“الفعل هو كل شيء، أما المجد فلا شيء”
*فاوست – غوته
الطريق الصغيرة يمين الجبل أشبه بمدخل سري نحو قمة إكليلية خضراء، تتوج هذا الجزء من الأطلس. طريق تومليلين لوحدها حكاية؛ كيف تمتد وتستدير، كيف تراقص أشجار الجنبات وكيف ترمي بك من فرح صغير إلى آخر كبير..طريق تومليلين حكاية كبيرة.
لوهلة تخيلتني في جغرافية وسطى بين الحقيقة والحلم. هذا الأخير الذي تتبدى ملامحه شيئا فشيئا.
فجأة تحضرني المدينة الهادئة، طرقاتها قبل سنوات من اليوم وأشجارها المزاجية. يباغتني سرب طيور لقلاق هائج. اللقالق التي تسكن أشجار الطريق وتعيد تلوينه: تستبدل الأخضر والأصفر بالأبيض والأسود. اللقالق التي تلوّن المدينة الصغيرة.
غير بعيد عن مدينة أزرو، المدينة التي راقصتْ جزءاً من طفولتي البعيدة، أندهش وأعاود الاندهاش. الدهشة من جغرافيا اسمها تومليلين. الدهشة التي تولد المعنى، وتعيد تلوين فرح قديم بالمدينة أسفل الجبل. هنا لا معنى للمدينة. تعاود غيابها. تنسى. لا معنى لمدينة تركن للنسيان.
الطريق شيء من الحلم القديم، هكذا أحسب كيلومتراتها، استناداً لمعيار الفرح والحلم. السيارة العصبية تستسلم لاندفاعها المعتاد. أصابع رقيقة تغير لحناً شبابياً بآخر أمازيغي عن أب يبكي ابنته العروس وهي في الطريق نحو عشيقها: “ثديث آيلي أوا ثديث”.
“لا سر يسكن جوف الأرض غير الحب”. هكذا فكرت.
أَضحك لشجرة ضاحكة، تسبقها السيارة، نسبقها نحن الاثنان. يتملكني قليل من الحزن. لا أحزن إلا للحظات. الأشجار ولون السماء والشمس الدافئة بجنون: قطع سماوية تؤثث هذا الجزء من الأطلس العظيم. لوهلة تلتقي عينانا.
_ ” كأنها ليست من هنا، كأنها من هنا”. رددت مع اللحن الذي يبكي فيه الأب ابنته.
تتوقف السيارة، نندهش لكل هذا الذي يحيط بنا. ألعنني، ألعن اللغة. يا لعجزي! يا لهذا العوز المفجع! هنا لا يمكن إلا أن تهيمن الدهشة ويسود الفرح. نسمة خفيفة ترمي عني كسل الطريق. تلتقي عينانا مرة أخرى، نبتسم لكل هذا الفرح الكبير الذي يحيط بنا. نلعن غربتنا المؤقتة. نلعن كل لحظة تغيب فيها عنا تومليلين، ونغيب عنها.
تسكنني الأبعاد وأقرفص على مقربة من حمامتين. أفتك بعجزي الكبير في الرقص: كأنني لم أرقص يوماً.
هي ترقص مثل فقاعة هواء،
مثل غمامة،
مثل فراشة تستند على أشجار هذا العالم،
وبين كل رقصة وأخرى ترمقني بفرح؛ فرحها الطفولي الذي يجعل مني شجرة أنا الآخر. صفصافة قديمة.
شجرتان كنا.
صفصافتان؛ الأولى ترقص والثانية تحبو.
امرأة تصير طفلة وهي ترطن بأمازيغيتها،
ورجل تعوزه الروح. تعوزه روحها.
تحضرني جذوري بشكل فجائي. الهوية مثل الهواء. سمعتها في مكان ما، فاقدة لأي معنى كانت.
هنا بـ تومليلين ينطق الحارس بأمازيغية أطلسية أشبه بلحن موسيقى خالد. يحدثنا عن مجد المكان وعن الموت الكبير. نسمة، نسمتان، هواء يضج بالفرح. أمازيغيتنا هواؤنا، هويتنا تلمسنا ونشعر بها. هويتنا كل هذه الأشجار. هويتنا تراقص روح تومليلين.
أضع يدي على صخرة كبيرة وأشكرها هامساً. أرنو نحو شجرة عالية وأخرى؛ تلك الأشجار الشاهدة على الدم الكبير، وعلى صلوات الله التي سبقته. تهيج بشكل فجائي، كأنها تمسح رائحة الدم عنها. وتعاود الرقص.
حارس البقايا يعيد تشكيل المكان: “هنا جلس القس وهنا الراهبات. وهنا كانت شجرة لم يعد لها وجود. وهناك غنى الأطفال من أجل الله. نحن أبناء الله. الله واحد ومتعب من كل هذا الجدل..”
هي تبتسم. هي تلقح أزهار تومليلين وتغني. هي كأنها من السماء: كأنها أبدية بمنتهى الجمال. هي تحب الله وتستنجد به مثل طفلة. هي منغمسة في فرحها الطفولي، وتحدق في أفقها البعيد. هي تؤثث مسرحها وتوزع أدواراً على الأشجار وبيوت تومليلين. أكاد أسمعها تسمّي روحها:
_ ” تومليلين ”
ألمحها تتلاشى، تتوزع على عشب الهضبة، تسكن عروق الأشجار. تصير تومليلين.. وهناك أحبها. أحببتها هناك وللأبد.
تومليلين مسرحها الكبير. الجمهور يصفق. هنا لا معنى للصدى، رجع الصدى يموت على وجه السرعة، يموت ليحيا مسرحها. أكاد أحبها. أحبها.
في إحدى غرف المعبد القديم، تخلصنا من مأزقنا الأرضي، من جلدين لا يصلحان للسماء، وتعبدنا أنا وهي مثل مؤمنين لم يعرفا الله بعد. ومن بعيد كنا نلمح أطلسنا الممتد، نغرق في شمس المساء، ونسمع أصوات السماء القريبة. نرقص معا. نتأفف، نرتل سورتين قصيرتين ونبتسم، نغني، نلمس الجدران الأربعة والخشب القديم. أحمل نافذة الغرفة وأزرعها بمحفظتها الصغيرة، وأتعب عند البوابة.
وأحبها.
ولا أتعب.
كأننا شجرتان شاهدتان على الولادة.
كنا شجرتين تمتد عروقهما في جوف تومليلين.
كنا شجرتين بجذر واحد.
كنا من صنعا القبلة ما قبل الأولى.
—————————-
تومليلين: كلمة أمازيغية تعني كل شيء أبيض، وهي في صيغة جمع المؤنث، مفردها تاملالت أو تومليلت وسمي بها دير كاثوليكي غير بعيد عن مدينة أزرو بالأطلس بالمملكة المغربية، بني سنة 1952، ولعب دوراً تبشيرياً وسياسياً مهماً.
*****
خاص بأوكسجين