعشرين عاماً من علاقتهما، تظهر الأحاسيس العميقة والمستمرة التي حفظها كل منهما نحو الآخر، أحاسيس مترعة بالمشاعر الملتهبة التي طفح بها أي حب مقيم كامل: النشوة والحرقة والتفاني والرغبة والشوق والفرح. في حرقتهما المتواصلة على مدار علاقتهما، حلقا في الجو نفسه، جو مفعم برسائل حب تشبه تلك التي تبادلتها جورجيا أوكيفي مع ألفريد ستيغليتز، وأناييس نين مع هنري ميلر، وفرجينيا وولف مع فيتا ساكفيل ويست.

فيما يلي مختارات من هذه الرسائل:

 

دييغو.

الحقيقة، ويا له من أمر رائع، أنني لم أرغب بالتحدث أو النوم أو الإصغاء أو الحب. أن أشعر بنفسي محاصرة، دون خوف من الدماء، خارج الزمان والسحر، داخل خوفك أنت، وحرقتك الهائلة، وداخل كل نبض في قلبك. ولو طلبت كل هذا الجنون منك، وأنا أعرف، فلن أجد  في صمتك سوى الارتباك. أطلب منك العنف، في اللا معنى، وأنت، أنت تعطيني الإحسان وضوءك ودفئك. أود رسمك، ولكن لا توجد ألوان تكفي، فأنت مليء بالألوان، في ارتباكي، الشكل الملموس لحبي العظيم.

 

دييغو:

لا شيء يضاهي يديك، لا شيء يشبه اللون الأخضر الذهبي في عينيك. جسدي ممتلئ بك لأيام وأيام. أنت مرآة الضوء. الومضة العنيفة للضوء. نداوة الأرض. جوف إبطيك ملاذي. أصابعي تلامس دمك. كامل متعتي تتجلى من خلال شعوري بالحياة تتدفق من نافورة زهورك التي تحتفظ بها نافورتي لملء كامل طرق أعصابي التي هي أعصابك.

***

المصباغ- حامل اللون. دييغو.

هي التي تحمل اللون.

هو الذي يرى اللون.

منذ العام 1922.

إلى الأبد وإلى اللا نهاية. الآن في العام 1944. بعد كل الساعات التي بقيت فيها على قيد الحياة. تواصل ناقلات الجراثيم مسارها في اتجاهها الأصلي. لا شيء يوقفها. لا تملك من المعرفة أكثر من المشاعر الحيّة، ولا رغبة لديها سوى الاستمرار إلى أن يحدث اللقاء. ببطء. باضطراب عظيم، ولكن مع اليقين أن “القسم الذهبي” يقود كل هذا. ثمّة ترتيب خلوي. ثمّة حركة. ثمّة ضوء. جميع المراكز هي نفسها. الحماقة غير موجودة. نحن ما زلنا كما كنا عليه وكما سنبقى. لا نعتمد على المصير الغبي.

***

حبيبي دييغو:

مرآة الليل

عيناك الخضراوتان تنغرزان كالخنجر في لحمي. الأمواج تتلاطم بين أيدينا.

أنت بأكملك في فضاءٍ مليء بالأصوات- في الظل وفي الضوء. كان اسمك المصباغ الذي يلتقط اللون. أنا حامل اللون الذي يعطي اللون.

أنت كل تراكيب الأرقام. الحياة. رغبتي تتمثل في فهم خطوط حركة الظلال. أنت تحققها وأنا أتلقى. تسافر كلماتك عبر الفضاء بأكمله وتصل إلى خلاياي التي هي نجومي ثم تذهب إلى خلاياك التي هي ضوئي.

***

المصباغ- حامل اللون

إنه ظمأ سنوات عديدة كنا فيها محتجزين في أجسادنا. كلمات مكبّلة لم نستطع قولها إلا على شفاه الأحلام. كل شيء كان محاطاً بالمعجزة الخضراء للمشاهد الطبيعية لجسدك. على هيئتك، تستجيب أهداب الأزهار للمستي، وهمهمات الجداول. كل أصناف الفاكهة تجمعت على عصير شفتيك، دم الرمان، أفق تفاح المامي والأناناس العذب. أضمك إلى صدري فتتوغل أعجوبة هيئتك في كل دمي من خلال أطراف أصابعي. عبير لب البلوط، ذكريات الجوز، النَفَس الأخضر لشجرة الرماد. الأفق والمشاهد الطبيعية = تعقبتهما بقبلة. سيشكل نسيان الكلمات اللغة الدقيقة لفهم نظرات أعيننا المغمضة. = أنت هنا، غير ملموس وأنت كل الكون الذي شكلتُه داخل فضاء غرفتي. غيابك ينابيع ترتجف مع دقات الساعة في نبض الضوء، أنت تتنفس من خلال المرآة. منك أنت إلى يديّ، أعانق كامل جسدك، وأنا معك لدقيقة وأنا مع نفسي للحظة. ودمي هو المعجزة التي تجري في أوعية الهواء من قلبي إلى قلبك.

المعجزة الخضراء للمشهد الطبيعي لجسدي يصبح في جسدك الطبيعة برمتها. أطير فيها لأعانق الهضاب المدوّرة بأطراف أصابعي، تغوص يداي في الوديان المظللة في سعي للتملك وأنا أتكور في طوق الأغصان الناعمة، خضراء وباردة. أتغلغل في جنس الأرض كلها، قلبها يحرقني ويحتك كامل جسدي بانتعاش الأوراق الرقيقة. نداها عرق الحبيب المتجدد أبداً.

ليس الحب أو الرقة أو التأثر، إنه الحياة ذاتها، حياتي، بأنني وجدت ما رأيته في يديك، في ثغرك وصدرك. أستشعر طعم اللوز من شفتيك في فمي. لم يخرج عالمينا أبداً. يمكن لجبل واحد فقط أن يعرف جوهر جبل آخر.

يطوف حضورك للحظة أو لحظتين كما لو أنه يطوق كينونتي كلها وهو ينتظر بقلق بزوغ الصباح. لاحظت أنني معك. في تلك اللحظة كنت لا أزال ممتلئة بالمشاعر، ويداي غائصتان بالأعضاء، وجسدي يشعر باحتضان ذراعيك.

***

إلى حبيبي دييغو

واهب الحياة الصامت للعالَمَين، والأهم هو اللا وهم. يطلع الصباح، الأحمر الودود، الأزرق الكبير، اليدان المليئتان بأوراق الشجر، العصافير الصاخبة، الأصابع في الشعر، أعشاش الحمام هي فَهمٌ نادر لبساطة الصراع البشري في سبيل الأغنية الخالية من أي معنى حماقة الريح في قلبي= لا تسمحي لهم يا فتاة القافية= الشوكولاته الحلوة للمكسيك العتيقة، عاصفة في الدم تدخل من خلال الفم- التشنج والفم والضحك وإبر الأسنان الرقيقة للؤلؤ، من أجل هدية ما طلبتها في السابع من تموز، وحصلت عليها، أغني، غنيت، سأغني من الآن حبنا الساحر.

______________________

عن موقع “برين بكينغ”

*****

خاص بأوكسجين