هذا ما بدا عليه مجمل الأمر. دفنت السيدة فلينت عصر ذلك اليوم. كان الرجل العجوز لا يزال داخل غرفته أثناء الجنازة، وحتى بعد مغادرتهم المكان حاملين التابوت إلى ساحة الكنيسة، تاركين النائب فقط في المنزل جالساً على كرسيه المسنود على الباب المقفل، وجارتين عجوزتين ممن بقيتا لإعداد وجبة ساخنة للعجوز بريتشل، ونجحتا أخيراً في إقناعه بفتح الباب بالقدر الكافي فقط لاستلام صينية الطعام منهما. شكرهن بنزق وتحفظ على الطعام، شاكراً لطفهن طيلة الساعات الأربع والعشرين الماضية. تأثرت إحداهن بكلماته وعرضت أن تعود في اليوم التالي لتطهو وجبة ساخنة له، فعادت خشونته وتبرمه المعتادين، وندمت السيدة الطيبة على عرضها، في حين جاءها الصوت الفظ المحطم من فتحة الباب ليضيف: “لا أحتاج أي مساعدة، لن يمتد بي العمر لأكثر من عامين.” وصفق الباب في وجههن وأقفله بالمزلاج.
غادرت السيدتان، وبقي النائب على كرسيه المسنود إلى جانب الباب. عاد إلى البلدة في الصباح التالي ليخبرنا بأن العجوز فتح الباب فجأة وركل الكرسي لتتحرك من تحت النائب قبل أن يستطع القيام بأدنى حركة، آمراً إياه بالخروج من المنزل، مكيلاً له الشتائم. حاول النائب بعد فترة وجيزة استراق النظر من زاوية الحظيرة ، فدوى صوت إطلاق نار من نافذة المطبخ، ليهوي السنجاب المصاب ويقع على الإسطبل، غير بعيد عن رأسه. أخبر العمدة الخال كيفين بما جرى عبر الهاتف أيضاً:
“بقي وحيداً من جديد. ونظراً إلى أن الوحدة كانت رغبته، لم أكترث كثيراً. شعرت طبعاً بالأسى من أجله. أشفق على كل شخص بمثل مزاجه العكر. عجوز وحيد، جرى له ما جرى، كما لو أن إعصاراً خلعه ودار به ليهوي أخيراً حيث اقتلعه، ليدور به مجدداً، من دون أن يسمح له بلحظة واحدة يستمتع خلالها بمسار الرحلة. ماذا قلت البارحة عن العيش على السيف؟”
قال الخال كيفين: “لا أتذكر، تحدثت بأمور كثيرة البارحة.”
“والكثير مما قلته كان صحيحاً، قلتُ بأن الأمر انتهى أمس. وقد انتهى بالفعل. ذلك الشخص سيقترف ما فعله من جديد ولكن في مكان آخر.”
تجاوز الأمر ما توقعناه، فقد انتهى الأمر وكأن فلينت لم يكن هنا، لا أثر أو علامة تظهر بأنه كان في السجن. تفرقت المجموعة الهزيلة من الناس الذين أشفقوا على المرأة دون أن ينتحبوا، مبتعدين عن قبر السيدة التي نعرف النذر اليسير عن حياتها، حتى أن بعضنا يعرفها من دون أن يكون قد رآها بينما البعض الآخر رآها من دون أن يعرف عنها شيئاً… العجوز بلا أولاد الذي لم يره معظمنا على الإطلاق، وحيداً مجدداً في البيت حيث، كما قال بنفسه، لن يمتد به العمر لأكثر من عامين…
قال الخال كيفين: “وكأن شيئاً لم يحدث، وكأن فلينت لم يدخل السجن، بل ولم يكن له وجود على الإطلاق. الخليط الثلاثي من القاتل والضحية والمكلوم، ليس مزيجاً من لحم ودم لثلاثة أشخاص، لكنه مجرد وهم، ظلال ترقص على ورق، ليسوا رجالاً أو نساءً، ولا عجوزاً أو شاباً، ثلاثة أسماء تشكّل ظلين للسبب البسيط والوحيد الذي يتطلب وجود شخصين على الأقل للتسليم بحقيقتي الظلم والحزن. هذا كل شيء. لم يشكلا أبداً سوى ظلين، على الرغم من أنهما ثلاث بصمات وثلاثة أسماء. كما لو أن السيدة المسكينة اكتسبت وجوداً وكينونة بالموت فقط، بل وبالموت فقط أصبح لديها ظل.”
قلت: “لكن شخصاً ما قتلها.”
قال الخال كيفين: “نعم، شخص ما أقدم على قتلها.”
كان الوقت ظهراً. جاءني اتصال عند الساعة الخامسة من ذلك اليوم، كان العمدة على الطرف الآخر من الهاتف. “هل خالك هناك؟ قل له أن ينتظر، أنا في الطريق.” كان بصحبته رجل غريب من المدينة بثياب مدينة نظيفة.
قال العمدة: “السيد ووركمان. مدقق التأمينات، ثمة بوليصة تأمين بقيمة خمسمائة، أخذت قبل سبعة عشر شهراً. مبلغ غير كافٍ لقتل أي كان.”
“إن كان هناك أصلاً جريمة قتل” قال مدقق التأمينات. كان صوته بارداً أيضاً، يشوبه في الوقت نفسه مسحة من الغضب الحانق. “سيتم دفع تلك البوليصة في الحال، دون التحقق من الأمر أو طرح أي سؤال. وسأقول لكم شيئاً آخر يبدو أنكم تجهلونه. إن ذلك الرجل العجوز مجنون. ليس الرجل الذي كان ينبغي على فلينت إحضاره إلى البلدة وسجنه.”
كان العمدة الشخص الوحيد الذي تم إعلامه بالأمر أيضاً: لقد تلقى مكتب شركة “ممفيس” للتأمين بعد ظهر الأمس برقية، موقعة باسم العجوز بريتشل، تعلمهم بموت المؤمن عليها، ووصل مدقق التأمين إلى منزل العجوز بريتشل قرابة الساعة الثانية من عصر اليوم نفسه وفي غضون ثلاثين دقيقة سمع من العجوز بريتشل نفسه واقعة موت ابنته: الواقعة المدعومة بالإثباتات الملموسة، الشاحنة والسناجب الثلاث الميتة والدم الموجود على الدرج والأرضية.
جرى ذلك بينما كانت ابنته تعد طعام العشاء، قاد بريتشل وفلينت الشاحنة إلى قطعة أرض بريتشل في الغابة لصيد السناجب وطهيها على العشاء. “هذا صحيح” قال العمدة. “لقد تحريت عن الأمر وأخبروني أنهم يفعلون ذلك كل صباح أحد. لم يكن بريتشل يسمح سوى لفلينت بصيد سناجبه، ولم يكن يسمح حتى لفلينت بفعل ذلك ما لم يكن بصحبته” وقد اصطادوا ثلاثة سناجب وقاد فلينت الشاحنة عائداً إلى المنزل وعندما وصل إلى الدرج الخلفي، خرجت المرأة وأخذت السناجب وفتح فلينت الباب وحمل البندقية ليترجل من الشاحنة ويتعثر، وعلق كعب حذائه على حافة درجة الصعود فرفع يده التي تحمل البندقية للحيلولة دون سقوطه، لتصبح فوهة البندقية مصوبة بشكل مباشر على رأس زوجته عندما خرجت الرصاصة. وقد نفى العجوز بريتشل إرسال البرقية، ليس هذا فحسب بل وأنكر بطريقة عنيفة وسوقية أي تلميح أو تكهن يدل على معرفته بوجود البوليصة. وقد أنكر حتى اللحظة الأخيرة أي علاقة بين إطلاق النار والحادثة. وحاول التراجع عن شهادته حول ما جرى عندما خرجت الابنة لأخذ السناجب الميتة وانطلق العيار الناري، ناكراً القصة التي رواها بنفسها عندما أدرك أنه برأ ساحة صهره من الجريمة، وانتزع الورقة من يد مدقق التأمين، معتقداً أنها البوليصة محاولاً تمزيقها وإتلافها قبل أن يتمكن المدقق من إيقافه.
“لماذا؟” سأل الخال كيفين.
“لم لا؟” أجاب العمدة. “لقد سمحنا لفلينت بالهرب. وعرف السيد بريتشل بأنه حر طليق في مكان ما من العالم. هل تعتقد بأنه أراد أن يدفع الرجل الذي قتل ابنته الثمن؟”
“ربما” قال الخال كيفين. “لكني لا أعتقد ذلك. لا أعتقد أنه يهتم لهذا الأمر على الإطلاق. أعتقد أن السيد بريتشل يعرف أن جويل فلينت لن يأخذ بوليصة التأمين أو أي جائزة أخرى. ربما عرف أن سجناً صغيراً في الريف مثل سجننا لن يستطيع احتجاز رجل كثير الأسفار كان يعمل سابقاً في الكرنفالات، وتوقع أن يعود فلينت إليه، وسيكون متحضراً لاستقباله في هذه المرة. وأعتقد أنه حالما توقف الناس عن إثارة قلقه، سيرسل لك طالباً الذهاب إلى هناك وسيخبرك بذلك.”
“أها” قال المدقق. “لقد توقفوا عن إثارة قلقه إذن. اسمع. عندما وصلت إلى هناك عصر اليوم، كان ثمة ثلاثة رجال بصحبته في ردهة الاستقبال. كان معهم شيكاً مصدقاً بمبلغ كبير، لقد كانوا يشترون مزرعته، المزرعة بأكملها، وللمفارقة، لا أعرف أرضاً في هذه المقاطعة وصل سعرها إلى هذا الرقم. لقد تم الاتفاق والتوقيع على كل شيء، ولكن عندما أخبرتهم من أكون، اتفقوا على التريث إلى أن أعود إلى البلدة وأخبر أحداً ما، العمدة، ربما. غادرت المكان، وكان ذلك المعتوه لا يزال واقفاً عند الباب، ملوحاً بالورقة وهو يصرخ: “أخبر العمدة، اللعنة عليك، وكّل محامياً، أيضاً! وكّل المحامي ستيفنس. أخبره ان ادعاءاته واهية جداً.”
قال العمدة: “شكراً لك”. كان يتحدث ويتحرك بطريقته الدمثة القديمة المعهودة، والتي لا يحسن سوى كبار السن إتقانها، لكنه كان يجيد اتباعها على الدوام، كانت هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها يصرف أحداً بهذه السرعة، حتى وإن كان سيراه في الغد مجدداً. حتى أنه لم ينظر إلى المدقق مرة أخرى. “سيارتي في الخارج”، قال للخال كيفين.
قدنا السيارة قبل الغروب لنصل إلى السور الأنيق ذي الأوتاد المحيط بمنزل العجوز ريتشل الصغير والأنيق ذي الحديقة الصغيرة الجرداء، كان هناك سيارة كبيرة يغطيها الغبار مركونة أمام المنزل وتحمل لوحتها أرقاماً تشي بأنها من المدينة، إضافة إلى شاحنة فلينت المحطمة، وبداخلها شاب زنجي غريب- وهو أمر يثير التعجب، فالعجوز ريتشل لم يكن لديه أي خادم من أي نوع باستثناء ابنته.
قال الخال كيفين: “سيغادر هو أيضاً.”
قال العمدة: “هذا حقه”. صعدنا الدرج، وقبل أن نصل إلى الباب، وصلنا صراخ العجوز بريتشل يدعونا للدخول، بصوته الأجش المبحوح الهرم القادم من خلف الردهة، من وراء الباب المؤدي إلى غرفة الطعام حيث توجد حقيبة منظار قديمة الطراز، مخططة ومنفوخة وموضوعة على كرسي. وقف الرجال الشماليون الثلاث بثياب الكاكي المغبرة يراقبون الباب فيما جلس العجوز ريتشل حول الطاولة. ورأيت وللمرة الأولى (أخبرني الخال كيفين أنه قد رآه مرتين من قبل) رجلاً بشعر أبيض مشعث، وحاجبين كثين معقودين فوق نظارات ذات إطار مصنوع من الفولاذ، وشارب بارز غير مقصوص ولحية ملبدة ملطخة بتبع ممضوغ وقد تحول لونه إلى لون القطن المتسخ.
قال: “تعال إلى هنا. ذلك المحامي ستيفنس، أليس كذلك؟”
قال العمدة: “أجل يا سيد بريتشل.”
“إمم، حسناً يا هاب، هل بوسعي بيع أرضي أم لا؟” زمجر العجوز قائلاً.
قال العمدة: “بالطبع يا سيد بريتشل. لم نكن نعلم نيتك فعل ذلك.”
قال العجوز: “ها، ربما قد غير هذا رأيي. كان الشيك والعقد المطوي موضوعين أمامه على الطاولة. وقدم الشيك إلى العمدة. ولم ينظر ثانية إلى الخال كيفين. واكتفى بالقول: “أنت أيضاً”، اتجه الخال كيفين والعمدة نحو الطاولة ووقفا ينظران إلى الشيك، من دون أن يلمساه. كان باستطاعتي رؤية وجهيهما. وجهان جامدان. “حسناً” قال السيد بريتشل.
قال العمدة: “إنه سعر جيد.”
كان العجوز هو من تكلم هذه المرة قائلاً: “ها، مختصر مفيد. فتح العقد ولفه بطريقة تسمح للخال كيفين دون العمدة رؤيته. “حسناً. أنت أيها المحامي؟”
قال الخال كيفين: “كل شيء على ما يرام يا سيد بريتشل”. جلس العجوز ووضع يديه على الطاولة، وأمال برأسه إلى الخلف ناظراً إلى العمدة.
“حسناً. اتخذ قرارك الآن وكفاك تردداً.”
قال العمدة: “إنها أرضك. لا علاقة للآخرين بما تود فعله بشأنها.”
قال السيد بريتشل: “أها”. لم يحرك ساكناً. “حسناً أيها السادة”. بقي ساكناً، اتجه أحد الغرباء نحو الأمام وأخذ العقد. “سأكون خارج المنزل لمدة ثلاثين دقيقة. يمكنكم استلام الملكية في هذه الأثناء أو ستجدون المفتاح تحت السجادة غداً صباحاً.” لا أعتقد أنه نظر إليهم وهم يخرجون، لكني لم أكن متأكداً بسبب لمعان نظارتيه. عرفت لاحقاً أنه كان ينظر إلى العمدة، لدقيقة أو أكثر ومن ثم لاحظت أنه كان يرتجف ويهتز ككبار السن، برغم أن يديه كانتا ثابتتين على الطاولة كما لو أنهما كتلتان من الصلصال.
“سمحت له إذن بأن ينجو بفعلته.”
قال العمدة: “هذا صحيح. لكن انتظر يا سيد بريتشل. سنمسك به.”
قال العجوز: “متى؟ بعد سنتين، خمس سنوات؟ عشر سنوات؟ عمري الآن أربع وسبعون سنة، دفنت زوجتي وأربعة أولاد. أين سأكون بعد عشر سنوات من الآن؟”.
قال العمدة: “هنا، على ما آمل.”
“هنا؟”، قال العجوز، “ألم تسمعني أقول لذلك الرجل أن بوسعه أخذ المنزل بعد ثلاثين دقيقة؟ أملك الآن شاحنة، ولدي المال الآن، وشيئاً ما لأنفقه.”
قال العمدة: “تنفقه على ماذا؟ ذلك الشيك؟ يتعين حتى على هذا الصبي أن يبدأ بإنفاقه منذ الصباح الباكر ولوقت متأخر من الليل لمدة عشر سنوات لينفق هذا القدر من المال.”
“أنفقه على الرجل الذي قتل إميلي ابنتي.” نهض فجأة، دافعاً كرسيه إلى الخلف. ترنح، ولكن عندما اندفع العمدة بسرعة نحوه، مد يده إلى الأمام وبدا كما لو أنه قد عاد خطوة إلى الخلف. “ليكن”، ثم قال بصوت عالٍ وخشن وببحته المرتجفة: “اخرجوا من هنا. اخرجوا من منزلي جميعاً.” غير أن العمدة لم يؤتِ بأي حركة، ونحن كذلك، وبعد دقيقة توقف الرجل عن الارتجاف. غير أنه كان ما يزال ممسكاً بحافة الطاولة. لكن صوته كان هادئاً. “أعطني الويسكي.هناك على الرف الجانبي. وثلاثة كؤوس.” أحضر له العمدة إناءً زجاجياً قديم الطراز وثلاثة أقداح ثقيلة، ووضعها أمامه. وكان صوته عندما تحدث هذه المرة رقيقاً بعض الشيء وعلمت أن السيدة قد شعرت برقته في تلك الأمسية عندما عرضت أن تعود في صباح اليوم التالي لتطهو له وجبة أخرى: “اعذروني. أنا متعب. لقد واجهت الكثير من المشاكل مؤخراً، وأعتقد أنني منهك. ربما أحتاج إلى بعض التغيير.”
قال العمدة: “ولكن ليس الليلة يا سيد بريتشل.”
ورفض مجدداً، مثلما فعل عندما رفض عرض السيدة العودة لتطهو، قائلاً: “قد لا أبدأ الليلة. قد أبدأ مجدداً. ولكن عليكم أيها السادة أن تعودوا إلى البلدة، لنشرب نخب افتراقنا لبعض الوقت، ونخب أيام أفضل قادمة.” فتح إناء الويسكي وسكب المشروب في الأقداح الثلاث وأعاد الإناء ونظر حول الطاولة. وقال: “أعطني دلو الماء أيها الصبي. إنه على الرف الموجود في الممر.” عندما عدت وتوجهت نحو الباب رأيته يأخذ إناء السكر ويضع الملعقة في السكر فتوقفت أيضاً. وتذكرت وجهي الخال كيفين والعمدة ولم أصدق عيني عندما رأيناه يضع ملعقة السكر في الويسكي ويبدأ باحتساء المشروب. لأنني شاهدت الخال كيفين والعمدة عندما كان يأتي للعب الشطرنج مع الخال كيفين، بل والد الخال كيفين أيضاً الذي كان جدي، وشاهدت أبي قبل موته، وجميع الرجال الذين كانوا يأتون إلى منزل جدي لشرب الخمور الباردة كما كان يسميها، ليس هذا فحسب، بل كنت أعلم أنه لصنع الخمور الباردة، لا ينبغي وضع السكر مع الويسكي لأن السكر لا يذوب في الويسكي بل يبقى على حاله ويتجمع ليشكل دوامة صغيرة مثل الرمل في أسفل الكأس، ولذلك يجب أن تضع الماء في الكأس وتذيب السكر، ثم تضيف الويسكي وهو طقس لا يخفى على رجل عجوز مثل بريتشل لا بد وأنه شاهد رجالاً من قبل يعدون الخمور الباردة لقرابة سبعين عاماً وكان يعدها ويشربها بنفسه لمدة خمس وثلاثين سنة على الأقل. وأتذكر أن الرجل الذي ظننا أنه العجوز بريتشل أدرك متأخراً جداً فعلته ورفع رأسه بينما اندفع الخال كيفين نحوه، فمد يده للخلف ورمى الكأس على رأس الخال كيفين. أتذكر قطع الزجاج التي انتشرت بعد ارتطام الكأس بالجدار والرذاذ الأسود وتحطم الطاولة بعد انقلابها والمزيج العفن الناجم عن الويسكي المراق من الإناء، وصراخ الخال كيفين وهو يقول للمأمور: “أحضره يا هاب، أحضره.”
واجتمعنا نحن الثلاثة حوله. أتذكر القوة الوحشية وسرعة الجسد التي لم يكن لجسد عجوز أن يتمتع بها، رأيت رأسه غائراً تحت ذراع العمدة والشعر المستعار الذي انتُزع. بدا كما لو أنني شاهدت كامل وجهه يتلوى بغضب وهو يحاول الفكاك من تحت المكياج الذي غطى التجاعيد والحاجبين المستعارين. عندما انتزع العمدة اللحية والشارب، وبدا كما لو أن اللحم يخرج معهما، ليصبح لونه قرمزياً ومن ثم زهرياً، كما لو أنه في محاولته اليائسة الأخيرة لوضع اللحية والتنكر، لم يزيف الوجه فحسب بل الدماء التي تنزف أيضاً.
لم نحتج لأكثر من ثلاثين دقيقة لنجد جثة السيد بريتشل. كانت تحت غرفة الإطعام في الإسطبل، في خندق سطحي حفر على عجل، بالكاد يخفي ما تحته. لم يكن شعره مصبوغاً فقط، بل وقد تم قصه أيضاً، وكذلك الحاجبين، فيما تم حلق الشارب واللحية. كان يرتدي الملابس ذاتها التي ارتداها فلينت عندما سيق إلى السجن، وكان هناك ضربة واحدة قاضية على الأقل على وجهه بفعل أداة مسطحة مثل فأس هشمت جمجمته من الخلف، مما جعل من المستحيل تقريباً التعرف على ملامحه، وبعد أسبوعين أو ثلاثة أسابيع تحت الأرض، كان من المحتمل ألا يعرف أنها تعود لرجل عجوز. وكان هناك سجل حساب كبير تصل ثخانته إلى ست بوصات تقريباً ويزن حوالي عشرين رطلاً موضوعاً بعناية تحت رأسه وقد تم ملأه بقصاصات ورقية لاصقة تشمل حسابات عشرين عاماً أو أكثر. كانت بمثابة قصة وسجل للهدية والموهبة التي خانها وأساء استخدامها في نهاية الأمر، لتنقلب عليه وتحطمه. كان كل شيء هناك: بداية المشوار، المسار، الذروة، ومن ثم السقوط، نشرات مكتوبة بخط اليد، برامج المسرح، قصاصات الأخبار، بل وحتى ملصق دعائي بطول عشرة أقدام كتب عليه:
سنيور كانوفا
ملك الخدع البصرية
يختفي وأنت تراقبه
تقدم الإدارة ألف دولار
نقداً لأي رجل أم امرأة أو
طفل يـ ….
وكان هناك أخيراً القصاصة الختامية، المأخوذة من الجريدة اليومية التي تصدر في ممفيس، ومكتوب عليها تاريخ اليوم، والمكان، جفرسون، وقد كانت تحتوي على أخبار كتبتها وكالة الأنباء. كان هذا حساب آخر رهان سخّر فيه موهبته وحياته من أجل المال، والثروة. ولكن ثمة جزء مفقود في السجل، قصاصة الأخبار التي تروي نهاية حياة ثلاثة أشخاص وليس شخصاً واحداً فقط، برغم أن اثنين منهما يشكلان ظلاً واحداً فقط: ليس فقط ظل السيدة المسالمة البلهاء، بل ظل جويل فلينت والسينيور كانوفا أيضاً. كان هناك قصاصات متفرقة توثق تاريخ ذلك الموت أيضاً، وإعلانات مصممة بعناية في “فاريتي وبيلبورد” مستخدماً الاسم الجديد المزيف بطريقة غير مناسبة، نظراً إلى أن السينيور كانوفا العظيم كان ميتاً بالفعل حينها، وحل محله على مدى ستة أشهر، أو لثمانية أشهر. كان عضواً في الفرقة الموسيقية، ومساعد بائع بالمزاد العلني، رجلاً جامحاً من جزيرة بورنيو، إلى أن انحدر إلى المرحلة الأخيرة حيث لامس القاع: مسافراً من بلدة إلى بلدة، حاملاً عجلة الروليت المسننة، منهكاً من الساعات والمسدسات المقلدة التي لا تطلق النار، إلى أن أعطته الغريزة فرصة أخرى لاستخدامها من جديد.
قال العمدة: “وقد أضاعها هذه المرة للأبد”.
كنا في المكتبة مرة أخرى، وراء الباب الجانبي المفتوح، كان هناك يراعات تلمع في تلك الليلة الصيفية وصراصير وضفادع تصرصر وتنق. “كانت بوليصة التأمين مفتاح القضية. لو لم يأت ذلك المدقق إلى البلدة وأرسل بطلبنا في الوقت المناسب لنشاهده وهو يحاول إذابة السكر في الويسكي، لكان أخذ ذلك الشيك والشاحنة وأسلم ساقيه للريح. عوضاً عن ذلك، أرسل بطلب المدقق وتجرأ على طلب لقائي ولقائك لنذهب ونشاهد موجة الغضب تلك والمساحيق التي وضعها على وجهه-“
قال الخال كيفين: “لقد قلت شيئاً في ذلك اليوم حول التخلص من شاهده باكراً جداً.” “لم تكن هي شاهده. لقد كان الشاهد الذي تخلص منه هو الشخص الذي كان من المفترض أن نجده تحت غرفة الإطعام.”
قال العمدة: “شاهد على ماذا؟ على حقيقة أن جويل فلينت لم يعد موجوداً؟”
“جزئياً، ولكن بشكل أكبر شاهد على الجريمة الأولى، الجريمة القديمة: الجريمة التي أودت بحياة السينيور كانوفا. لقد قصد كشف أمر ذلك الشاهد. ولذلك لم يدفنه، خبأه في مكان أعمق وأفضل. وإلى حين اكتشاف أمره، سيكون قد أصبح بضربة واحدة وللأبد ليس فقط ثرياً بل وحراً، حراً ليس فقط من السينيور كانوفا الذي خانه بموته قبل ثماني سنوات، بل من جويل فلينت أيضاً. وحتى لو وجدناه قبل أن ينتهز فرصة الهرب، ماذا كان ليقول؟”
قال العمدة: “كان يتعين عليه أن يشوه ذلك الوجه بشكل أكبر.”
قال الخال كيفين: “أشك بذلك. ماذا كان ليقول؟”
قال العمدة: “حسناً. ماذا؟”
“أجل، لقد قتلته. لقد قتل ابنتي.” وماذا كنت لتقول، كونك محامياً؟”
قال العمدة بعد برهة: “لا شيء”.
قال الخال كيفين: “لا شيء.” كان هناك كلباً يعوي في مكان ما، لم يكن كلباً كبيراً، وطارت بومة وهي تنعق لتحط في شجرة التوت في الفناء الخلفي وبدأت تنعق بصوت عالٍ، بصوت حزين ومرتجف، وبدأت جميع الكائنات الصغيرة ذات الفراء بالتحرك الآن- فأر الحقل والأبوسوم والأرانب والثعالب والفقاريات التي لا أرجل لها- تزحف وتتجه نحو الأرض المعتمة التي كانت تبدو تحت نجوم السماء الصيفية الخالية من المطر مجرد فضاء عاتم: غير مقفرة. قال الخال كيفين: “هذا من أحد الأسباب التي دفعته للقيام بذلك.”
قال العمدة: “سبب واحد؟ ما هي الأسباب الأخرى؟”
“السبب الآخر سبب حقيقي. لا يتعلق الأمر بالمال. ربما لم يستطع منع نفسه من الامتثال للأمر لو أراد ذلك. تلك الهدية التي كانت معه. لا يعود ندمه الأول الآن إلى إلقاء القبض عليه، ولكن لأن ذلك حدث باكراً جداً، قبل أن يتم اكتشاف الجثة ليتحين فرصة التعرف عليها على أنها جثته، قبل أن يملك السينيور كانوفا الوقت ليرمي قبعته العالية اللامعة لتختفي وراءه وينحني للتصفيق الرائع والعاصف والمتقطع، ليخطو خطوة أو خطوتين، ليأتي دوره بالاختفاء من بقعة الضوء- ذهب بلا عودة. فكر ماذا فعل: أقنع نفسه بارتكاب جريمة قتل في الوقت الذي كان بوسعه الهرب. لقد برأ نفسه منها بعد أن أصبح حراً من جديد. وقد تحداني وتحداك للذهاب إلى هناك لنكون شاهديه وكفلائه لإتمام فعلته التي كان يسعى للحيلولة دون حدوثها. ما الشيء الآخر الذي ينجم عن امتلاكه لمثل هذه الموهبة التي نمت بشكل أكبر بعد التمرس، سوى تحقير كامل للبشرية؟ قلت لي بنفسك إنه لم يكن خائفاً في حياته كلها.”
قال العمدة: “أجل، يقول الكتاب المقدس في إحدى الآيات، اعرف نفسك. ألا يوجد كتاب آخر يقول “أيها الإنسان، احذر من نفسك، من غطرستك وغرورك وكبريائك؟ لا بد وأنك تعرف، فأنت تحب قراءة الكتب. ألم تقل لي هذا ما عناه ذلك الرمز الجالب للحظ الموجود على سلسلة ساعتك؟ في أي كتاب ذكر ذلك؟”
قال الخال كيفين: “إنه مذكور في جميع الكتب. أقصد الكتب الجيدة. مذكور بطرق عديدة ومختلفة، لكنه مذكور.”
_____________________________
القصة من مجموعة قصصية بعنوان “التضحية بجندي الفارس” الصادرة أخيراً عن دار نينوى في دمشق.
*****
خاص بأوكسجين