حديث جاد بين مِظلة وصفيحة زبالة
العدد 205 | 17 كانون الثاني 2017
محمود عبد الدايم


ساعة هاتفي المحمول تشير إلى الثالثة صباحاً. شوارع وسط القاهرة.. جميلة في هذا التوقيت. مزاجي يكاد يكون فى أحسن حالاته؛ لهذا كافأته بـ”تمشية” طويلة في طريق العودة. تحركت من بداية شارع قصر النيل، وما هي إلا دقائق معدودات وواجهت “عبد المنعم رياض” رافعًا يده فى وجه الـ”لا أحد”. أدرت رأسي سريعاً تجاه المتحف المصري. سيارة مسرعة أخذتني من “الفريق الشهيد”، لحظات.. لحقت بها ثلاث سيارات.. صوت الموسيقى العالي أكد أن “في الأمور أمور”.

حاولت تتبع مسيرة السيارات أثناء صعودها مطلع كوبري أكتوبر، بدأت في إعداد رأسي لتجهيز سيناريو تخيلي للأمر. عدلت عن التفكير ونحيت الأمر برمته جانباً.

-البيرة الملعونة تجعلني أشبه بكلب يتبول، يريد أن يتبول على كل الحوائط التى يقابلها، ورغم هذا أحبها…!

قلتها بعدما صرخت مثانتي الممتلئة.. انتحيت جانبًا. تركت العنان لنفسي. انقطع خيط الماء بعدما التقطت أذني أصوات “فرملة” .. توقعت انهيار العربات الأربعة فوق الكوبري… المقدمات المتسرعة دائما نهاياتها تكون محزنة.

أنهيت معاناة مثانتي، وتركت قدميّ تحملاني إلى داخل موقف “عبد المنعم رياض” لعل ميكروباص يهوى التسكع مثلي يلتقطني في رحلة العودة.. لكنه كان “خاويًا على عروشه”.. النار أحرقت مقدمة سيجارتي الثالثة منذ مغادرتي “البار”.. اعتدت إحصاء السجائر المتبقية.. 9 كانوا.

-مش محتاج بقي تموين لحد الصبح.

تمتمت بها وأعدتُ العلبة المعدنية إلى جيب الجاكيب الداخلي، مررت يدي عليها مرة أخرى، لعلها سقطت سهوا ولم تنم قريبة من قلبي، اعتدت أن أمرر يدي على كل ما يخصني لأطمئن لوجوده.

-أنا عارفة إنك بتكره أمشير بالذات .. بس بإيدك إيه؟!

العبارة اخترقت أذنى.. حروفها واضحة كلماتها هادئة حزينة.. ما بيدها حيلة، التفت ورائي بحثاً عن مصدر الصوت لم أجد أحدًا، وليتُ وجهي ناحية اليمين، لكن الفراغ اللامتناهي صفع نظرتي نصف المستيقظة، أعدت التلفت يمينًا ويسارًا.. لا أحد…!

طيب..

ما لا أفهمه في حياتي أمنحه كلمة “طيب”، قلتها وأعدتُ النظر لساعة هاتفي المحمول؛ محاولًا إلهاء خوفي واضطرابي بإحصاء الدقائق (الثالثة و25 دقيقة، الثالثة و26 دقيقة .. الثالثة و72 دقيـ…)

عارفة.. أنا بأكره كل النهايات.. نهايات الأيام.. نهايات فصول السنة.. بس بصراحة مش بأكره نهايات الحب.. ممكن عشان مجربتش..!

الكلمات هذه المرة اقتحمت أذنيّ، حاولتُ أن أقنع نفسي أن “الكحول” هو السبب، الاستعاذة من شيطاني، لم تكن ذات جدوى، فحلقي المعطر برائحة الخمر حرمني لحظة الإيمان العابرة.. وقد كان.

“خوفي من خوفي ليكبر ..خوفي. من أفارق الدمعة.. وأبقى وحدي بالليالي.. وما أثق بضوء شمعة”

ذاكرتي أسعفتني بالمقطع الغنائي.. حاولتُ التعاطي مع الأمر.. مجاراة المحادثة الغامضة التي تدور أمامي، ألقيتُ نظرة خاطفة فوقي.. سطح “المظلة” المتسخ صامت.. على يساري ترقد “صفيحة زبالة” بائسة.. وما لا يزيد عن أمتار خمسة تفصلني عن إشارة المرور الأوتوماتيكية التى وضعت لتنظيم المرور صباحًا فقط، وعندما تنتهي مناوبة العسكري تبقى وحيدة لإضافة عنصر السلطة على المشهد.

عيناي مسحت محيطي من جديد، ولساني أعاد “دندنة” المقطع للمرة العاشرة، وفي المرة الحادية عشرة عادت الأصوات لتخترق صمتي.

– أنت دايماً كده.. مكبر كل حاجة.. الفلسفة دي هاتوديك فى داهية.

الصوت هذه المرة جاء من ناحية إشارة المرور.. أعجبتني اللعبة، تركت سيجارتي تسقط من يدي، لا أحب أن أضغط عليها بحذائي.. أتركها مثلي تحرق نفسها، وتموت في صمت دون إهانة أو ضغطة حذاء قاسية تفسد لحظات الحياة الأخيرة.

– خليكي في النظام بتاعك.. أنت تعرفي إيه عني عشان تتكلمي.. ده أنت لسه جاية من كام شهر.. أنا هنا من أيام مظاهرات “الغلابة”.

الصوت جاء من فوق رأسي…!

– قصدك الحرامية اللي كانوا عاوزين ينهبوا البلد.

الكلمات حملها الهواء المقبل من ناحية إشارة المرور..!

– حرامية .. غلابة.. أهو كله محتاج.

أشعلت سيجارة جديدة.. الحديث اتخذ منحنىً خطرًا لا يمكن متابعته بدون سيجارة مشتعلة، تجاهلت إهدار “التموين الصباحي”، وأصغيت.. فتحدث الصوت الحزين من جديد.

-إحنا كلنا إيه أصلا.. والحب ده إيه.. والكره كمان.. دي مشاعر بشر مش لأمثالنا..!

الصوت هذه المرة كان مقبلًا من ناحية “صفيحة الزبالة”..!

-“الحكاية قلبت بعفاريت”.

قلتها بيني وبين نفسي، وأكملت:

دول إيه بقى.. شكلها أيام سوداااااااا.

– بشر إيه إللي بيحبوا.. ما أنت شايفة كل يوم كام واحد بيعدي قصادك.. كام واحد حاسس بيك.. عارف قيمتك.. واحد.. اتنين.. عشرة.. من مليون، أنا أهو قدامك.. دايمًا موجود، كل حاجة بأقدمها للبشر بتوعك.. بس النتيجة إيه.. شوفي بعنيك.. ركزي في شكلي بقى إزاي.. كنت إزاي.. والبشر بتوعك خلونى إزاي.

الصوت كان غاضبًا جدًا.. جاء هذه المرة من فوق رأسي.. لامست نيران حروفه أطراف شعري، وللحظة اشتممت رائحة احتراق، وضعت يدي على رأسي.. شعري في مكانه لم يمسسه سوء.

– أنت دورك ده.. وعارف إنك موجود عشان كده.. أما التصرفات إللي وصلتك للحال ده فإحنا ملناش ذنب فيها، كل الدنيا فيها كده وكده.. ماتلومش حد.. حتى إللي خلقك ماتلموش.. هو كمان كان نفسه في حاجة.. طلعت حاجة تانية.

هنا قررت منح الأطراف المتحدثة ألقابًا، لا أحب أن يعبر مجهولون حدودي.. أول حرف من اسم أبي منحته للصوت الغاضب.. الصوت الهاديء الحزين، قريب الشبه بصوت أمي، منحته اسمها كاملًا هذه المرة عن طيب خاطر.. البعيد عني بخمسة أمتار أعطيته- مرغمًا- حرف “س” ولم أكلف نفسي عناء مَنحه اسماً كاملاً.

جاء صوت أمي، القريب بأمي، هذه المرة:

– أنت موجود عشان وجودك مهم، بص حواليك كده، شوف الزوايا إللي أنت مش فيها شكلها إزاي.. مهجورة.. مالهاش لازمة.. أنت موجود عشان تمنح وماتنتظرش شكر.

“س” قاطع صوت أمي.. وأكمل دون أن  يقدم اعتذارًا عن المقاطعة:

– أتحداك تقدر تغير حاجة.. أنا أفهم أكتر منك.. ومكانتي مخلياني شايف كل حاجة وبنظرة واسعة.. أنت في نعمة، وجودك عادي.. وغيابك أكتر من عادي.. كمل كمل.. والعن كمان لحد ما تترفع من فوق الأرض.. ويومها هاتقول “ولايوم من أيام زمان”.

الصمت غلف المكان دون أية مقدمات.. أضواء خاطفة انعكست على قاعدة إشارة المرور لحظات، ألقت بخيوط شبه ميتة على صفيحة الزبالة، وتوقفت كثيرًا على حائط المظلة التى أجلس تحتها، أطفأت السيجارة، وضعت يدي اليسرى فوق عيني، وأشرت باليمنى لسائق الميكروباص.

– “مطبعة.. يا باشا؟”.

– هو فيه باشا بذمتك يا هندسة بيقعد هنا  الساعة دي مستني حضرتك؟!!!

– يعنى هو فيه هندسة بيسوق ميكروباص حضرتك..!

لن أتركه يربح معركة الكلام.. لهذا أكملت:

– بصراحة فيه.

أخذها السائق وصمت. قفزت في المقعد الأخير.. أخرجت رأسي من الشباك.. ألقيت التحية على صفيحة الزبالة.. ربتُ بيمناي على جدار المظلة.. وعندما بدأت السيارة رحلة المغادرة منحتُ قاعدة إشارة المرور “بصقة” من النوع الثقيل.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وصحافي من مصر.