خمورجي يروي التاريخ جهرًا
العدد 201 | 24 تشرين الأول 2016
محمود عبد الدايم


في الخلفية صوت المذيعة يعتذر عن تراجع الاهتمام بتغطية أخبار المعارك العسكرية التي تديرها القوات المسلحة ضد الإرهابين.. صوتها كاذب.. لم يأتِ بجديد.. باختصار لم يحدث تغييرا في موقفي من الأمر.. ورغم هذا تابعت فقرتها بنصف عين وببقية نظري تابعتها تتجول في المكان.. 3 دورات كاملة دارتها.. أمسكت بانفعال مصطنع هاتفها المحمول لم تضعه على أذنيها.. زفرت بإتقان عندما لم يأتها رد من الجانب الآخر.. أو هكذا خيل لي الأمر…!

على الطاولة المقابلة كان هناك من يتابع الأمر مثلي.. لكنه- وللصراحة كان أكثر جراءة.. منحها في دورتها الأولى نظرة متأنية وفي الثانية تمتم بكلمات معدودة، منحته- على إثرها- ابتسامة مطمئنة.. وعندما لم يجب أحد على هاتفها، فى الدورة الثالثة قبلت دعوته للجلوس على طاولته، في انتظار لن يأتي.

“الوضع هناك متأزم جدًا… حالة الاستعداد وصلت إلى الدرجة القصوى.. البلد محتاجة نقف جنبها.”

التقطت الجملة الأخيرة في الفقرة، قبل أن تعلن المذيعة الخروج إلى فاصل إعلاني، وتطالبنا بانتظار فقرة ساخنة حيث تظهر على الشاشة، ولأول مرة- هكذا أكدت لنا- الممثلة المتهمة بإدارة شبكة دعارة، بعد حصولها على حكم درجة أولى بالبراءة.

دائما.. لا تستهويني الفقرات الإعلانية.. عُدتُ من جديد إلى فتاة الطاولة المجاروة.. وجدتها وقد أمسكت سيجارتها بأنوثة كاملة.. ضغطت عليها قليلا.. متوترة كانت، ثوانٍ معدودات، وغطت سحابة الدخان وجهها، أرادت أن تختفي عن الأنظار، تركت هاتفها بإهمال على الطاولة، وأشارت لأذنها، فهم رجل الطاولة إشارتها.. فقال:

يا إخوانا .. صوت التليفزيون .. عااااااالي.

ضغط على حروف كلماته، أراد أن يثبت رجولته أمامها، لم يتغير المشهد كثيرا، ألقت سيجارتها في المنفضة الخشبية.. أعادت ظهرها قليلا إلى الوراء، تابع رجلها الجديد تراجعها المثير.. وبدوري تابعت نظراته إلى صدرها.. يشتهيها.. هذا كل ما في الأمر..!

سمراء بدرجة كبيرة كانت.. لا تمتلك من الجمال إلا ما يؤهلها للجلوس هنا، تدرك هي امكانياتها، ويدرك هو أنها تدرك هذا، مال قليلا عليها، همس في أذنها، تعمد أن يرتفع صوته.. أخبرها أن شفتيها أجمل من دون الروج “الأحمر الفاقع”.. أعجبني ذوقه.. كان لونهما منفر.. استأذنت بعد ملاحظته تلك، تركت حقيبتها مكانها وأمسكت بهاتفها واتجهت إلى الحمام.

عشر دقائق كاملة استغرقتها في الغياب.. الفقرة الإعلانية انتهت.. المذيعة أعادت الجمل التى سبق وأن ألقتها على مسامعنا قبل الفاصل.. الكادر يقترب كثيرا من وجه النجمة العائدة إلى الشاشة بعد قضاء سبعة أيام في “التخشبية”.. لم تتغير كثيرا، ربما كمية “الميك أب” التي كانت تستخدمها هي التي تغيرت فقط.. كانت قليلة مقارنة بما كانت تظهر به في أفلامها السينمائية التى تظهر فيها دائما في دور “العاهرة”..!

عادت إلى الطاولة.. هاتفها المحمول برز من جيب بنطلونها الخلفي.. لاحظت وضعه عندما قررت إعطائي ظهرها لمواجهة رجلها.. من نوعية رخيصة كان.. رناته الرتيبة المزعجة أكدت الأمر.. تجاهلت ثلاثة اتصالات، وفي الرابع ضغطت- بِكُرْهٍ- على زر “رفض المكالمة”… مكانها الجديد أتاح لرجل الطاولة مواجهتها .. لكنه حرمه من ملامسة أقدامها، مثلما كان يفعل في الدقائق التي سبقت الفقرة الإعلانية.

شرخ بارز في منتصف حذائها خطفني من متابعة دموع “النجمة” على الشاشة.. لم ألتقط من بين كلماتها الباكية سوى كلمة “والله العظيم.. بريئة”.. ليواجهني وقتها حذاء السمراء التي أعطتني ظهرها.. اهتزازات قدميها المتتالية السريعة كشفت لي مساحة “القطع” كاملة، ويبدو أن الهواء تسرب إلى باطن قدمها لأنها فقزت سريعا من فوق مقعدها،  ألقت نظرة خاطفة على طاولتي.. وضبطتني متلبسا بمتابعة مسار “شرخها “.

عقدت حاجبيها .. التقت أعيننا.. شتمتنى بنظرة.. فرددت لها الشتيمة ألف.. تأففت من تحدي النظرات، فعادت سيرتها الأولى لمواجهة “رجل الطاولة”.

عُدْتُ إلى متابعة حديث النجمة العائدة من جديد. وجدتها تحولت إلى خبيرة سياسية.. الماكرة  أدخلت “السياسة والدعارة” في جملة مفيدة.. تحدثت عن الذين لا يريدون صعود نجمها في السماء، كشفت “أوردرات الخليج “والفنانات اللاتي تحملهن طائرة أمراء النفط.. لكن.. عندما أعلنت المذيعة دخول شخصية فنية بارزة على الخط، انتابتها نوبة بكاء شديدة، دفعت المخرج لأن يعطى أمرا  بـ”فاصل إعلاني مفاجئ”.

الفاصل المباغت أعادني لحدود طاولتي من جديد.. قضيت- حتى الآن- على ثلاث زجاجات، وما تزال رأسي بين أكتافي.. لا أشعر بالخدر يتسرب إلى قدمي.. مازلت أعرف أين يدي اليمنى.. واليسرى لا تزال قادرة على حمل السيجارة ونفضها .. أما لساني فصامت.. كما عهدته طوال ساعات النهار المملة الطويلة.

اقتربت السمراء من رجل الطاولة أكثر.. لمحت يده تتسرب على فخذها.. لا إراديا نقلت راداري إلى شفتيها.. لمحتها تعض الشفة السفلى بألم.. لايبدو أنها من النوع الذي يستلذ بالتحرش.. لكنها لم تبعد يده العابثة، بعدما أدركتْ أن “خيطه الجنسي” لن يمتد لما هو أبعد من تلك المنطقة.. أشارت إلى العامل.. طلبت زجاجة “ويسكى”.. يبدو أن خبرتها في تلك المنطقة ضحلة، كأنوثتها.. طلبت نوعًا شعبيًا.. طريقة وضعها الثلج في الكأس استفزتنى وفضحتها.. في العادة، أحب “الويسكي” بدون إضافات.. هكذا يكون أجمل وأكثر مرارة..!

في الدقائق التالية انشغلتُ بطريقة تعاملها مع الزجاجة الشعبية… قضتْ عليها في أقل من ثلاثين دقيقة.. تابعتُ التغييرات التي صاحبت كؤوسها المتتالية.. داعبتْ- بدورها- فخذ رجل الطاولة.. ثم أزاحت يدها مع الكأس الرابعة.. أشعلتْ السيجارة التاسعة وتعمدتْ أن تضع ولاعتها في كفه بعد أن تركتها مشتعلة لعدة ثوانٍ.. تألم الرجل.. تعامل مع حريقها كونه دعوة لمزيد من التحرش.. مرر كفه على ظهرها، في الكأس السادس، ضغطتْ بظهرها على يده، ليسحبها بقوة، وقد تملكه الغضب.. في السابع تأففتْ.. ارتفع صوتها قليلا، التقطت بين كلماتها أرقام تشير إلى تكلفة الليلة.. رخصية كانت.. وبخيل كان هو بدروه.. لم يوافق على المئة جنيه، فعلقتْ على الأمر بصوت من أنفها، ما كنتُ أظنها تتقنه، وأكلمتْ قائلة:

“ليه .. كلبة ولقطها م الشارع.. بلاها.. وأديك أخدت بتمن الويسكى تحسيس”.

الطاولات المجاورة التفتتْ إليهم أخيرا.. أصبح الأمر قريب الشبه بالحلقة التى تذيعها الفضائية الخاصة.. دخول رجل الطاولة مرحلة السكر، منعه من متابعة الأعين التي اغتصبت منطقة نفوذه.. فقال بصوت غاضب:

“وحياة أمك.. ده أنا ست ستك تتمناني.. شايفة دي”.

أشار إلى النجمة التي يبدو أنها كسبت جولة قطع الطريق على الشخصية البارزة التى أرادت “المداخلة” .. واستمرت في إلقاء الاتهامات على “بنت إيناس.. وابن شفيقة.. ووووو”.

أعادتني السمراء، داكنة البشرة إلى المكان من جديد.. عندما ارتفع صوتها:

“في إيه.. يبقى على مرة.. لو قِدْرِتْ تعمل حاجة”.

أمسكت بخصلات نافرة من حجابها،  هى تردد قسمها… والمذيعة على الجانب الآخر تتحرك من مكانها لتعطي ضيفتها “طبطة” على الظهر.. وتطالب فريق إعدادها بإحضار المزيد من المناديل الورقية وكوب ماء جديد، بعدما كسرت الضيفة ما كان أمامها في لحظة دفاع عن شرفها.

ثوانٍ عدة.. تابعت المذيعة تهدئ من روع النجمة المنهارة.. تطالبها بالصبر.. وانتظار كلمة العدل.. ولم تنس  في خضم المشهد الحزين أن تؤكد على أن “النجمة محتاجة وقوفنا جنبها..!”

خلال تلك الثواني لمحتُ طيف السمراء يغادر الطاولة المجاروة  مترنحا.. لعنات عدة لاحقتها من فم رجل الطاولة الذي تمكن منه الكحول.. ارتكنتْ إلى الركن المواجه لدورة مياه الرجال.. أفرغت معدتها.. أخرجت هاتفها من الجيب الخلفي.. وأجابه دون تردد:

-لا.. هاتأخر النهاردة كمااااااااان.

عادتْ إلى الطاولة من جديد.. لمحتها تحاول إزالة “الروج” بكم بلوزتها .. بينما تنهي المذيعة حلقتها بدمعة، أصرت على أن تظهرها قبل أن يواجهنا تتر البرنامج الذي توقف عند اسم المعد ثلاث ثوانٍ.. وتركنا نتأمل أحرف اسم المخرج لأكثر من عشر ثوانٍ..!

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وصحافي من مصر.