في المرة الأخيرة التي التقيتُ بها أخبرتني عن أكبر مخاوفها! حزنت في سرّي ظنّاً منّي أن ما تخشاه هو النهاية. ما الذي يخيف من تجاوز عتبة التسعين من عمره سوى موت يتربّص به! ضَحِكت بهستيرية ثم مالت وهمست لي بسرّها.. كانت تخشى نسيان مخزونها القصصي الضخم المكدّس في صناديق ذاكرتها!
كنّا عائلةً صموتة، تستنفد الأحاديث الطويلة طاقتها، نجيد الإجابات المقتضبة و الاستماع بأكثر ما نتكلم. أما جدّتي لأمّي فكانت حكايةً أخرى. لم ترسل جيناتها إلى أيٍّ من بناتها وبالتالي إلينا نحن الأحفاد. لطالما كنّا جمهوراً بائساً بالنسبة إليها، كائناتٍ هزيلة أمام ربّة الشعر المخضّب بالحناء الممتلئةِ حياةً وفتوة.
في جلستها الأثيرية تلك التي تنتقي بها أفضل الأماكن وأوثرها وأكثرها عرضةً للنور لتفرش بعدها رحالها المكوّن من سبحتها الطويلة، مناديلها القماشية الكثيرة، عكّازها الخشبي، والراديو المتعدّد الاستعمالات.
تمسح وجهها بأحد المناديل، وتفرك عينيها بآخر، وتتمخط بثالث. تسألني عن الوقت، أجيبها بسرعة درءاً لاحتمالِ خوضِ حديثٍ مطوّل. تستشعر ذلك لكن لا يعنيها الأمر إطلاقاً، تعيد الكرّة مجدّداً: هل أنتِ مشغولة؟ أجيبها بحزم: قليلاً. تستدرك بسرعة: حسناً إذاً سأروي لك سريعاً هذه القصة. تضحك بنشوة ثم تقصّ لي بهدوءٍ وتأنٍّ للمرة الألف حكايتها عن كيف أمسكت “جقلة” حاولت أن تخطف إحدى دجاجتها وكيف ركضت خلفها منتزعةً الدجاجة من فمها.
بالطبع الحكاية ليست بهذا الاختصار الذي أوجزته. الحكاية هي حكاية، هي مقدّمة وخاتمة وأحداث تدور بين الضفتين وحبكة وحكمة هنا وطرفة هناك. والحكاية المكتوبة ليست نفسها تلك المحكية، فالأخيرة سرّها يكمن في فنِّ روايتها، الأمر الذي تبرع به جدّتي. النغمة الهادئة المتصاعدة مع تصاعد الحدث، التوقّف قبل الذروة، حسّ التشويق، انتقاء الكلمات والتلاعب بالألفاظ والأصوات، حركات الجسد، تعابير الوجه، والتماع عينين تكاد تظنّ أنهما يختبران الأمر مجدداً.. انتزاع دجاجة من فمّ “جقلة”.
هل كانت تعاني ضعفاً في البصر أو السمع؟ لا ندري يقيناً. لكنّها رأت وسمعت –حين أرادت هيّ ذلك- ما عجز سمعي وبصري عن إدراكه. أمّا أولئك الأشخاص الذين تكرههم فقد تنظر مطولاً في وجوههم كأنها تنظر إلى العدم، يمتص نظرها ثقبٌ أسود، ويغور سمعها في الرمل. أصيح بصوتٍ أقرب للصراخ: جدّتي إنها أم أحمد! هذه أم أحمد.. تمسك رأسها بيديها وتغمضُ عينيها مغمغمة: صداع .. صداع. تلملم حاجياتها وتبتعد مسرعةً ما أمكن لعكازها الخشبي.
ربّة الشعر المخضّب بالحنّاء، الممتلئة حياةً وفتوة، تذرع خصل شعرها الأحمر بمشط أسنانها مراتٍ في اليوم ثم تودعه جيب جلبابها الطويل، تمضغ الثوم بتؤدة غير عابئةٍ بالرائحة النافذة، طمعاً في خواصه الوقائية. تمرّن أذرعها النحيلة الواهنة بحركاتٍ رياضية مدروسة، وتقطع شرفتنا مراتٍ عدة في الصباح، لتنتقي بقعة مشمسة تتمدّد بها مقلّبةً سبحتها الطويلة. مئات المرات دون كلل أو ملل.
لم يعرف النوم سبيلاً لها في السنوات الأخيرة، كانت تسهر في سريرها طويلاً تتنقّل بين الإذاعات. تطلب من أخي أن يضبط لها تحديداً مونت كارلو و البي بي سي. وحتى ساعات الصباح الأولى، يدوي صوت الضجيج المشوّش لمذياعها في أنحاء المنزل. تعلّق على الأخبار، تشتم الأعداء وترفع صوتها بالدعاء للوطن..
في ليالٍ كثيرة كانت تبكي وتتمتم أدعية وأذكار.. تتلو آيات وتسأل: متى؟ سؤال يدوي دون إجابة. تبحث عن أغنياتها المفضّلة لتعود إلى أيام الصبا: رقّة حسنك وسمارك. تنتشي طرباً وتردّد بصوت عذب.. عذب للغاية
بأوتاري ياما ياما غنيتك.. وسمعك من وحي الله
كان لها رحلة الصيف والشتاء تتنقّل فيها بين منزلي ابنتيها: أمّي وخالتي. حين زار زوجي منزل عائلتي للمرة الأولى كانت تقطن بيننا. تزيّنت وتعطّرت، واستقبلته بابتسامةٍ خاليةٍ من الأسنان.. وغنت له وسط دهشتنا جميعاً أغنيةً مرتجلة! أغمضت عيناها وغنّت بصوت عذب موالاً ما لا أدري إن كانت قد ألّفته في ليالي سهرها الطويل.. ثم جلست قربه لتروي له نبذة مقتضبة عن حياتها وتطرز بضحكتها المجلجلة ذلك اليوم..
يا لله.. ربّة الشعر المحنّى بالأحمر كانت جميلة كإحدى عجائز روايات ماركيز، كان يجب أن تولد في أمريكا اللاتينية، كان يجب أن تنجب أطفالاً كثر يرثون طاقتها وفرحها، كان حرّي بسيناريو حياتها أن يتضمّن جمهوراً عريضاً، يتقن الاستماع والتفاعل.
قبل حلول السنة الجديدة، شعرت بالضجر الشديد فقررت بدون مقدّمات طويلة أن ترحل..
هكذا ذوت خلال أيام ثم غطت في سبات لا استيقاظ بعده لتطوي سبعة وتسعين عاماً،
وتتركني أبكي تفاصيل حكايات لم أتقن سماعها يوماً.
*****
خاص بأوكسجين