تسعى أوكسجين إلى ضبط عوالمكم متلبسة بما تصوغه من إبداع وتتوهج فيه وهي تعيش وتحيا، على شيء من العفوية ومن دون تحضير مسبق سوى تحديد موعد للقاء في مربع “الشات” على “الفايسبوك” لنمضي في دردشة حية ومباشرة: سؤال فجواب، أسئلة سريعة خاطفة وإجابات أتطلع لأن تكون سريعة مكثفة أيضاً، كما لو أنه حديث ودي وشيّق يجري في حانة أو مقهى، أو حديث يخرج من حيث لا ندري في مشوار لا نريد له أن ينتهي.
الحوار في هذا العدد مع الشاعر السعودي محمد خضر، فهلموا إليه:
أحب سؤال البدايات، وتلك الدهشة الأولى في اكتشاف ذاتك الكاتبة، كيف بدأت الحكاية؟
ما أذكره أكثر هو علاقتي مع اللغة
كيف أصبحت أكثر وأوسع
وكيف اكتشفت أنها تنمو بفضل دهشتي من قصائد أو عبارات اقرأها هنا وهناك ..
ثم القدرة البسيطة على التعبير ..
وتلك الحكايات المخبأة في الطفولة أعتقد أن لها الفضل في توظيف تلك اللغة -لاحقا- للكتابة.
تلك العلاقة التي تضعف وتنمو وتمتد وتنكسر
أعتقد أنها من تخلق حساسيتي الأولى والدائمة حتى الآن.
هل تذكر أول قصيدة أو نص أول مغامرة في تحبير ورقة؟
كانت محاولة أولى للتعبير عن رحيل جدتي ..كنت صغيراً في المرحلة الأولى من الثانوية ..
برغم أنها مفقودة الآن إلا أنها في ذاكرتي
لكني أذكر أول نص نشر لي
إنه “أغنية لآثام الليل”
عام 1997 تقريبا في “صحيفة البلاد”.
أظنها كانت ورطة مهمة لك فيما بعد؟
كنت قد أخذت عنوان الملحق الثقافي من الجريدة
وأرسلت لهم طبعا بالبريد الورقي
بعد أسبوع كان النص منشوراً
مع مقدمة من المحرر آنذاك.
الأمر مختلف الآن وتلك التفاصيل لا بد تعلق في الذاكرة ولا تمحى؟
لا شك وقد منحني نشر هذا النص حالة من الانتشاء
ثم حمّلني مسؤولية أكبر ..
بعدها بخمس سنواتٍ نشرت مجموعتك الشعرية الأولى “مؤقتا تحت غيمة” ومُنعت في بدايتها، كيف عشت تلك التجربة؟
“مؤقتا تحت غيمة” كانت تجربة مغامرة وجميلة لي
كتبتها في عزلة تامة. لم أكن أعرف أحداً من الكتاب أو الشعراء أو الصحفيين سوى القليل .. كنت أكتب النصوص بخط اليد وأتركها في مختبر الوقت لمدة.. ولم يخطر في بالي نشرها ..مع أول فكرة للنشر وطباعة العمل لم أتردد.. بعد ذلك قرأت آراء جيدة ومشجعة وأخرى هجومية. أعتقد هذه المجموعة لقيت حظها كاملا من الاهتمام ..حتى بعد أن فوجئت بمنعها من قبل “وزارة الإعلام” آنذاك ..
لماذا هوجمت ومنعت آنذاك؟
أردت أن أجيء ببعض النسخ وطولبت بوجود الفسح الإعلامي ..لمّا سألت عام 2003 أخبروني أن عليها ملاحظات متعلقة باستخدام بعض المفردات التي اعتبرت أيامها كما عبر لي “شاطحة” ثم قيل لي أنها غامضة .بعدها بسنوات فسح الكتاب عام 2007 تقريباً.
يقال إن قصيدة النثر ولدت على الورق، أي أنها غير شفوية، وهي بحاجة دائما إلى المتلقي القارئ وليس السامع، ما رأيك؟
نعم ذلك يعود إلى طبيعتها غير الإنشادية
بعيدة عن الذاكرة السائدة والعادية والمتوقعة
قصيدة الصورة الشعرية الجديدة والأدوات المختلفة عن ذهنية الشعرية الشفهية ..
تنشر نصوصاً وشذرات بخط يدك على الفايسبوك، هل هي من طقوس الكتابة لديك؟
الشذرات التي أنشرها في الفايسبوك مكتوبة على الروزنامة وهي محاولة لخلق حالة متوائمة مع البصري.. أكتبها في نفس اليوم ببساطة ..شذرة أو قد تكون قصيدة لكنها قصيرة جداً ..وأكتبها بخطي العادي أيضاً ..هذه الشذرات قادمة كمحاولة ترك شيء ما في ذاكرة الأيام على تلك الأوراق ..ترك أي شيء عابر وقريب وخاطر ..
ما الأجواء التي تكتب فيها عادة؟
لحظة الكتابة بالنسبة لي عصية على الفهم ..
ولا أحاول عادة اكتشافها
لا وقت محدد ولا فضاء محدد
أكتب في الهدوء مثلما في الصخب ..
بل أعتقد أن أجمل ما كتبت كان في عز الصخب
وفي أمكنة لا متوقعة
مثل انتظار دور عند طبيب الاسنان.
وأنا أكره طبيب الأسنان، لذلك تبدو لحظة مواتية لترويض الانتظار القسري. في قصيدة “طقس كتابة” تقول: أكتب في الوقت الضائع / نكاية بالآمال المهدورة. إلى أي مدى الكتابة هنا فعل حياة موازٍ وليس ردة فعل؟
هذا المقطع من نص يحاول أن يجيب على سؤال الكتابة
الجدوى واللاجدوى..
مع واقع متأزم أحيانا أو ما يمر بنا من إحباطات أو انكسارات ..هي محاولة لفهم هذا الكائن مع أسئلة الحياة جنباً إلى جنب وأسئلة الفن.
يهمني أن أتوقف عند علاقة الشعر عندك بالتصوير والتشكيل والسينما وإيمانك بالعمل الجماعي لإنجاز عمل فني جيد وخوض مغامرة التجريب بأدوات مختلفة، كيف تشتغل على هذا المشروع؟
علاقتي مع التشكيل والصورة الفوتوغرافية خاصة تمتد متابعة وقراءة ومشاركة لكثير من الفنانين في كتابات تعنى بتجربتهم، وقد يحدث العكس مع أحد نصوصي كما في تجارب محلية وعربية كثيرة. لا أريد أن أقول كما يحلو للبعض بأن الشاعر يرسم بالكلمات، لكن دعني أقول إن الشاعر لديه رغبة في تجاوز البصري اللوني إلى البصري مع اللغة المشهدية، وفضاء تشكيل النص بصريا وكسر هذه النمطية المهيبة المستقرة في أذهان البعض عن لزوميات الإبداع ومدرسيته، ودائما ما يعبر النقاد عن هذه السمة في نصوصي، وطالما أردت الهروب منها حتى لا تصبح إشارة تستقر في ذهن من يقرأني، ومن جهة أخرى أنا متابع جيد لعالم التشكيل والفنون عامة وأجد متعة في محاورتها متابعتها والكتابة عنها.
في عام ٢٠٠٤ أظن كنا أسسنا جماعة فنية إبداعية اسمها “شتّا” تأخذ من شكلها الإملائي المخالف عنواناً للكثير مما قد يقال حول توجهها وأسئلتها. كانت جماعة تهتم بالفن المعاصر ومنه الكتابة المعاصرة.
تقول كنا وكانت؟
نعم لأنه حدث قبل سنوات.. ولأن مثل مشروع “شتّا” توقف نوعا ما إذا احتسبنا أن التأثير هو استمرار لوجوده.
في آخر ديوان لك “منذ أول تفاحة” قلت “أنا أفكر في سيناريو مختصر لفكرة الوطن” أين وصلت؟
كتبني قبل أن أكتبه .
إذن لازلت منتبهاً للتراب الأول، حين تكتب؟
طبعا هذا كنز سري للكتابة.
الموسيقى الأقرب إليك؟
الطرب والموسيقى الكلاسيكية العربية أقرب لي.
كيف يبدأ محمد خضر يومه؟
بشكل عادي جدا ..
أستعد للذهاب إلى العمل.. أقرأ الصباح.. لكني أحاول قدر ما أطيق أن أحرك الرتابة وأضيف جديداً ليومي
وفي أحيان كثيرة أقول مثل جاك بريفير “صعب أن أمنح هذا اليوم لرب العمل” ما يساعدني على كل هذا أن هذه المدينة “الخبر” فاتنة في صباحاتها ..
ماذا عن قصيدة النثر السعودية والأصوات الجديدة اليوم؟
عانت قصيدة النثر السعودية قدرا من العزلة والتكريس السابق لنماذج سلطة أدبية عليا مع أشكال الشعر الأخرى في سنوات مرَّت، لكنها تجاوزت كل ذلك خاصة مع وجود فضاءات الميديا وانفتاح التواصل الالكتروني.
هناك أصوات جديدة ليس بمعنى أنها شابة أو للتو كتبت بل لأن ما تكتبه معاصر ويضيف لهذه القصيدة فضاء مدهشا.. قصيدة النثر اليوم أكثر حضوراً ومليئة بالشعراء المهمين.
أنت منحاز للهامشي والعابر، وتحضر المرأة ضمن مشروعك الشعري كظل، كمرآة تعكس هواجسك وانفعالات الإنسان والشاعر، كيف ذلك؟
المرأة تحضر في القصيدة بعيداً عن الرؤية التقليدية والذاكرة الشعبية لها في الشعر.. تحضر في حالتها الوظيفية.. وفي الحب هي حاضرة لكن حاضرة ضمن شرط جمالي مختلف لقصيدتي ..قد يكون أكثر من حضورها التقليدي أو أقل. في “مؤقتا تحت غيمة” وغيره كانت حاضرة كسؤال أوسع من تأطيرها في معنى.. حاضرة كسؤال وجودي ومتصل بأسئلة الإنسان الأولى.
ماذا تقرأ هذه الأيام؟
اقرأ حالياً رواية “لقيطة إستانبول” لإليف شافاق، ترجمة ضياء الجبيلي
وفي الوقت نفسه أقرا كتاباً مترجماً لمحاضرات جيرار جينيت عن البنيوية والشعرية ..
ماذا تقتبس لنا هنا صديقي؟
من إليف شافاق في ” لقيطة إستانبول:
“إذا كان يوجد بين المجتمع والنفس واد عميق لا يربطها إلا جسر متحرك، تستطيعين أن تحرقي ذلك الجسر وأن تقفي إلى جانب الذات سالمة مسلمة، إلا إذا كان الوادي هدفك”
في رصيدك خمس مجموعات شعرية ورواية بعنوان “السماء ليست في كل مكان” ماذا عن مشروعك القادم؟
مجموعة من المؤجلات يا صديقي
لكن هناك مجموعة شعرية أعمل عليها وستصدر قريباً
ومن سنتين أكتب وأعمل على رواية أخرى
قد يكون هناك مشروع على الأنترنت يحمل فكرة جديدة في موقع انستغرام لازال قيد التفكير.
كما صدر لي هذا العاممختارات من مشروع “آفاق عربية” عن الهيئة العامة لقصور الثقافة من مجمل إصداراتي.
جميل، السرد هنا بالموازاة مع الشعر والعمل البصري الفني، لستَ في منعرج تحول وهذا ما يثري تجربتك في الكتابة أكثر أو على الأقل كما أراها أنا كشاعر وتشكيلي ومهتم بالسينما؟
نعم صديقي ليس تحولاً
هي فلسفة خاصة بالكتابة والفن تقودني لأذهب لأقصى ما يمكن. ..
كلمة عن مجلة أوكسجين؟
كم من السنوات مرت وأنا مع أوكسجين؟
ليس كم فهذه الفضاءات لها معايير مختلفة في الروح
أقرأها من سنوات
وأحب فيها احترامها للذائقة والقارئ.
لك الآن أن تسألني أي سؤال يخطر في بالك؟
أوكي.
يسألني محمد: صديقي كأن العالم فارغ وحوارك والوقت معك هو كل الأشياء الجميلة كذاكرتنا المديدة..
كيف ذلك؟
دعني أستعيد عبارة كافكا “أنا قفص يبحث عن عصفور” ربما هكذا هو العالم معنا، نحن ضحاياه الجميلون. وهذا الفراغ الذي حولنا نبحث له عن روعةٍ ما في الذاكرة المديدة، المترامية النصوص والحكايات، أتأكد الآن أني عرفتك من نصك ولم تكن معرفتي بك من خلاله بالقليلة، وهذا رهان قصيدة النثر والنص الجيد الذي يكتب التجربة الإنسانية.
أعود لأختم مع محمد خضر بمقطع جميل، يقول فيه:
“أخيراً كان علينا أن نختصرَ
كلَّ هذه السنواتِ في ركنٍ صغير..
كان على الوقتِ أن يسدّد نحوي طلقةَ الحياة..”
وأسأل: هل كانت الطلقة صائبة؟
شكرا صديقي أمتن لك وأنت تزرع صدى من عبارتي الحاسرة في الآخرين
العالم كله ينتظر طلقة!
*****
خاص بأوكسجين