رجل عابر في ليلة ماطرة
العدد 272 | 29 تموز 2022
ماجد أحمد


كانت تسجل في دفتر مذكراتها كل شيء تقريباً. لكنها كانت تركز على تسجيل حياتها الجنسية أكثر من أي شيء آخر. الحياة المحرَّمة. كانت تكتب مثلاً عن حجم كل قضيب تجربه. لم تكن تستخدم نظرية البقاء للأصلح، أو الأكبر في هذه الحالة. لم تكن تعرف من هو داروين أساساً. كانت تتسلى بالمقارنات. تستمتع كما يستمتع الرجل. لم تكن نسوية على أية حال. سيمون دي بوفوار وبيتي فريدان أو نوال السعداوي ومالالا مجرد وجوه، أصوات، أسماء. كانت تتسلى فقط. هي حقا هكذا.

كانت تستخدم الرموز. تسمي العضو الذكري وتصنّفه: “قطعة لحم مشوية. قطعة لحم عادية. لحم. مجرد قطعة. وهكذا”. ثم تضيف سرداً مقتصداً وبعض الأوصاف والملاحظات: “هل كانت قطعة كبيرة أم صغيرة أم متوسطة؟ وهل ثمة فرق بين القردة والرجال؟” كانت تسمّي القذف المبكر: “آدم وحواء”. لم يكن ذلك يثير سخطها، بل تتعاطف بصدق مع من لا يقدر على الاستمرار لأكثر من 3 دقائق لأنها في الحقيقة مشغولة. ثمة في الحياة ما هو أهم من مثل هذه الأشياء.

ذات مرة، شَعرت برغبة شديدة للنوم مع امرأة. ملّت من تناول اللحوم. كانت تريد أن تجرب ما كانت تملكه. منبع الشرف والعار والمال والبول والأطفال وكل هذا هراء. لكنها خجولة جداً وحذرة إلى أقصى حد في علاقاتها مع بني جنسها. عندما تستمني، لا يمكنها بلوغ النشوة. ورثت تلك الخصلة من أمها على الأرجح. أحيانا تخطأ في تخيل الإحساس الذي ترغب بالشعور به. تخطأ في طريقة الاستلقاء. تحتار. تملك نقاط قوة كثيرة لكن حين ينتابها الشك، تتحول شخصيتها إلى علّاقة ملابس.

عموماً، لم تكن تسعى خلف التجارب. إن تمجيد الناس للتجربة أمر مثير للغثيان في نظرها. لم تكن تبحث عن العبر الأخلاقية كذلك. ليس بصورة منطقية على الأقل. هناك شيء في فكرة الكتابة يلمس غرائزها، يلمس ضمناً جسدها. لقد تاهت في أفضل القصص. بكت في نهاية العبارات. لكنها لا تظهر ذلك أبداً. خصوصا لزوجها وولدها الوحيد من زوجها السابق. تخفي كل هذا العهر في دفتر مذكراتها الرخيص وخلف بعض الأعمال التطوعية.

لا توجد ألوان كافية لرسم حزن امرأة متزوجة ترمي بجسدها من رجل لآخر. تطلب منهم العنف والصمت. تتحرك فوقهم دون خوف وتتأوه في اللا معنى. تقابلهم تارة في فندق 5 نجوم وتارة تفعلها في السيارة. أمام سوبر ماركت محلي أو مطعم فاست فود أمريكي، شيء من هذا القبيل. يا له من أمر رائع أن يجد الرجل امرأة حزينة لا رغبة لها إلا بالحركة فوقه دون كلام. رغبتها تتمثل في الهرب من كامل نفسها ومن غيرها في آن. هل هناك ما هو أقرب للموت من الاحتكاك الميكانيكي بلا شعور بما هو محسوس في فضاء عام؟

تخرج ثمّ تعود لمنزلها. تلقي بجسدها على السرير، تتكور، خاوية المشاعر كرطل من الجزر، ممتلئة الأفكار. تنهض. تهرع لدفتر مذكراتها وتسجل: “كان كبيراً بين يدي، طعمه كاللوز. الجراثيم لا تخيفيني، استشعرته بأسناني وكينونتي. كنت قلقة وأنا أعانقه. ذراعاه طوقا صدري كالأغصان الناعمة، أطراف أصابعه تناسب فخذي المتشنج. باردة لكن دافئة. خشنة لكن رقيقة. الأهم من كل هذا أنه لم يسألني عن عمري وسبب حزني”. ثم أضافت بتعب: “إن أصدق اللحظات حميمية نعيشها مع الغرباء، بلا إدراك أو رعب، بعيداً عن أي طقس إلزامي أو حس بديهي، كطفل لا يدري أنه طفل، معبود بداخل إله”.

تغلق دفترها. تحضنه. تتجه للحمام. تملأ البانيو. تتجرد من ثيابها مجدداً. فستانها الملطخ بالعرق، تلقيه على الأرض كنرد. تنزع ملابسها الداخلية. تقف لبرهة أمام المرآة. تحدق في بطنها، تمسحه بيدها، لا يزال لزجاً. تقفز إلى الماء. تفك مشبك شعرها. تسترخي. تتحسس ثغرها وشعر عانتها. ترتاب من سعادتها. تسترجع ما حدث ببطء: “أعداد كثيرة من القبل. خلاف طفيف على مَنْ يعتلي مَنْ. إفراطه في عض الحلمة. لون بشرته ساحرة. لست متأكدة من حبي لبنيته الجسدية ككل”. تضحك بينها وبين نفسها. تغطس. ترجع إلى السطح. تذعن للتفاصيل مجدداً: “صوته أكاديمي. ساعته تليق بمعصم يده. جيناته قوية. مؤخرته جميلة كحارس مرمى إيطالي. يجيد تحريك لسانه. يحب الخنق. بارع في بالبذاءات السوقية. سيارته نظيفة وواسعة. رائحته غريبة بعض الشيء، كأنها جريدة. قادر على حملي وتحريكي بدقة وأريحية. مواعيده لا غبار عليها. يجب أن أعود إليه”.

تلتقط هاتفها على عجل وتكتب: “هاي، المسيح لن يأتي غداً. زوجي خارج المدينة، وولدي في كندا، وأنا حرفيا وحيدة ومبللة، وأنت أثرت اعجابي، هل ترغب بفعلها مجدداً؟” ترسل الكلام وتغطس مجدداً. تصلها رسالة منه مباشرة: “هاي هاي، لا أدري، أنا الآن مع امرأة غيرك، لكنها عذراء!” ترد عليه: “ما أحقرك! اتركها وتعال. البنت العذراء أحاسيسها مفرطة. مغرية لكن بلا طائل. لا تضيع وقتك. أنا أنتظرك. وفّر فحولتك لي. سأرسل لك عنوان المنزل. لا تتأخر”.

كانت غير مبالية وهي تدعوه إلى منزلها. لم تحاول أن تخفي شبقها. لأول مرة، زال التضارب بين عقلها وقلبها وجسدها تماماً. كسرت ما هو مقدس. اغتالت بداخلها الحياء بخشونة ونجاح. شجعها على ذلك الاستلقاء في البانيو. البانيو مكان فعال لقتل الفضيلة والألغاز والقيم. لا يمكن أن يختار المرء صوته. يمكنه فقط أن يختار خطاياه.

 

” أنا بالخارج، افتحي الباب” تهرول نحو الخارج مرتديه قطعة خفيفة من الثياب. تستقبله على الباب. تسحبه من ياقته إلى الداخل. تبدأ بتقبيله بشكل مألوف. كأنها تعرفه منذ طفولتها. تجلس معه في الحديقة. تلمح على رقبته خدوش حديثة العهد. تسأله بعبط عن مصدرها. يجيب متندراً: “كنت أحاول خنق نفسي” يضحكان. “حديقتكم جميلة، زوجك فلاح أم مهندس معماري؟” تمسك يده بلهفة وتسحبه إلى الداخل.

” لماذا أنتِ مستعجلة؟” يسألها بأدب. “لأني لست سلحفاة، أنا مخنوقة وأنت تعويض كاف لنقص الهواء” تقول له وهي تمضي به نحو الغرفة.

 لا شك أن حياة المسؤولية تزيد من كبت المرء. ترغمه على ارتكاب الأخطاء التي يعرفها جيداً مراراً وتكراراً. يخفي الإنسان طبيعته الحقيقية عن شريك حياته دون أن يلاحظ ذلك. نصاب بالإفلاس عندما نتزوج. إفلاس مادي ومعنوي وأخلاقي. الغموض والشفافية سيان. نقوم بفعل اللازم. ننجب، نربي، نموت. أعرف أن هذا اختصار عبثي لكني مقتنع به.

تستلقي معه على السرير. يلمح دفتر مذكراتها. يتجه نحوه. يفتحه ويبدأ بالقراءة دون استئذان. لم تحاول منعه. تركته يفعل ما يحلو له. إنه في الأخير، رجل عابر في ليلة ماطرة. يبدأ بتصفحه بينما هي مهتاجة وشبه عارية. احترمت فضوله. لو كانت مكانه لفعلت الأمر نفسه. خافت من أن يعطيها محاضرة على طريقة أوبرا وينفري عن عدم أهمية حجم العضو الذكري بالنسبة للمرأة.

بعد مرور ربع ساعة، نفد صبرها. نادت عليه بصوت أنثوي دافئ: “تعال، ضاجعني”. نظر إليها بمزيج من اللهفة والتقزز والعطف والقسوة. أعاد الدفتر لمكانه. خلع ملابسه وبدأ بالعمل.

بعد أن أوصلها إلى حيث تريد، نهض من على السرير وجلس على الكرسي. كانت لا تزال غارقة في اللذة. مذبوحة. مستلقية كثلج في ضواحي مدينة أوروبية تحتفل بموسم أعياد الميلاد لأول مرة. تعض شفتيها وتمرر يدها على نهدها بخبث وانسجام. هو ينظر إليها بصمت، مذعناً لما يحدث. يتأملها بشرود سائق تاكسي في نيويورك. إنه صمت خاص بهما.

“ما الذي يجذبك إليّ؟” يكسر سؤاله المشهد. تنظر إليه ببراءة مصطنعة ثم تجيب باستعلاء: “عرض عانتك وقدرتك على الصمت وساعة يدك وربما قدرتك على جذب العذراوات وشعور تقليدي بأنك قادر على ابعاد الأذى عني” بعد هبوط تلك الكلمات على مسمعه، أشعل سيجارة.

يحب الرجل الاستماع إلى المدائح الموجهة لعضوه التناسلي بشكل مباشر أكثر من أي شيء آخر. يتوهج كماسة. يكفي أن تنظر المرأة لسحاب بنطاله بشيء من الإعجاب. يمكنها بعد ذلك أن تسلب منه ما تريد: أحذيته، ماله، غروره، سائله المنوي، حضانة أطفاله، مفاتيح سيارته، كرسي الحكم…إلخ. كانت تعرف ذلك، وهو كذلك. عندما يلتقي شخصان يعرفان كيف تسير اللعبة، يصبح الأمر أكثر تشويقاً وإثارة. يسود العدل ولو لوهلة. تتحرر من عبء الأقنعة وتذكر الخطوات القادمة. يتحطم الروتين. يتخفف الضمير. يقل الصخب. الإنسان يتألم بشكل أقل عندما يتخلى عن حاجته للكذب وترك انطباع إيجابي أولي عند الآخر.

“صحيح أني بارع، لكنك تبالغين كثيراً. أنتِ متهورة. تبتلعين في غمرة الحاضر عواقب أفعالك. هل يستحق ما نفعله كل هذا؟” تجيبه بقرف: “يا الله! تفكيرك أنثوي جدا، ليتك بلعت كلماتك”. ثم تكمل: “على المرء أن يذهب بجنونه إلى آخر نقطة. عليه أن يدفع الثمن. نحن في حفلة. لعبة. أنت تلعب وأنا ألعب. يوما ما سيسود الظلام حياتنا. أحيانا، عليك أن تسترخي قليلاً وترسل ضميرك إلى الفضاء. لا شيء يستحق”. يكتفي بالتدخين. ينظر إليها بيأس، ينهض من على الكرسي، يتمدد بجوارها، ينتصب قضيبه رغما عنه.

تصرخ بحماسة: “أرأيت؟! إن قطعة اللحم هذه تفهم أكثر منك. تفهم أن الحياة عبارة عن برقية عاجلة. عليك أن تتحرر من مثاليتك وانتهاز الفرص. سأساعدك على فعل ذلك إذا أردت”. قد يندهش المرء من قدرته الخاصة على التفلسف وهو على السرير بلا قطعة قماش تستره. وهذا ليس كل شيء. المدهش أن النزوات تبعث على السرور. يضيع الألم عندما نفقد عقولنا. المجانين أكثر الأشخاص حرية. إنهم يجهلون كل هذا.

” اسمعي، الانتصاب ليس مقياساً لشيء. إنه مجرد تفاعل بيولوجي بحت. اعتبريه مجاملة. قبول مبدئي لدعوة عشاء. يبدو أن كل طموحاتك هي التجريب ثم تسجيل بعض التفاصيل السادية بدفتر مذكراتك. لو كنت مكانك لطلبت المساعدة.”

“ما بك؟ فجأة تحولت من وغد سافل لواعظ؟ أنت أجمل عندما تصمت” قالت له ضجرة.

“عندك حق. ربما علينا فعلها مرة أخيرة ثم بعد ذلك نختفي من حياة بعضنا البعض”.

 

*****

خاص بأوكسجين