وقعت جريمة قتل الناشطة السلمية الأميركية راشيل كوري في 16 مارس/آذار 2003، في شمال قطاع غزة أثناء الانتفاضة الثانية. تم سحلها بواسطة جرافة يقودها سائق إسرائيلي، أميركية الصنع “كاتربيلر دي 9” بينما كانت تحاول منع تهديم بيت فلسطيني. في ساعة قتلها كانت ترتدي سترة برتقالية فسفورية، كما أنها خاطبت السائق عبر مكبر الصوت ونظرت إليه عيناً بعين. لم يكتف السائق بدهسها فقط، بل عاد إلى الخلف بينما شفرة الجرافة كانت إلى الأسفل. كان هناك سبعة شهود إضافة إلى صور لهذه الجريمة.
ترجمتُ رسائل راشيل كوري عام 2005، عن مجلة “مانثلي ريفيو” اليسارية، وبنشرها في هذا العدد، فإنها ستضيئ على شيء مؤلم متمثل بأن شيئاً لم يتغير من ذلك الزمن سوى حقيقة قتلها عن سبق إصرار وتعمّد، وأن أمها سندي لم تنجح بانتزاع ما يفيد أنها قتلت من الإسرائليين، وقد انتهت جهود العائلة القانونية في إسرائيل عام 2015 “عندما أيدت المحكمة العليا الإسرائيلية قرار المحكمة المركزية الأدنى في حيفا ولم تجد أي خطأ في تصرفات الجيش”. وكانت كوري قد استشهدت ولم تتجاوز الرابعة والعشرين من عمرها، هي المتخرجة من “كابيتل هاي سكول” في أولمبيا، والتي كانت قلب “حركة أولمبيا للعدالة والسلام”. درست الاقتصاد السياسي وشؤون الشرق الأوسط في “ايفر غرين” وتوجهت إلى غزة عام 2003 كجزء من الدرع البشري لحركة التضامن العالمية، وهي حركة فلسطينية تعنى بالتعريف بحق الفلسطينيين بالأراضي المحتلة والدفاع عن حقوقهم، لكن مع الالتزام بالوسائل السلمية، ودعم الحقوق الفلسطينية والمطالبة بتدخل دولي “لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وبناء وطن فلسطيني حقيقي”.
تشكل رسائل راشيل كوري لوالديها رصد شاهدة عيان لوحشية الاحتلال. وتؤسس محضر اتهام لمعاملة إسرائيل والولايات المتحدة للشعب الفلسطيني. وعليه، فإن هذه الرسائل، عدا أن أهميتها التاريخية، وأهمية صاحبتها التي ضحت بحياتها في سبيل فلسطين والفلسطينين، فهي أيضاً وثيقة إنسانية ، وقد أمست أيضاً، بعد مرور كل هذا الزمن، كشافاً لعسف متفاقم، ووحشية متأصلة لا تعرف إلا أن تتزايد وتتوسع، بما يدفع للتساؤل، ما الذي ستصير إليه كوري لو أنها تعايش الحاصل الآن في غزة؟!
*زياد
الرسائل:
.
7 فبراير/شباط 2003
أبي، أمي، الأصدقاء، والآخرون.
مر أسبوعان وساعة واحدة على وجودي هنا في فلسطين، وما زال لدي القليل من الكلمات لوصف ما رأيت. من الصعب جداً بالنسبة لي أن أفكر بما يجري هنا بينما أكتب إلى الولايات المتحدة. شيء من مدخل افتراضي نحو الرفاهية. لا أعرف إن كان هناك أطفال يعيشون دون فتحات أحدثتها قذائف الدبابات أو دون أبراج يترصدهم منها جيش الاحتلال من آفاق قريبة. أعتقد، وإن لم أكن متأكدة من ذلك تماماً، بأن أصغر الأطفال يعرف بأن الحياة لا تشبه ذلك في كل مكان. قبل أن آتي إلى هنا بيومين قتلت دبابة إسرائيلية طفلاً في التاسعة من عمره، والكثير من الأطفال كانوا يتمتمون اسمه على مسمعي – علي – أو يشيرون إلى ملصقاته على الجدران. الأطفال يحبون أيضاً اختبار عربيتي المحدودة بسؤالهم لي، “كيفو شارون؟”* “كيفو بوش؟*” ليضحكوا حين أقول بعربيتي المحدودة، “بوش مجنون*،” “شارون مجنون*”. طبعاً ليس هذا رأيي الدقيق، ليصحح لي بعض البالغين العارفين للإنكليزية: “بوش مش مجنون*” – بوش رجل أعمال. تعلمت اليوم أن أقول “بوش أداة”. لا أعتقد أنها ترجمت على نحو صحيح تماماً. لكن على أية\ حال، فإن طفلاً في التاسعة من عمره هنا يلم بأفعال القوة الكونية أكثر مما كنت منذ ثلاث سنوات.
وهكذا فإنه لا القراءة، ولا المؤتمرات ولامشاهدة البرامج الوثائقية ولا الخطابات هيأتني لحقيقة الوضع هنا. لن تستطيع تخيله ما لم تره – مع إدراك تام بأن ما تعايشه ليس بالواقع كاملاً: ما هي المصاعب التي سيواجهها الجيش الإسرائيلي إن أطلق النار على مواطن أمريكي أعزل، وهذا مع حقيقة بأن لدي المال لشراء الماء حين يقوم الجيش الإسرائيلي بردم الآبار، والحقيقة البديهية، بامتلاكي خيار المغادرة. ما من أحد من عائلتي أطلق عليه صاروخ بينما يقود سيارته من برج يقع في نهاية الشارع الرئيسي في بلدتي. لدي وطن. مسموح لي الذهاب إلى المحيط. عندما أتوجه إلى المدرسة أو العمل فإنني أكون متأكدة من أنني لن أصادف جندياً مدججاً بالأسلحة ينتظرني منتصف المسافة بين “مد باي” ومركز مدينة “أولمبيا” ممتلكاً سلطة تقرير إن كان بمقدوري الذهاب إلى عملي، أو العودة إلى بيتي عند انتهاء دوامي. بعد كل ما تقدم من تداعيات، أنا في رفح: مدينة يسكنها 140 ألف نسمة 60% منهم تقريباً لاجئون- العديد منهم لاجئون للمرة الثانية أو الثالثة. اليوم بينما كنت أمشي على ركام بيوت كانت ماثلة هنا، نادى علي جنود مصريون من الجهة الأخرى من الحدود بأن “امضي، امضي” لأن دبابة كانت قادمة نحوي. ومن ثم لوحوا لي وسألوني “ما اسمك؟” شيء مؤرق هذا الفضول الحميم. في ذلك ما يذكرني كيف أننا أولاد نمتلك فضولاً اتجاه أولاد آخرين. أولاد مصريون يصرخون على نساء غريبات يتجولن في منطقة عبور الدبابات. أولاد فلسطينيون تفتح عليهم الدبابات النار عندما يتلصصون من الجدران لرؤية ما يحدث. أولاد دوليون يقفون بمواجهة الدبابات حاملين لافتات. أولاد اسرائيليون داخل الدبابات متخفين – أحياناً يصرخون وأحياناً أيضاً يلوحون – الكثيرون أجبروا على أن يكونوا هنا، كثيرون عدوانيون فقط – يطلقون النار على المنازل بينما نتجول بعيداً عنها.
أواجه مشكلة في معرفة أخبار العالم في الخارج، لكني سمعت بأن الحرب على العراق قد أصبحت محتمة. ثمة مخاوف كبيرة هنا من إعادة احتلال غزة. يعاد احتلال غزة كل يوم وبمحاور متعددة، ولكن الخوف هو أن تدخل الدبابات جميع الشوارع وتبقى هناك بدل أن تدخل بضعة شوارع ومن ثم تنسحب بعد ساعات أو أيام وتبقى رابضة تراقب وتطلق النار من الأطراف. إن كان الناس لا يفكرون بعواقب هذه الحرب على شعوب المنطقة فآمل أن يبدأوا بالتفكير.
محبتي للجميع. حبي لأمي. محبتي لموتش. محبتي لبرانهير وسيساميس ومدرسة لينكولن. محبتي لأولمبيا.
راشيل
_____________
* الأصل مكتوب بالعربية بحروف انكليزية.
27 فبراير/شباط 2003
(إلى أمها)
أحبك. أشتاقك. أعاني من كوابيس سيئة عن دبابات وجرافات خارج منزلنا بينما أنا وأنت في داخله. أحياناً يكون سلوك الأدرينالين مماثلاً للمخدِّر، ومن ثم في المساء أو الليل يهاجمني من جديد – هذا بعض من واقع الحال هنا. أنا خائفة بحق على الناس هنا. شاهدت البارحة أباً يقود ولديه الصغيرين ممسكاً يديهما، على مرأى الدبابات والقناصين على البرج والجرافات وسيارات “جيب” ظناً منه بأنهم نسفوا بيته. بقينا أنا وجيني في المنزل مع عدد من النساء وطفلين. كان خطأنا في الترجمة الذي أدى إلى أن يعتقد بأن بيته سينسف، بينما كان الجيش الاسرائيلي يقوم بتفجير عبوة مزروعة في الأرض – تبين أن المقاومة الفلسطينية زرعتها.
إنها المنطقة التي احتشد فيه 150 شخصاً خارج المستوطنة بينما الرشاشات موجهة إلى رؤوسهم ومحيطة بهم، والدبابات والجرافات تقوم بتدمير 25 بيتاً بلاستيكياً زراعياً – حياة 300 شخص. تمَّ التفجير أمام البيوت البلاستيكية مباشرة في نقطة عبور الدبابات التي قد تعود مجدداً. يخيفني التفكير بأن ذلك الرجل قد يكون أقل عرضةً للخطر حين يتمشى بين الدبابات مع ابنه من أن يكون داخل بيته. إني خائفة حقاً من أن يطلق النار عليهم جميعاً وأحاول أن أحول بينهم وبين الدبابة. هذا يحدث يومياً، لكن هذا الرجل الذي يمشي خارجاً هو وابنه والحزن باد عليه بشدة، حدث وحاز على انتباهي أكثر في هذه اللحظة بالتحديد، ربما لأنني شعرت بأن خطأنا بالترجمة جعله يخرج.
فكرت كثيراً بما قلته على الهاتف عن العنف الفلسطيني الذي لا يساعد أوضاعهم. ستون ألف عامل من رفح كانوا يعملون في اسرائيل منذ عامين. أما الآن فستمائة عامل فقط يمكنهم الذهاب إلى أعمالهم. الكثير من هؤلاء الستمائة انتقلوا، لأن نقاط التفتيش الثلاث بين رفح وأشكلون (أقرب مدينة إسرائيلية) تجعل من المسافة التي تقطع بأربعين دقيقة تستغرق اثنتا عشرة ساعة أو تجعلها رحلة مستحيلة. هذا عدا أن كافة المصادر التي كانت تعتبر مصدراً للنمو الاقتصادي لرفح قد تم تدميرها بالكامل عام 1999- مطار غزة الدولي (تم تدميره تدميراً كاملاً كما لو أنه أزيح من مكانه)، الحدود التجارية مع مصر (ترصد الآن معبرها الأبراج العاتية للقناصين الإسرائيليين)، المعبر إلى المحيط (تم قطعه تماماً في العامين الأخيرين بواسطة حاجز مستوطنة غوش قطيف). عدد البيوت التي هُدِّمت في رفح منذ بداية الانتفاضة وصل إلى 600 بيت، لأناس لا علاقة لهم بالمقاومة بل صادف أنهم يعيشون على الحدود. أفكر الآن بأن رفح وبشكل رسمي هو المكان الأكثر فقراً في العالم. كانوا من الطبقة الوسطى هنا – مؤخراً. كما حصلنا على تقارير تتحدث بأنه في الماضي، كانت شحنات الورد الغزاوي إلى أوروبا تتأخر لأسبوعين على معبر “إيرز” بسبب التدقيق الأمني. هل يمكنك تخيل قيمة ورود مر على تاريخ قطافها أسبوعين في الأسواق الأوروبية، وهكذا تم تجفيف هذا السوق. ومن ثم جاءت الجرافات وأزالت مزارع الخضار وحدائقهم. ماذا بقي للناس؟ أخبريني إن كان بمقدورك التفكير بشيء. أنا لا أستطيع.
لو عاش أحدهم حياتنا و أعدم الخير، حياة مع أطفال متواجدين في مكان ينكمش، حيث نعرف من جراء تجاربنا السابقة، أن الجنود والدبابات والجرافات قد تأتي في أية لحظة وتدمر كل البيوت البلاستيكية التي قمنا بزراعتها والتي استغرقت وقتاً طويلاً، وقد قمنا بذلك بينما ضُرِب بعضنا وأعتقل مع 149 شخصاً لساعات – هل كنت ستفكرين بأننا سنستعمل بعض الشيء العنف لحماية ما بقي متشظياً؟ أفكر بذلك حين أرى البساتين والبيوت البلاستيكية وأشجار الفاكهة قد دُمِّرت – استغرقت سنوات في الزراعة والعناية. أفكر بك والزمن الذي يستغرقه جعل الأشياء تنمو وكم هو عمل قائم على الحب. أفكر بجدية، بوضع مماثل، وأرى أن معظم الناس سيدافعون عن أنفسهم بأفضل الوسائل المتاحة. أفكر بعمي كيرج. أعتقد بأن جدتي كانت ستقوم بذلك. أعتقد بأني أنا سأقوم بذلك أيضاً.
تسألينني عن المقاومة السلمية.
عندما وقع ذلك التفجير بالأمس هشم كل نوافذ بيت العائلة. كنت في صدد تقديم الشاي واللعب مع الطفلتين. أعاني من أوقات عصيبة الآن. أشعر بمرض في معدتي وذلك لشغفي وتعلقي طوال الوقت، بهؤلاء الأناس الطيبين الذين يواجهون هلاكهم.
أعرف أن ذلك قد يبدو من الولايات المتحدة نوعاً من المبالغة. لكن بأمانة، كثيرة هي الأوقات التي تغطي فيها طيبة الناس البهيجة هنا على سطوع ما يتعرضون إليه من تدمير ممنهج لحيواتهم، مما يظهرها غير واقعية. حقيقة لا أستطيع تصديق أن شيئاً كهذا يحدث في العالم دون صرخة احتجاج كبيرة. إن ذلك حقاً يؤلمني، مجدداً، كما كان يؤلمني في الماضي، مشاهدة كيف أننا نترك للعالم ليكون على هذا القدر من الرعب.
شعرت بعد تحدثي معك بأنك لم تصدقيني تماماً. أعتقد بأن ذلك جيد، ذلك أني أؤمن كثيراً وفوق كل شيء بأهمية التفكير النقدي المستقل. وأني معك أقل حذراً من المعتاد في محاولتي لتوثيق مصدر كل رأي جازم أتوصل إليه.
كثيرة هي الأسباب التي تجعلني مدركة بأنك ستقومين بتحري ما أقوله بطريقتك الخاصة. لكن هذا يدفعني لأن أكون مهتمة أكثر بعملي الذي أقوم به. كافة الحالات التي حاولت سردها فيما تقدم – وغيرها من الأشياء الأخرى – تؤسس لشيء يتكون تدريجياً- وغالباً ما يوارى، لكن ورغم ذلك مهول – إنه نزع وتدمير قدرة مجموعة محددة من البشر على مواصلة الحياة. هذا ما رأيته هنا. الاغتيالات، الهجوم بالصواريخ وإطلاق النار على الأطفال بوحشية – وبتركيزي عليهم أخاف أن أفقد محيطهم. فالغالبية الساحقة من الناس هنا – حتى ولو كان لديهم الوسائل الاقتصادية الكفيلة بتنجيتهم، حتى ولو أرادو حقاً التخلي عن المقاومة على أرضهم والرحيل (مما يبدو أقل شناعة من أهداف شارون المحتملة)، فإنهم لن يستطيعوا الرحيل. ذلك أنهم لن يستطيعوا دخول اسرائيل للتقدم بطلب تأشيرة، ولأن البلدان التي سيتوجهون إليها لن تستقبلهم (بلداننا والبلاد العربية). وهذا ما يدفعني للتفكير بأنه عندما تتقطع كل سبل مواصلة الحياة بجرة قلم (غزة) حيث الناس لا يستطيعون الخروج منها فإنها تندرج في خانة الإبادة. ربما ستتعاملين مع تعريف المجزرة وفقاً للقانون الدولي، والذي لا أتذكره جيداً الآن. آمل أن أتمكن من توضيح ذلك بطريقة أفضل. لا أحب أن أستعمل كلمات الاتهام. أعتقد بأنك تعرفين ذلك عني. حقيقة أقدِّر الكلمات.
أحاول بحق التوضيح وأترك للناس استخراج أحكامهم بأنفسهم.
على أي حال، ها أنا أهيم على وجهي، وكل ما أريده هو الكتابة لأمي وإخبارها بأني أشهد إبادة غادرة متواصلة وأنا حقاً خائفة، مخضعة اعتقادي الأساسي بالطبيعة الخيرة للإنسانية للتساؤل. على ذلك أن يتوقف. وأعتقد بأنه من الجيد لنا جميعاً أن نترك كل شيء ونكرس حياتنا لإيقاف ذلك. أظن بأنه لم يعد من شيء متطرف أبداً. ما زلت أرغب بالرقص قرب “بات بنتار” وأن يكون لدي حبيب وأن أتبادل النكات مع أصدقائي في العمل. لكنني أيضاً أرغب بأن يتوقف هذا الرعب والجحود. إنها خيبة الأمل. أنا محبطة… إنها الحقيقة الرئيسة لعالمنا وهذه هي الممارسة الحقيقية الوحيدة، وإننا جميعاً نمارس ذلك. ليس هذا ما طلبته عندما جئت إلى هذا العالم. ليس هذا أبداً ما يطلبه الناس عندما يأتون إلى هذا العالم. إنه ليس العالم الذي أردته أنت ووالدي لآتي إليه عندما قررتما مولدي. وليس هذا ما أعنيه بقولي بمواجهة بحيرة كابيتول “هذا هو العالم الفسيح وها أنا قادمة إليك.” لم أقصد أن آتي العالم لأحيا حياة مريحة مع إمكانية انعدام أي جهد أبذله، مع الغياب التام للوعي بمساهمتي بهذه الإبادة. وقعت عدة انفجارات كبيرة على مسافة بعيدة في الخارج.
عندما أعود من فلسطين، ستلازمني الكوابيس وسينتابني شعور دائم بالذنب، كما إنني لن أتخلص من ذلك من خلال العمل. قدومي إلى هنا هو واحد من أفضل الأشياء التي قمت بها. وهكذا إن اعتبرت مجنونة، أو أن الجيش الاسرائيلي تخلى عن نزعته العنصرية المتمثلة في عدم إيذائه للبيض، فرجائي ألا تضعي اللوم إلا على حقيقة كوني أعيش وسط إبادة جماعية والتي أساندها بشكل غير مباشر، والتي تعتبر حكومتي مسؤولة عنها بشكل كبير.
أحبك أنت ووالدي. آسفة على الخطبة اللاذعة. أوكي، بعض الرجال الغريبي الأطوار بالقرب مني يقدمون لي بعض البازلاء، وعلي أن آكلها وأشكرهم.
راشيل
28 فبراير 2003
(إلى أمها)
شكراً ماما على ردك على ايميلي. تساعدني الكلمات التي تصلني منك، ومن الأشخاص الذي يهتمون لأمري.
بعد كتابتي إليك انقطع اتصالي بمجموعتي لمدة استمرت عشر ساعات أمضيتها بضيافة عائلة تقيم في الخط الأمامي لـ حي السلام – والذين قدموا لي عشاء – وكان لديهم تلفزيون كيبل. الغرفتان الأماميتان من منزلهم شاغرتين لأن رصاص البنادق يخترق جدرانها، وهكذا فإن العائلة بأكملها – ثلاثة أولاد والأم والأب – ينامون في غرفة نوم الأبوين. نمت على الأرض بجوار أصغر البنات، إيمان، وتشاركنا جميعاً البطانيات. ساعدت بعض الشيء الصبي بفروض اللغة الإنكليزية، وشاهدنا جميعاً “بت سيمتري” الذي كان فيلم رعب. وأظن أنهم وجدوا بما تسببه لي من اضطراب أمراً مضحكاً. العطلة يوم الجمعة، وعندما استيقظت كانوا يشاهدون “غامي بير” مدبلجاً إلى العربية. تناولت الفطور معهم وجلست لفترة مستمتعة فقط بكوني في بحيرة كبيرة من البطانيات مع عائلة تشاهد ما بدا بالنسبة لي أفلام الكرتون الخاصة بصباح السبت. بعدئذِ تمشيت قاصدة نضال ومنصور ورأفت والجدة جميع أفراد العائلة الكبيرة الذين تبنوا حياتي بصدق. (بالمناسبة، سبق وأعطتني الجدة محاضرة إيمائية بالعربية احتوت على الكثير من التنفيخ والإشارات إلى شالها الأسود. طلبت من نضال أن يخبرها بأن أمي ستقدر عالياً إن عرفت بأن أحداً ما قد أعطاني محاضرة في التدخين وكيف يجعل الرئة سوداء). قابلت أخت زوجها، التي تقوم بزيارتهم قادمة من مخيم نصيرات، ولاعبت طفلها الصغير.
في كل يوم إنكليزية نضال تتحسن. إنه هو من يناديني، “أختي”. وقد بدأ بتعليم الجدة كيف تقول، “هالو. كيف الحال؟” بالإنكليزية. يمكنكي على الدوام سماع الدبابات و”البلدوزرات” تمر، لكن سعادة هؤلاء الناس ببعضهم البعض ومعي متأصلة، فعندما أكون مع أصدقاء فلسطينيين أحاول أن أكون أقل هلعاً مما أكونه أثناء ممارستي لدور مراقبة لحقوق الإنسان، أو عند التصوير الوثائقي، أو أثناء العمل المقاوم المباشر. إنهم مثال جيد عن القدرة على التحمل. أعلم أن الوضع متعلق بهم – وأنه قد ينال منهم تماما – وعلى كافة المستويات، لكنني مع ذلك مأخوذة بقوتهم على أن يكونوا مدافعين عن درجة كبيرة من انسانيتهم – الضحك، الكرم، الأوقات العائلية – ضد الهلع الخيالي الحاصل في حيواتهم، وضد التواجد المتواصل للموت. أشعر بتحسن هذا الصباح. أمضيت وقتا طويلا في الكتابة عن الخيبة التي استشعرها مع اكتشافي وبشكل رئيسي مدى الشر الذي بمقدورنا القيام به. وعلي في الوقت نفسه أن أذكر أني اكتشفت أيضا مدى قوة البشر وقدرتهم الأساسية على أن يبقوا بشراً تحت رحمة ظروف حالكة – والتي أيضا لم أرها من قبل. أظن أن الكلمة المناسبة هي الكرامة. أتمنى أن تلتقي هؤلاء الناس. ربما، وعلى الأمل بأن يحدث هذا في يوم ما.
راشيل
12 مارس/آذار 2003
هاي بابا، شكرا على” ايميلك”. أشعر أحيانا أنني أقضي كل وقتي في تشارك أفكاري مع أمي، مفترضة أن ستشاركك إياها، لكن يبدو أنها تتجاهلك. لا تقلق عليّ كثيراً، لان ما يقلقني الآن كوننا غير فعالين. ما زلت لا أشعر بأني في خطر. رفح تبدو مؤخرا أكثر هدوء، ربما لأن الجيش مشغول بهجمات وقعت في الشمال – ما زال هناك إطلاق نار وتهديم بيوت – سمعت عن حادثة وفاة واحدة أثناء الأسبوع، لكن الهجمات أقل. ما زلت لاأعرف كيف لهذا أن يتغير إذا ما وقعت حرب العراق.
شكراً أيضاً على رفع وتيرة عملك ضد الحرب. أعرف أن ذلك ليس بالسهل، وربما أكثر صعوبة عندك مما هو عليه هنا. أنا مهتمة حقاً بالتحدث مع الصحفية في جريدة “شارلوت” – أخبرني بما عليّ القيام به لتسريع الأمر.
أحاول تحديد ما الذي سأقوم به لدى رحيلي من هنا، وموعد ذلك. أعتقد حتى الآن بأني سأبقى لغاية يونيو، هذا على الصعيد الواقعي. لا أرغب أبداً بالعودة إلى أولمبيا، لكن هل علي توضيب أغراض “الكراج” والتحدث مع الناس عن تجربتي هنا. ومن ناحية أخرى، وبما أنني عبرت المحيط فإن لدي رغبة قوية بأن أبقى عبر المحيط لبعض الوقت. سأحاول أن أعمل في تعليم الانكليزية – لكن ما أريده حقا هو تعلم العربية. كما أن لدي دعوة لزيارة السويد في طريق عودتي، والتي كما أعتقد لن تكون مكلفة. أريد أن أغادر هنا بتخطيط منظم يمكنني من العودة أيضاً.
البارحة كان على أحد أعضاء مجموعتنا الرئيسين الرحيل. ومراقبتي لها تقول وداعاً جعلني أدرك صعوبة القيام بذلك. لا يستطيع الناس هنا المغادرة، مما يزيد الأمر تعقيداً. كما أنهم مدركين بقوة لحقيقة أنهم لا يعرفون إن كانوا سيعودون أحياء إلى هنا. لا أريد حقا أن أعيش بشعور كبير بالذنب اتجاه هذا المكان- كوني أستطيع الذهاب والعودة بمنتهى السهولة – وأستطيع ألا أعود ابداً. سيكون ضرورياً تحديد التزمات بالأمكنة التي أخطط للعودة إليها خلال سنة أو ما يقاربها. من بين كل تلك الاحتمالات أعتقد بأنني سأذهب إلى السويد لبضعة أسابيع في طريق العودة – أستطيع تغيير التذكرة من باريس إلى السويد والعودة مقابل 150 دولاراً. أعرف أن علي زيارة العائلة في فرنسا لكنني لن أقوم بذلك. سأكون غاضبة بعض الشيء وليس لطيفاً أن أكون معهم. وسيبدو الأمر انتقالاً إلى رفاهية مفرطة. سأشعر بالذنب الطبقي طوال الوقت أيضاً.
أعلمني إن كان لديك أفكار عما علي القيام به في حياتي. أحبك كثيراً. إن أردت فاكتب إلي كما لو أني أمضي عطلتي في مخيم يقع في هاواي أتعلم فيه الحياكة. شيء واحد يسهل الأمور هنا وهو التعامل مع خيالية الوضع هنا كما لو أني في فيلم هوليوودي أو فيلم من بطولة مايكل فوكس. لذا شاركني أفكاري بحرية وسيسعدني تظاهري بأنني موافقة.
محبتي الكبيرة
راشيل
*****
خاص بأوكسجين