حب في خريف مائل
العدد 150 | 20 نيسان 2014
سمير قسيمي


في صبيحة عيد ميلادي الخامس والثمانين، استفقت مذعوراً من فكرة أن أحدهم يحدق فيّ وأنا نائم. فتحت عينيّ فوجدتني ألهث بوجه مبلل وشفتين جافتين بطعم الليمون البري.

بدا الأمر من أول وهلة على أنه حلم سيّء تشاركت في كتابته عادات أكثر سوءاً، اكتسبتها على مدار عقود من اللامبالاة بجسد شاخ قبل أوانه، لم أعتقد أبداً أنه يليق بي ليكون جسدي. ربما كانت تلك طريقتي للانتقام من الطبيعة التي وهبتني شكلاً لم يرضني في شبابي ليرضني الآن وأنا في مثل هذا العمر.

مجرد استيقاظي على صوت أنفاسي المتقطّعة، شكل خيبة أمل جديدة أضفتها إلى قائمة بدأت ولا يبدو أنها راغبة في الانتهاء. لقد خاب ظني مرة أخرى في الموت، والذي خلت لأكثر من عشرين سنة أنه سيكون سعيداً بضمي، لا لشيء إلا لكون بقائي في هذه الأرض لم يعد يعني لي أكثر من بقائي فيها. ثم إن الحياة التي خضتها بعد الخامسة والستين  لم تضف إليّ وإلى الحياة إلا أصفاراً إلى اليمين.

ربما كانت الخامسة فجراً حين فتحت عينيّ على أول يوم لي في عامي الخامس والثمانين، والذي لم يكن بالنسبة لي يوماً جديداً بقدر ما كان يوماً إضافياً بلا جدوى. أحياناً ترغب المشيئة في العبث بأن تكتب حواش كثيرة على صفحات فارغة، أو تضيف شروحاً سخيفة لنصوص ممعنة في السخافة.

سمعت وقع أقدام لراجلين اعتادوا الخروج في مثل هذا الوقت، بعضهم ليبدأ يوماً جديداً من عمر يقضونه في التذلل للحياة حتى تبدأ، وحين تفعل يجدونها انقضت في الوقت ذاته، لتحاصرهم في النهاية فكرة الموت وضرورة التحضير لحياة أخرى بعده. هكذا ينضمون إلى البعض الآخر من الراجلين الخارجين في مثل هذه الساعة فجراً للصلاة، يحذوهم الأمل في حياة أخرى يرجونها أفضل.

أتساءل إن كانت الحياة لتكون أكثر متعة لو ألغينا من قواميسنا فكرة الانتظار، فلطالما اقترنت هذه بالأمل. ماذا كان ليحدث لو ولد الإنسان من غير أن ينتظر الغد، من غير أن يتساءل عنه. يعيش يومه فحسب، وحين ينقضي يمسك بزمام غده ليعيشه من دون أن يتساءل عن أمسه الذي مضى؟.. ماذا كان ليحدث لو فقط توقف عن يقينه الكاذب في أن الغد لا بدّ آت، وأن عليه انتظاره ليعرف ما سيكون؟..

أدرك أن اختلافنا كبشر واعين بحقيقة ذواتنا أهم ما يميزنا عن كائنات هذه الأرض، إلا أن هذا الوعي عوض أن يتبحّر في دواخلنا يحاول التعلق بمكان تواجدنا رغم أنه منفصل عنا، لا نملكه ولا يملكنا، وبتعلقه به بدأت رحلتنا السخيفة في الحياة، رحلة بوصلتها الوعي اللامجدي بالزمن الذي لم يكن يوما لصالحنا. هذا الزمن الذي جعلنا كائنات تؤمن بالغد، كائنات عوض أن تستمتع بيومها، تهدره في انتظار ما سيحمله إليها الغد، وحين يأتي تهدره في التفكير في اليوم الموالي، وهي في كل ذلك لا تعيش حياتها بقدر ما تؤجلها لوقت لاحق لا حياة فيه.. في النهاية، لا نخوض رحلة في الحياة كما نعتقد، بل مجرد سفر نحو تلك التي نرجوها، نبدأها برغبة في معرفة كيف ستكون، لننهيها دوما بالسؤال نفسه عن حياة أخرى بعد الموت من دون يقين عن وجودها فعلاً.

ومن دون سبب واضح حثني وقع أقدام الراجلين في الخارج على ارتداء ملابسي، وعلى محاولة أن أكون لبقاً مع الحياة التي أهدتني يوماً جديداً. ادعيت الامتنان لها وخرجت على ساقين لا يعلم أحد كيف تمكنتا كل تلك العقود من حمل جسد ضخم، مترهّل كجسدي، فأنا التعريف الأكثر دقة للقبح، وحسبي أن أقول ذلك من دون أي تفصيل آخر، فأحياناً لا نجد كلمات لنصف أنفسنا، بالرغم من وجودها دوماً حين نرغب في وصف الآخرين. ربما يكون امتناعي عن وصف نفسي طريقة لبقة للاحتجاج على الطبيعة التي أوجدتني على هيئتي، أو هي طريقة لأهيئ الظروف لما سأرويه لاحقاً، لاعتقادي أنني مجرد ناقل لقصة لست أهم من فيها. ومع ذلك تبدو حقيقة ذكري لبعض الوقائع في حياتي مهمة في سبيل رؤية الصورة الكاملة لكل ما سأرويه.

ربما كانت التاسعة صباحاً، حين قررت التوقف عن السير بعد أن خرجت من شقتي، فقد دأبت على المشي الصباحي منذ عشر سنوات تنفيذاً لأوامر طبيب يدّعي صداقتي رغم أنه يثمّنها في نهاية كل زيارة له بمقابل. أحسب أنني أغلى صديق أمتلكه لحد اليوم، فقد انقضت أربعون سنة منذ أول مرة دخلت فيها عيادته بسبب التواء كاحل، وحسبي أن أعرف ألا أحداً من أقراني-ممن كانوا زبائن لديه- استمرت علاقتهم به أكثر مني.

كان صديقي “بمقابل” يذكّرني في كل زيارة بضرورة أن أفعل شيئاً إزاء صحتي. وكنت في كل مرة أذكّره بدوري أنني أتعمّد ألا أفعل شيئاً رغبة في إغواء الموت، لكنه كما يبدو عصيّ على الإغواء، حتى أنني  ورغم استهتاري الصحيّ، لم يلازمني أي مرض مزمن ممن يصيب من كانوا في مثل عمري أو من كانوا في مثل لياقتي. كان طبيبي يصف حالتي في البداية بـ”الأمر غير المعقول”، ومع مرور الزمن سماها “المعجزة الطبية”، وفي آخر عشر سنوات سماها “رحمة الله”. أما أنا فلم أعتبرها إلا حلقة جديدة من سادية الطبيعة، وحبها المزمن للعبث.

تخيّرت مكاناً في حديقة خميستي وجلست.

كان باعة الكتب القديمة بشرههم المعتاد وطيبتهم المصطنعة وادعائهم الكاذب بمعرفتهم بجميع ما يبيعون، في مكانهم كالعادة في العادة. وكالمعتاد أيضا، تراءت لي أكوام الكتب التي لم يعد يقرؤها أحد. أخذت الحياة في هذا الوطن منحى آخر، بعيد كل البعد عن العقل. انسلخت الأرواح من أجسادها، وصرنا جثثا تمشي يملؤها الخواء. لا شيء يبدو قادرا أن يملأ الفراغ الذي في كل يوم يحتل مساحات جديدة فينا، لا شيء ولا أحد.. حتى الله.

في العادة، لا أحب الأماكن المفعمة بالحركة. ولكنني بسبب التعب أو ربما بسبب ساقيّ المنتفختين، وجدت أن جلوسي هناك -إلى حين- فكرة صائبة يمكن احتمالها لربع ساعة.  وكان الأمر ليكون كما اعتزمت لو لم يجلس بجواري عجوز في مثل سنيّ. أو هكذا خمنت أن يكون عمره، لأدرك لاحقا أنه يصغرني بسنوات.

كان أنيقا للغاية، نحيلا بوجه أبيض محمرّ وأسنان مفرطة في البياض. لم تكن اصطناعية، فأنا أكثر الناس قدرة على تبين هذا التفصيل لامتهاني جراحة الأسنان لأزيد من ثلاثين سنة. ولأنني كذلك لم استرح لوجود هذا العجوز بجواري، فالمثل السائد في كون الرجل المعتني بأسنانه وحذائه رجل يمكن الاطمئنان له، مجرد كذبة لا غير. وكنت لأقول عنه العكس بسبب بقائه مبتسما كل الوقت من دون سبب واضح.

كان يتطلع إلى المارين بجوارنا بعينين مشعتين، تحتفظان ببريق لا يصلح أن يكون في حدقتيّ شخص في مثل عمره، وإن حدث فليس بمثل ذلك الإصرار الذي كان يبديه في محاولة رصد أي حركة في الجوار. لم يكن لديّ شك في كونه شيخ متصاب، لم يجلس هنا إلا لتصيّد بعض العاهرات الرخيصات ممن لا يملكن القدرة ولا الجمال في جلب زبائن أفضل. لكنني حين تأملته أكثر، سرعان ما أدركت أن نظراته خالية من الشهوة. كانت نظرات تفيض فضولا كأنه رجل خرج من السجن للتو بعد أن قضى فيه عمرا. وعلى حين غرة بادرني بالسؤال:

– هل أجد عندك سجائر؟

هززت رأسي بالنفي وحاولت القيام.

أضاف:

– أوجدته سؤالا غير لائق؟

لم أجبه، وأشرت إلى الناحية الأخرى من الحديقة، حيث يوجد كشك لبيع السجائر.

ضحك وقام بدوره يحاول مساعدتي على النهوض. فالجسد الذي تحمله ساقاي يجعلني أستغرق وقتا غير معلوم في الغالب للقيام كلما جلست.

شكرته كما يقتضي الحال، محاولا أن أبتسم لعلمي أنه سلوك حضاري مجبر عليه قد يعني له نوعا من الامتنان من قبلي، رغم أنه لا يعني لي شيئا في الحقيقة.

عاد العجوز إلى الحديث:

– يمكنني أن اشتري لك معي سجائر لو رغبت.

رسمت له ابتسامة أخرى على وجهي، وأنا موقن أنه يملك من العقل ما يجعله يفهم منها عدم اهتمامي باقتراحه الساذج، ولكنه أصرّ مضيفا:

– انا أحب سجائر الروتمانس، هل ترغب في نفس النوع أم تفضل نوعا آخر؟.

لم أجبه، وفضلت أن أصمت، وظني أنه سيفهم أنني لا أرغب في محادثته وفي سجائره.

فكرت في أن العجوز إما طيب جدا وإما بليد للغاية، وفي كلتا الحالتين سيعني له صمتي ولامبالاتي أنني غير مهتم باقتراحه. وقبل أن أبدأ أولى خطواتي نحو شقتي، هرول في اتجاه الكشك. ثم لم يلبث أن عاد وفي يده علبة ومدها إليّ:

– لم تخبرني عن نوعك المفضل، فاشتريت علبتين من نفس النوع، آمل أنها ستروقك.

سألته بالفرنسية، وكانت تلك عادتي كلما حدثني غريب. أدرك أنها تبدو عادة قد يفهم منها أنني متبجح، ولكنها طريقتي في وضع ما يجب وضعه من شروط لمحادثتي. أقلها أن يملك محدثي حدا أدنى من التعليم والثقافة.

– أشكرك ولكن يبدو لي أنك قد فقدت البصر وربما القليل من العقل لتفكر أنه يمكنني التدخين، ألا يمكنك وأنت تنظر إلى وضعي أن تخمن في استحالة ذلك؟

أجاب:

– عن أي وضع تتحدث، باستثناء السن الذي قد نتشارك فيه، لا يبدو لي أنك تعاني من أي خطب.

ضحكت، فعلى الرغم من مظهر هذا العجوز، فلا شك أنه أحمق. يسأل شخصا في الخامسة والثمانين، قصيرا، مفرطا في البدانة عما يمنعه من التدخين. إلا أنه وهو يقول ذلك، بدت لي الفكرة رائعة، كيف يعقل أنني لم أفكر في الأمر من قبل.

قلت: “لا خطب على الإطلاق”. وانفجرت ضحكا من حمق الرجل الذي أهداني طريقة مبتكرة لإغواء الموت. أضفت: “لنجلس هنا”. وأشرت إلى مقعد بعيد عن باعة الكتب القديمة وطاولاتهم.

قال من غير أن يبدي اهتماما بسبب ضحكي:

– قد لا أعرفك جيدا، ولكن يبدو لي أنك رجل منطو.

لم يقل ذلك بعدائية مثلما تفترضه طبيعة هذه الجملة، بل قالها وكأنه يخلص إلى نتيجة منطقية عبر أسباب لا يبدو أن أحدا سواه كان قادرا على إدراكها. في الحقيقة نطق بذلك من غير أن يبدو ما قاله حكما من أي نوع. مجرد ملاحظة عابرة أملاها عليها الحدس.

وإن كان صادقا في حكمه إلا أنني ربما رغبة في الاحتجاج (كأي شخص طبيعي) قلت:

– هل لأنني استغربت من أن تهديني علبة سجائر؟. الأمر بديهي لا علاقة له بالانطواء، بل بعدم وجود منطق في أن تفترض أن قزما هرما يزن قنطارا ونصف يمكنه التدخين من دون أن يُخشى عليه الموت. مع احترامي لك، هذا افتراض أحمق.

– وعدائي أيضا.. ولكن قل لي هل تخشى التدخين لأنك تخاف الموت؟

فجأة شعرت بالارتخاء. ذلك أن طريقته في تحويل الحديث، جعلتني أدرك أنني لست بصدد رجل أحمق كما تصورت، بل رجل يملك القدرة على إدارة محاورة قد تروق لي.

قلت:

– بالعكس، حتى أنك هديتني إلى فكرة لم تخطر ببالي لأعجل من أجلي. هذه عشرون سنة أقضيها في انتظار الموت، ولكنه كما يبدو منشغل بأناس تشغلهم الحياة.

– لو كان الأمر كما تقول لفكرت في الانتحار. لا أظن أن رجلا مثلك تعوزه الحيلة في إيجاد طريقة في الموت بغير ألم.

هززت رأسي موافقا، وقد وجدتها فرصة للتبجح ولإخباره أنني كنت جراح أسنان، ثم عرضت عليه قائمة طويلة من المخدرات والسموم التي تحقق رغبة الإنسان في ميتة رحيمة. وكنت كلما ذكرت له اسم مخدر أو سم إلا وأخذ يحدثني بنحو مفصل عنه، بدقة رجل متخصص في الطب.

سألته:

– هل عملت في مجال الطب أو الصيدلة؟

– تمنيت ذلك ولكنني لم أنل من التعليم ما يسمح لي بذلك، ولكن قل لي، لمَ لم تجد الانتحار طريقة مناسبة للتخلص من الحياة، ما دمت ترغب بشدة في الموت؟

أجبته مبتسما:

– الله.

ضحك، ثم قال وهو يشعل سيجارة:

– حجّة كنت لأقبله من سواك. أما أنت فلا أعتقد أنك تفكر في الله بتلك الطريقة. لا أدري ولكنني أثق دائما بحدسي، وهو يهمس لي الآن أنك تملك سببا آخر غير الخوف من الله.

قال ذلك وأشعل سيجارة أخرى وسلّمنيها. هززت رأسي مبديا عدم رغبتي في التدخين، فألقاها من غير إلحاح.

قلت:

– صحيح، لم يخطئ حدسك هذه المرة. لنقل أنني رجل يؤمن بالله بطريقته، ومهما بدت لك غريبة، فهي لا تجعل منه سلطة تستمتع بالعقاب. فمثلا لا أومن بالجحيم كمكان يوضع فيه العصاة، بل كفكرة خيالية رادعة أوجدها الله فقط للإخافة. إن مجرد إيماني به كسلطة تفوقني على الأقل إدراكا، تجعل من فكرة معاقبته لأشخاص قرر لهم حياتهم بأزمنتها وأماكنها وظروفها فكرة غير معقولة على الإطلاق، هل يمكن أن تلوم حجرا تلقي به على أحدهم، فتعاقبه بالسحق لاحقا بتهمة أنه آذى سواك؟. أعرف انك ستقول لي أن الحجر لا يفكر فيختار لنفسه وجهة أخرى أو يستمر في وجهتك، أجيبك أن العقل الذي نملكه، لا يقرر في الاحتمالات ولكن يخوضها فحسب. الإيمان بالقدر يفترض الإيمان بمعرفة الله لكل تلك الاحتمالات مسبقا، ومن ثمة معرفته بكل المسارات المحتملة التي لن تكون في النهاية خيارات أمام الإنسان، بقدر ما هي ما رسمه (المدرك الأكبر) قبل قيام تلك الاحتمالات. يعني مهما اخترت، فلن تختار مسارا لم يقدر من قبل. هذا إذا آمنت فعلا بالقضاء والقدر. كل ذلك لأقول لك أنني لا أومن بأن الله سيعاقبني لو انتحرت، لأنني لا أومن بالجحيم، ولست على يقين بوجود الجنة وحياة أخرى بعد حياتنا. لا أومن بوجودهما المكاني الملموس، على الرغم من إيماني بوجودهما كفكرة خيالية أوجدها الله للترهيب أو الترغيب. إنها فكرة رائعة تخلق نوعا من التوازن بين الخير والشر في هذه الحياة.

قال وقد بدا عليه الاهتمام، رغم أن ملامح وجهه جعلتني أتصور أن ما طرحته من أفكار لم يضف إليه جديدا. لقد علمتني التجربة أن الخوض في مسألة العقائد من شأنه أن يخلق نوعا من الإرباك أو الاهتمام المفضي لردة فعل ما، أما اهتمامه هو فلم يكن أكثر من إصغاء بلا ردة فعل:

– لم تجبني لحد الآن.

– بل أجبتك ولكن لا يبدو أنك تحسن الإصغاء.

قلت ذلك وقد تملّكني شعور بالغبطة، تماما كالذي ينتاب عالم رياضيات وهو يبرهن على نظرية لم يدركها سواه. أعتقد أن في لحظات كهذه تسمح المشيئة للإنسان بالشعور بفردانيته، حتى أنها وفي حالات نادرة تلقي عليه بشيء ولو ضئيل من نورها لتتمظهر فيه، رغبة في إيهامه أنه والله سواء.. يعلم ما لا يُعلم.

لم تدم غبطتي طويلا حين علقّ:

– صدقت، الآن فهمت، أنت لا تعتبر الانتحار خيارا، لأنك لو انتحرت فلن تكون إلا منفذا لأمر قد تقرر سابقا، واحد من الاحتمالات المقررة مسبقا. كما أنه سيكون منافيا لتصورك لله، فليس على موزع الورق أن يصبح قبل انتهاء اللعبة طرفا فيها، هو من يعلن بداية اللعبة وهو من يقرر لاحقا بسبب ورقك إن تستمر أو تتوقف عن اللعب. الانتحار يدفع بالموزع أن يتدخل ويصبح لاعبا.

ضحكت من طريقته في قول ما أردت، ولكنه في النهاية أدرك مغزى قناعتي، لذلك سألته:

– أعترف أن الحديث معك ممتع، إلا أنني مضطر للعودة إلى منزلي، ولكن قل لي ما الذي جعلك تعتقد أنني منطو؟

– انا متأكد أنك انعزالي، فقد كنت مثلك في وقت سابق، حتى حدثت معي أمور جعلتني أدركت ما ضيعت من متع في الحياة.

سألته: أمور مثل ماذا؟

– قد يحتاج الأمر وقتا، وكما أرى فأنت مستعجل للقاء زوجتك.

– رحمها الله أنا أعيش بمفردي منذ عشرين سنة؟

وعلى عكس ما تصورت لم يبد أي أسف حين أخبرته بوفاة زوجتي، ولكنه علق:

– بمفردك ولعشرين سنة؟.. يبدو أنه كان حبا عظيما جعلك ترضى بمثل هذه الوحدة كل هذا القدر من الوقت.

– حب؟.. لا يا صديقي لم أحبها يوما، ولا أعتقد أنني أحببت من قبل. في النهاية لم أومن بالحب وإن كدت أن أفعل ذات مرة.

– تبدو قصة مثيرة.

– ليست مثيرة إلى هذا الحد. لا أخفي عنك أنني كنت أحب الجنس، ثم أي رجل لا يحبه، فالمسألة غريزية ليس أكثر. ولأنني كنت كذلك فقد شعرت وأنا في الأربعين أن زوجتي بدأت تمل من الجنس اليومي، ومع عدم قدرتها على ردعي، بدأت تصبح لا مكترثة بي حتى في ذروة ممارستنا. أحيانا تجعلني أشعر أنني أضاجع جثة بلا مشاعر ولا رغبة. وأحيانا يتهيأ لي وأنا فوقها-وهي الوضعية الأكثر قبولا بالنسبة لها- أنني أضاجع عاهرة لم تعد تهتم إلا باحتساب الوقت لأقذف وينتهي الأمر. لا أخفيك أنه كان شعورا مقززا حتى بالنسبة لرجل مثلي لا يهتم بتفاصيل الجنس عادة، وبضرورة أن تجمعه بشريكته مشاعر من نوع خاص. هكذا بدأت مغامرات منهكة للبحث عن شريكة فراش. كانت منهكة على اعتبار أنني لم أكن مرشحا مثاليا بسبب هيأتي، لكنّ بحثي –ولحسن الحظ- كان ينتهي دوما عند جسد متعطش للجنس من غير الاهتمام بشكل أو هيأة الشريك. وكنت مرتاحا لهذا الوضع لأنه لم يمثل لي نوعا من الخيانة لزوجتي.

لا أدري إن كنت توافقني، فالخيانة ليست في فعل المضاجعة بحد ذاته، بل تتعلق بما يسبق ويلحق هذا الفعل، مجرد الشعور بأي شيء نحو شريكك في الفراش يحول الأمر إلى خيانة. أما إذا اختفت المشاعر، فإن الأمر يصبح شبيها بنزهة أحدهم في شارع لا يسكن فيه.

وإذ ذاك، هز العجوز رأسه موافقا.

– إلا أن الأمر لم يستمر على هذا النحو، فقد ظهرت في حياتي شابة تمكنت بطريقتها من إيهامي بالحبّ. حتى إنها لم تكن تفوت فرصة لتحدثني عن هيامها وحبها لي. أعترف أنني صدقتها وبدأت أفكر فيها بشكل مختلف، بدليل أنني بقيت متشوقا للقائها سنة كاملة، قضتها في التمنّع وإيجاد أسباب لتبرير تخلفها عن لقائي كل ذلك القدر من الوقت. كان يفصلنا المئات من الكيلومترات وقدر هائل من الهراء الاجتماعي يجعل لقاءنا مستحيلا مع استثناءات قليلة كنت أعتمد عليها لتكون مدخلي إليها.

يمكنني القول الآن أنها تمكنت مني حينها. كان غسيل مخ كامل يعتمد في شق منه على الكلام الدافئ والوعود الوردية وأحلام اليقظة الجنسية، وفي شقه الآخر على قصص المأساة التي أقنعتني بها. في الحقيقة، لا يمكنني لحد الآن رغم أن عقودا مرت على كل ذلك أن أجزم بصدق أو كذب ما أخبرتني به عنها، لعلمي أن الحيلة الكاملة ليست إيهاما مطلقا، بل حقيقة كاملة مع بعض الإيهام.

ربما أحببت في ذلك الوقت تصديق فكرة أن الحب موجود، وأنا وحدي من عمي عنه، حتى جاء ذلك اليوم الذي فاجأتني بخبر قدومها.

حتى ذلك اليوم لم نكن قد التقينا إلا مرة واحدة، وفيها تعرفت على شكلها. لم تكن من النوع الخارق ولكنها امتلكت صدرا مثاليا ونظرات تقطر شبقا، لتستمر علاقتنا لاحقا على الهاتف.

جاءت في ذلك اليوم باكرا. أخبرتني بعدم قدرتها على المبيت، وأن كل ما تملكه ساعتين لا غير، فقبلت الأمر رغما عني.

كنت في البداية متشوقا لمضاجعتها، ولكنني مع ذلك كنت أشعر بتأنيب الضمير. مشاعري نحوها جعلت الأمر يرقى من مضاجعة أتخلص من ذكراها بمجرد الاستحمام، إلى خيانة لزوجتي. لذلك أحببت أن أعرف إن كان الأمر يستحق، فقد كان السؤال الأكثر إلحاحا عليّ  مدى حقيقة حبها لي. استحوذ السؤال على عقلي، حتى رجّح لدي فكرة أخرى، صورتها لي كامرأة يمكنها تخليصي من مغامراتي الجنسية وبحثي المضني عن شريكة فراش. فكرت كالغبي أن بمقدور تلك الشابة أن تصبح زوجتي شريطة أن أكد من مشاعرها نحوي فحسب.

لم أكن أملك فكرة واضحة عن الحب، ولا أدعي أنني أملك فكرة عنه اليوم. لكنني أعرف بنحو لا لبس فيه الفرق بينه وبين الجنس. هكذا قضيت الليلة قبلها مستيقظا، رغبة في إضعاف جسدي. وقبل أن تصل بنصف ساعة، تعمدت دخول الحمام واستمنيت ثلاث مرات حتى أفرغت شحنة رغبتي. أردتها أن تجدني في أول لقاء جسدي بيننا باردا كرجل عنين. كانت الفكرة واضحة بالنسبة لي: لو كان الحب من حملها إليّ فإنها قد تستاء قليلا من برودي ولكنها ستحاول جهدها في استثارتي مهما أخذ الأمر من وقت، أما إذا لم يحملها غير الشهوة فستشعر بالضيق وترغب في الانصراف بأي ثمن.. أعتقد أنك تعرف النتيجة..

انفجر العجوز بالضحك، حتى بالكاد تمكن من النطق:

– يا إلهي كم تشبهني يا رجل..

*****

خاص بأوكسجين


روائي من الجزائر. في رصيده أكثر من سبع روايات منها: "الحالم""، و""يوم رائع للموت""، و""هلابيل""، و""حب في خريف مائل"".rn"