حقنة أفروديت
العدد 283 | 20-2-2024
فراس الشوك


إلى درّة التي لم تتركني للوهم.

 

فاتحة

ما الهوس؟

   حتى تتجنب الخلط فإنه أفق أبعد ما يكون عن الجنون، يمكنك معرفة القليل عنه إن كنت تعاني شيئاً منه، أما من الخارج، من أعين الناس التي ترى الشخص المهوس، والتي لا تعرف منه ذائقة، فهو عتمة.

 

لو كان بإمكان الآنسة الشابة أميرة أن تنهض ذات صباح وتتفقد شعر حاجبيها مثلما فقد بلاتون كوفاليوف أنفه في قصة غوغول لما كانت ستُمانع أبداً، بل على الأرجح لو حدث مثل هذا الأمر العجائبي فإنها لم تكن لترهق كاهلها يوماً واحداً بالبحث عنهما، وعوضا عن ذلك كانت لتكتفي فقط برسمهما كل صباح بقلم مكياج خفيف من ماركة “كيكو” الشهيرة أو تضع مكانهما وشماً احترافياً عند أقرب مركز عناية نسائية.

كانت آنستنا تنهض كل صباح أمام مرآة مغسلة جديدة. وهذا يعود إلى أنها تنهض كل يوم على مضجع نوم جديد. من المحتمل أنها رأت عشرات مغاسل الحمامات في حياتها. بل المئات من الحنفيات والشراشف والملاءات والفراشي والحوائط والأرضيات. كان كل يوم جديد يعني رائحة غرفة جديدة، وكل صباح جديد يعني أشعة نور تلامس أرضاً جديدة. كانت الديمومة لها من المحال، ومع ذلك فقد كان شعر حاجبيها المنعكس على كل تلك المرايا، الوحيد الذي تجده على حاله متربعاً مكانه كل صباح.

بالنسبة لامرأة لا يتجاوز دخلها الشهري الألف ونصف دولار وتنهض كل يوم على مكان جديد في دولة ما أو قارة مختلفة لهو أمر أكثر غرابة من قصة غوغول في حد ذاتها. حتى غوغول نفسه ما كان سيصدق شيئاً كهذا، ولو أخبره أحدهم بذلك لكان نسج منه حبكة رواية ما أو كنا لنرى مكان المعطف والأنف قصة بعنوان “الطائرة”، لكن آنستنا مضيفة في “طيران الإمارات” وبالتالي فإنه أمر عادي، روتين مثل أي روتين حياة أخرى، تماما مثل النهوض يوماً بعد الآخر على صوت منبهات السيارات المجنونة، بغرفة مطلة على “شارع الجمهورية” بمنطقة “أكودة” الساحلية أو كالاستيقاظ على نغمات العصافير بفيلا هادئة بحي الضباط بـ “باردو”.

دون أرق، عاشت أميرة في هذا اليومي الطائر طيلة الثلاث سنوات الفارطة حتى تغيرت حياتها نحو نشوة بداية جديدة إثر لقائها طبيبة الأمراض الجلدية والعمليات التجميلية نائلة بطيخ، والتي كانت قد تعثرت بقدمها على طائرة متجهة من الإمارات إلى هونغ كونغ بعد أن أوقعت ودون قصد طبق الطعام على سترتها الحريرية التي ليس بإمكاننا تصور أنها كانت رخيصة أبداً.

أخرجت الطبيبة من محفظتها ورقاً مبللاً بعطر الأناناس من علبة بلاستيكية مكتوب عليها بالأحرف الكبيرة بيولوجي 100٪ ثم مسحت الجاكيت بلطف بدا أرستقراطياً للغاية.

“أعتذر بشدة مدام. اتركي عنكِ سأعتني بذلك بنفسي” قالت أميرة التي لم تتعرض لمثل هذا الموقف منذ باشرت عملها.

بهدوء، نزعت الطبيبة الجاكيت ومررتها إلى يدي أميرة ثم تفحصت قميصها الأبيض وتثبتت من أن لا بقايا طعام قد وطأت تنورتها وحذاء كعبها العالي. كان من حسن حظها أن الطعام قطعة صغيرة من كعك الشوكولاتة قدمت كتحلية مع كوب عصير حسب الاختيار.

“عزيزتي، لا عليكِ. المهم أن القميص على ما يرام. مممم، أرى أنك تبدين في حالة جيّدة بالنسبة لفتاة تبدو في الثامنة والعشرين من عمرها. لكن هل جيّدة علامة كافية؟ الاجابة هي لا! عليك أن تكوني في حالة ممتازة. جمالكِ خلَّاب، حجر الأساس موضوع هناك بعناية، فعلت الجينات ما يجب عليها أن تفعل، لقد قامت بدورها جيدا ًفي أن تُرسّخ على وجهكِ معايير الجمال الحديث؛ وجه مستدير، ليس كبيراً ولا صغيراَ، بشرة صافية وأعين واسعة مع رموش كثيفة، كيراتين الشعر على أفضل مستوياته وكذلك تصبغ الميلانين الخفيف عليه يعمل بشكل جيّد. آه، أرعبتكِ أليس كذلك؟ ليس سهلاً مقاومة ذلك. إنك امرأة متكاملة، كما أجزم أنك على عناية فائقة بهندامك العام ونظافة جسمك. هذا طبيعي، فطبيعة عملك هذه تفرض عليك الأمرين بصورة دورية. لكن الجينات والعناية ليس لهما أفق أبعد من علامة -في حالة جيّدة-، إنهما في عرضة دائمة لمداهمة الزمن. إنهما تحت وطأته الآن بالفعل. قد لا ترين ذلك، لكن انظري، خبرتي العملية تستوجب استشارة فورية. ألمح ظهور تجاعيد مبكرة فوق الجبين، كما لا يمكنني التغاضي عن تقلص الشفاه وتشققها مع الوقت. قد تفقدين نعومتهما إلى الأبد. لا أعلم الكثير عن مهنتك هذه، ولكن الشائع أن الجمال والشباب من مستلزماتها، عليك إذن العمل على ألا تفقديهما أبداً.”

ذهلت أميرة لهذه البداهة والدقة في التحليل. انكمشت، خوفاً من أن تلاحظ ما حول حاجبيها. نظرت للشخص على الكرسي المجاور للطبيبة خوفاً من أن يلتقط الملاحظات التي لا تخرج عادة من عيادة الطبيب، لكن كل ذلك لم يحدث.

“لا تلقي له بالاً، إنه أنطوان زميلي وطبيب مباشر بمستشفيات باريس. كان في الإمارات يشارك في ندوة علمية حول طبقة الأدمة وهي طبقة الجلد بين البشرة والطبقة الدهنية لفروة الرأس لها علاقة مباشرة بنوعية الشعر. لن أطيل عليكِ، في اعتقادي أنك لستِ في حاجة إلا للقليل من الفيلر والبوتوكس. حقنة على الجبين وأخرى على الشفاه. ستضمنان لك سنة فائقة. سأكون مشغولة على مدى الأسبوعين القادمين بهذا المؤتمر العالمي لطب التجميل بلبنان لهذا لن أستطيع رؤيتكِ إلا بعد هذه المدّة. خذي عندك بطاقة الزيارة، تجدين العيادة بمجمع بانوراما الطبي بسوسة، تعالي، لا تتردي، سأعمل لك الحقنتين بالمجان، فقط لأنني سعيدة اليوم. في العادة كنتُ سأغضب بسبب سكب الطعام، ولكنني شاكرة أن مشوباتك الاستيتكية قد حفزت عقلي للعمل. حسناً، في النهاية لقد استغرقت في الحديث، فقط لو تفضلتِ أرجو منكِ أن تخبريني باسمك؟”

“أميرة. أميرة اللوزي..”

“اسم جميل لفتاة جميلة. أميرة. نلتقي إذاً بعد أسبوعين. لا تزعجي نفسكِ بالنسبة للجاكيت سأرتدي غيرها ما إن نصل إلى المطار”.

التفتت الطبيبة إلى زميلها متجاهلة أميرة، وكأن المحادثة لم تحدث إلا في ذهن هذه الأخيرة وحدها، متحلية ببرود تام بانتقالها من حالة إلى أخرى، على عكس الآنسة الشابة التي بدت عليها الحيرة، وترددت بين أن تعود إلى واجبات عملها أو أن تظل واقفة هناك بسخافة.

“مشوباتك الاستيتيكية” خفقت الكلمتين في ذهن الفتاة بشدة. أعادت استعراضهما بمسامعها في حلقة لا متناهية بنفس الألفة المصطنعة التي وجهت إليها الطبيبة نائلة حديثها. دعونا ألا نتجاهل ذلك، إن ملاحظة حول جمال امرأة من امرأة أخرى تدعو دائماً إلى التوتر، مهما كانت على درجة من الوعي الوجودي، فهو كسكب سطل ديدان على جثة، في النهاية توجد بالفعل ديدان من الداخل وها الآن سيصبح التحلل من الداخل والخارج معاً. عادت أميرة إلى حجرة تقديم الطعام لتملأ المزلاج بعبوات العصير من أجل جولة ثانية. كانت نوعاً ما مهيمنة على وسطها العملي طيلة السنوات الثلاث الماضية ولكونها إلى جانب لسانها السليط الفتاة الأكثر تحصيلاً للمستوى الجامعي بين طاقم عملها باستثناء قبطان الطائرة والقبطان المساعد فإن حادثة سهوها البسيط واتساخ بلوزة الطبيبة لم يثر أية كلمة بين زميلاتها الفتيات، ومع ذلك لا شيء كان بإمكانه كبح فضولهن في معرفة ما دار بينها وبين الطبيبة.

قامت بلهفة بتعبئة المزلاج بالعصير وسألت إحدى تلك الفتيات أن تقوم بدورها ثم أغلقت على نفسها غرفة المرحاض الضيقة. جلست على مقعد المرحاض بعد أن أطبقت عليه الغطاء وأخذ قلبها في الخفقان كأنه عبوة ديناميت في ثوانيها الأخيرة. كان من حسن حظها أنها لا تتعرق أبداً وإلا لأفسد ذلك عليها ماكياجها. أخذت نفساً عميقاً ثم أخذت آخر وآخر. أخرجت من محفظة جيبية قطعة مرآة صغيرة كانت تخفيها دائماً معها حتى تتسنى لها فرصة تفقد ثبات حاجبيها في مكانهما ثم بدأت تدقق النظر في جبينها وشفاهها كبداية. قادها توجسها إلى التركيز على وجنتيها وأنفها حتى شمل التوجس تدريجياً بقية تفاصيل خلقتها. كانت لأول مرّة تنسى أن تُمعن النظر في حاجبيها فكان بالإمكان تمييز هذه اللحظة، اللحظة التي انتهت فيها معاناتها القهرية حول حاجبيها فقط وبدأت مكانها معاناة قهرية أكبر بكثير لتشمل كامل تفاصيل وجهها.

اعترتها رغبة شديدة في دفن وجهها المزيّن بين كفيها، إلا أنها لم تقدر على ذلك فاكتفت بأخذ نفس عميق آخر وأرسلت رسالة نصية إلى أقرب صديقاتها آمنة عبر خدمة انترنت الATG الجوية التي توفر انترنت الطائرة عبر إشارة الأبراج المتاحة، ثم عادت لمباشرة عملها.

كانت آمنة إحدى أود صديقات أميرة اللاتي جمعت بينهن زمالة الدراسة بمعهد العلوم الجبائية بسوسة قبل سبع سنوات. هذا علاوة على أنها كانت رفيقة سكنها في المبيت الجامعي، وقد تشاركن عدة ليال في التعارف على زُمر الشباب على منصة تيندر حديثة الإطلاق وقتئذٍ. نجح الثنائي في جميع سنوات الإجازة بسرعة وبمعدلات تراوحت بين المقبولة والجيّدة، ورغم تسكعهما الليلي اللا متناهي، لم تواجها أي مشكلة. لكن في سنتهما الأولى من دراسة الماجيستير عبث رجل أعمال في مجال “المانيكان” كانت قد تعرفت عليه آمنة على تطبيق التيندر بعقلها ليفتح لها أفقاً واسعاً نحو هذا المجال. ولمجرد مواعدته لها لليلة واحدة عرض عليها ديفيلي تقوم به بمدينة الحمامات. كانت دعوة ستثير الريبة في نفس أي فتاة أخرى إلّا أنه وبالنسبة لآمنة كانت الفرصة الذهبية التي وأخيراً بسببها سوف تستغل المئة وسبعين سنتيمتراً من طولها والاثنين وخمسين كيلوغراماً من وزنها في مكانهما الصحيح. لم تكن هذه المعايير التي تتسم بها إلى جانب تناسق خصرها الذي لا يتجاوز الستة والستين سنتيمتر مع صدرها المسطح من قبيل الصدفة فهي لم تتهاون يوماً واحداً في الحمية الغذائية التي اتخذتها لأربع سنوات. فقد ألبست صدرها أضيق وأصغر حمالات الصدر منذ أن لمعت في ذهنها فكرة العمل كعارضة أزياء إثر مشاهدتها لفيلم “جِيا” بطولة أنجلينا جولي وإخراج الأمريكي مايكل كريستوفر. كان هذا الفيلم لقاء الخارج مع الداخل فقد ألمع في عتمات ذهنها ضوءاً حول حرية العيش كما يجب عليها أن تفعل وفي أن تثور أمام كل القيود الممكنة.

“وينك يا قحبة!” قالت أميرة لآمنة بعد أن التقتها في غضون يومين من حادثة الطائرة في فندق “ذا غيت” في كوماموتو اليابانية.

جلست الفتاتان بغرفة الفندق، وكانت أميرة تثور غضباً في وجه آمنة بسبب تأخرها في الرد على رسائلها خلال الثماني وأربعين ساعة الفارطة. “لا يعجبني ذلك، ذلك لا يعجبني أبداً، عليك أن تردي سريعاً متى أحتاجكِ، لقد كدت أفقد أعصابي منذ البارحة إلى اليوم، لم تفارق مرآة الجيب يدي طيلة هذه المدة، حتى أنني كدت أستسلم لسؤال إحدى تلك العاهرات التي تعملن رفقتي عمّ يجول بخاطري، وهذا كله بسببك، لماذا لا تردين على اتصالاتي، هاه؟، أقسم أنني اتصلت بك ستة وثلاثين مرة حتى علمت أنك في اليابان، أتدركين كم كلفني من جهد ومال أن أصعد مع فريق طائرة أخرى متجهة إلى اليابان؟ حسناً، ذلك الآن لا يهم، تعالي وألقي نظرة جيدة على وجهي ثم أخبريني بما ترينه بكل دقة!”.

“أميرة! كفاكِ عبثاً، أتسمعين نفسك بماذا تتفوهين؟ لم أكن في حالة جيدة طيلة الأسبوع وها قد استعدت البعض من عافيتي فقط لأسمع منكِ هذا الهراء». قابلت آمنة ثوران أميرة بشيء من مثله لكن ذلك كان معتاداً بينهما فسرعان ما يهمد غضبهما.

أجلست أميرة صديقتها قسراً على كرسي بجانب مرآة الحائط، أمسكت بأناملها وجمعتها بين يديها وقرّبت وجهها إلى وجهها، الأعين تقابل الأعين، الأنف يقابل الأنف، والشفاه تقابل الشفاه. ليستا قريبتين ولا بعيدتين. «شعرة، اثنتان، ثلاث، أربع، خمس… ممم أرى السادسة في طور النمو وربما السابعة بعد يومين، حسناً إذاً، قريباً سيكون عليك تنظيف المنطقة بين حاجبيك… ماذا؟ هل أضعت ملقط شعر الحاجبين؟ أتريدين أخذ ملقطي؟ لا أمانع أبداً، بإمكانك دوماً ذلك. أهذا ما تريدين سماعه؟ ملاحظاتي الرشيقة حول حاجبيك؟ حسناً لك ذلك، لنفعل هذا طيلة اليوم.” قالت آمنة.

“سحقاً، ليس ذلك” نهضت أميرة من على الكرسي وقامت بجولة حول الغرفة في محاولة لاستعادة أنفاسها. كان قلبها يخفق بشدة فهي ما إن تتلقى ملاحظة حول حاجبيها حتى تدخل في حالة من الذهان العصبي. الأمر أقل وطأة مع آمنة حين يحصل معها الأمر ومع ذلك لم تتهاون في كبح مشاعرها هذه المرّة وتركت دموعها تنهمر بغزارة. “ليس ذلك لا ليس ذلك”. قالت وهي تدور من جديد حول نفسها ثم قالت مرة أخرى “أعلم أنك سئمت مني، ولكني أشعر بتوجس خطير حول شيء آخر، لا أطلب منك الكثير، فقط النظر ملياً في وجهي وإدلاء ملاحظة واحدة.”

حاولت آمنة أن تكسر توترها فأعادت إجلاسها إلى كرسيها قبالة مرآة الحائط ثم طوقت يديها حول رقبتها وأسندت رأسها إلى جانب رأسها كعناق خفيف من الخلف.

نظرت لوجه أميرة المرتسم من خلال المرآة وبدل أن تدقق النظر في تفاصيله جاءت على حين غرة أعينها على وجهها نفسها: خصلات شعر أفحم متضررة من أثر السشوار غطت جبينها، وجه طويل خال من التورد، أنف بارز، شفاه أرجوانية وفك تبرز منه عظام كالأجنحة بفعل المضغ الدائم للعلكة. تذكرت أيام الجامعة حين لم تكن مدمنة بعد على الكوكايين. حينها كان وجهها رغم هزاله متورداً. بعد عقد تقريباً صارت تظهر عليه تورمات وبقع سوداء في كل مكان ومن الصعب إخفاؤها إلا بالمكياج الثقيل. كانت تبدو قلقة وتتمنى أن تتبادل مكانها مع أميرة، أن تكون هي الطرف الذي يشتكي وينتحب، ولكنها عوض ذلك شعرت أنها مجبرة على سماع هراء أميرة المتكرر مرة أخرى بعد، وأن تسمعه بآذان صاغية وصدر رحب.

“ها أنا أنظر يا أميرة، ها أنا أنظر. جميلة كعادتك وشعرك في أبهى حالاته. فقط لو تضعين أكثر قليلاً من الغلوس على شفتيك فهما تبدوان متشققتان بعض الشيء. كما يبدو وكأنك لم تضعي بودرة الوجه جيداً على جبينك فهي بحاجة لإصلاح سريع بإسفنجة الزينة. ربما لأنك أتيت مسرعة فلم تنتبهي لذلك”.

“هذا هو”. نظرت أميرة لآمنة عبر المرآة بحدقتين واسعتين كأنهما قعر حزن لا متناه.

خلال الأسبوع التالي، عاشت أميرة فترة من التوتر الشديد، فقد عادت إلى تونس بعد أن طلبت إجازة مرضية مدفوعة الأجر. وفي عصر الخميس الموافق لـ 12 من تشرين الأول كانت على بعد خطوة صغيرة من أن تطأ قدمها مدخل المركب الطبي بانوراما. لم يستحوذ عليها هاجس التفكير في المغادرة كمثل شخصية من فيلم تشويق على مقربة شبر واحد من أن تدمر حياتها ثم انثنت عن ذلك. بل على العكس تماماً كانت اللهفة نحو كابينة الطبيبة تنهش الفجوات بين أصابع قدميها حتى تُسرع أكثر في وصولها. كم كان مروعاً إدراكها أن التوجس حول مشوباتها الجمالية لم يعد فكرة عابرة فحسب وإنما ضيفاً يتغذى على خوفها الدائم، كائناً يغرز إبرَهُ من الداخل كلما شعر ببطء مضيّْفته، نسيانها، هدوئها وسعادتها. كائن يهاجم بسرعة خاطفة مناطق حساسة في العقل ليستعمر كامل أعضاء الجسد البعيدة. كان من المروّع أنها تفهم كل ذلك وهي تضغط على زر الرقم ثلاثة بعد تأكدها من يافطة الطبيبة عند المدخل والتي كانت على لوح برونزي لا يشبه اليافطات الأخرى التي تجاوره وكأنه شيء من البهرجة الاستعراضية.

في مرآة المصعد الداخلية، تمّلت وجهها وكأنها تودعه. كانت أمواج التجاعيد الرقيقة تلك على جبهتها تناديها بصوت سوداوي. ليست كثيرة وليست حتى ظاهرة للعيان، ولكن الإنسان يرى ما يتوجسه. خطفت نظرات سريعة تفقدت فيها شعر حاجبيها، كانا مقلمين حتى آخر شعرة زائدة منه ومع هذا لم يبعثا فيها ولو القليل من الطمأنينة. على العكس تماماً إذ أخرجت مشطاً صغيراً لتعيد به ترتيبهما قبل أن يفتح باب المصعد.

“ها هي صاحبة الحظ السعيد” قالت الدكتورة نائلة بطيخ بوجه متبجح وكأنها إزاء تسليم جائزة الفوز باليانصيب.

دخلت أميرة لكابينة الطبيبة وهي ترتدي جينزاً ضيقاً عالي الخصر بأرجل طويلة ومفتوحة. ومن الأعلى ‘توب’ قصيراً معلقاً على أكتافها بتلك الخيوط الرقيقة غطى منطقة صدرها فقط. ولأنها لم تكن فاخرة الجسم لنتصور أنها لم تكن ترتدي حمالة صدر. أما في قدميها فقد ارتدت حذاء ‘كاجوال’ أبيض اللون وقد كان كل شيء متناسقاً بعناية. تقدمت نحو مكتب الطبيبة وجلست إلى إحدى الكرسيين قبالة المكتب وأخذت السيدة الطبيبة والآنسة الشابة في الحديث عن الأحوال السياسية بشكل مسطح ورديء للغاية. لا يستطيع الانسان التونسي مقاومة الانجذاب إلى مثل هذه الحكايات، فما إن تسمع أحد اثنين قال “غلات الدنيا” حتى يبدأ الآخر في سرد المقاربة السياسية التونسية ومقارنتها بأخرى؛ ببلدان الشرق الأوسط أو البلدان الآسيوية على سبيل المثال. وقد كان هذا رأي الطبيبة نفسه بعد أن عرضت على أميرة كتلاً من المعلومات حول دبي وعن هونغ كونغ بعد زياراتها الأخيرة.

رنّ هاتف الفاكس على طاولة المكتب فاستأذنت الدكتورة من أميرة أن تجيب فوراً وحتى قبل أن تسمع أميرة كانت بالفعل على الخط. “مدام نايلة، مساء الفُلْ” قال كريم طريطر مُحاسب الطبيبة والمهتم بجدول خلاص أدائها.

“كريييم. شيء بداخلي أحس أنه أنت.”

“هاها، كعادتك مبتهجة يا دكتورة. كيف كانت رحلتك؟ أخبرتني سكرتيرتك أنك قد عدت قبل يومين. أعتذر عن كل هذه السرعة، وددت لو تركتك ترتاحين أسبوعاً على الأقل ثم اتصلت بك، ولكن الأمر لا يقبل الانتظار. حسنا بما أنني قد تحصلت عليك على فاكس العمل سأفترض أنك خارج الخدمة. ما رأيك إذن في أن نشرب القهوة بمقهى البيليني، تمامِ الخامسة؟”

“لا يا كريم، إني أعمل مع مريضة بالفعل، كما أنني على موعد عشاء الليلة ولذا ستكون رؤيتك مستحيلة. لكنك لن تتركني فريسة للفضول، أليس كذلك؟ هيا أخبرني ما الجديد عندك، ثم حين نلتقي سأحدثك عن رحلتي”.

“آه، لن أطيل عليك إذن. قريباً سيكون علينا مد المصالح الجبائية بالفوترة، وبما أنني تحصلت على معلومة شبه مؤكدة أنك دخلت مجال زيارة أعوان الجباية من أجل المراجعة فسيكون من المنطقي والآمن أن نتمهل قليلاً في هذه المرّة. سأرسل إليك مساعدي خلال هذا الأسبوع وأرجو أن تمديه بكامل الوثائق الصحيحة لأتمكن من صياغتها داخل مذكرة الأتعاب”.

أنهت الطبيبة اتصالها مع المحاسب بألفة مصطنعة وعادت معتذرة بشأن ذلك لأميرة. وقد كانت تلك المرة الأولى منذ أن باشرت العمل كأخصائية تجميل ترفع فيها سماعة هاتف الفاكس ومريض من مرضاها بكابينة العلاج. وهو ما كان كسراً مفاجئاً لاستقامة مهنية دامت على مدار عشرين عاماً من الاستشارات المدفوعة. عم الصمت لبرهة في أجواء الكابينة…” مذكرة أتعاب” قالت الطبيبة.

لكن أميرة لم تفهم.

“الفواتير. صارت تسمى مذكرة أتعاب. لقد احتججنا طويلاً حتى تمكنا من تغيير المصطلح من ذاك إلى هذا. أعتقد أنك تغيبت طويلاً عن مجال الجباية، ولهذا سأعلمك بالخبر. السنة الفائتة كنا قد تحركنا نحن أصحاب المهن الحرة بمطالب عديدة من أجل تنقيح الفصل التشريعي الخاص بالواجبات المتعلقة بالفوترة. ماذا؟ أنحن “حمّاصة” أم “عطّارة” حتى نمدهم بفواتير؟ لم أدرس لعقود حتى أتساوى ببائع البقالة. القصيد هنا يا أميرة أن أصل التفاوت بين الناس هو البهرجة. يجب أن يكون كل شيء مُبهرج، لامع واستثنائي. والبهرجة شيء نُضيفه إلى حياتنا بالرغبة في ذلك. انظري حالتك مثلاً، لا فرق بين سيرفوز بمقهى ومُقدمة طعامٍ على الطائرة سوى أن الأخيرة تُسمى hôtesse de l’air. إن ذلك مُبهرج بشكل عجيب وأظن أن عليك قوله بصوت عال أينما حللت.”

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من تونس