1
نشب حريق هائل في شيكاغو سنة 1871 ودمر وسط المدينة بالكامل. المهندسون المعماريون قدموا من جميع أرجاء العالم، ووقفوا ليس أمام الركام القديم، بل أمام اللا شيء، وحدقوا بالسطح المدمّر وقالوا، “جيد، هذا جيد، هذه هي البداية”. استطاعوا من على مسافة بعيدة رؤية البداية من ما تبدى كنهاية.
2
أثناء عيشي في شيكاغو، اعتدت ارتياد مقهى في أحد أركان “غراند آند وبش”، حين لم يكن العشاء بعشاء، ولا الأكل في تلك الأمكنة باهظ الثمن. بدأت بالتردد على المقهى المسمى “ديمارس” بسبب النادلة سيلسيتي، فقد كنت واقعاً في غرامها أو لربما عليّ القول نصف مغرم بها، فلم أكن أعرف سوى نصفها المتمثل في مظهرها الخارجي.
جمالها الخارجي كان بادياً، ولأنه خارجي فقد سهل إدراكه. لها بشرة صقيلة وناعمة، وشفتان كاملتا الامتلاء وواعدتان، بالنسبة لي على الأقل. ولهذا كنت أذهب إلى المقهى كل يوم، أطلب الطلب ذاته كل يوم، توست وقهوة. ذلك إني كنت نصف مغرم بها وأستشف خلف جمالها الخارجي شيئاً أعمق أو شيئاً آخر، فلو أرادت لنزعت عنها ذلك الجمال كأي قناع، لتُظهر من خلفه شخصاً آخر.
لم يكن في التوست شيء مميز، فقط خبز أبيض محمص مع بعض المربى والزبدة، لكنني اعتقدت بأن تناوله يومياً بانتظام سيتيح لي رؤية ما خلف القناع، وبقيامي بذلك، سأقع بغرامها تماماً. وكنت أيضاً أرغب بأن تقع في غرامي.
فعلتها ذات يوم… لم يحدث ذلك فجأة، وإنما وفي أحد الأيام وقفتُ إلى جانب “الكاونتر” ووضعت الصحن عليه، ووقفت هي مائلة على “الكاونتر” تراقبني.
“أي قطعة ستأكل” قالت.
“كلاهما” أخبرتها.
“أيهما أولاً” قالت.
بدا جلياً أن الأمر خاضع لتسلسل معين في الأكل، وعندما نظرت إلى التوست حاولت فهمه من خلال طريقة تقديمها للصحن، أي قطعة يجب تناولها أولاً، ومن ثم نظرت إلى وجهها الكامل، محاولاً اتخاذ القرار – لأنه وليس بعد ذلك بزمن طويل تجاوبت معي – في الوقت الذي أمضيته جالساً على كرسي، أنظر إلى كلا قطعتي التوست، راغباً بأن أكون في غاية الدقة والحذر.
3
في عام 1942 قدم علماء من مختلف أرجاء العالم إلى شيكاغو، نفذوا، أو شهدوا أول تفاعل نووي متسلسل تحت ملعب جامعة شيكاغو. بنوا آلة تمكن من جعل تضارب نترون من ذرة مع نترون من ذرة أخرى ممكناً. ونظراً للطبيعة المنفلتة للتفاعل الذري، كان العلماء بمنتهى الحذر والهدوء. في المرة الأولى التي حدث فيها ذلك كانوا يقفون في قبو قديم في الملعب، في قاعات السكواتش المهجورة، يستمعون إلى الجهاز الذي يسجل ما يسمونها “الكثافة النترونية”. كان الجهاز يتكتك، التكتكة التي تتزايد سرعتها، لتمسي على شيء من الهمهمة، ومن ثم على ما يشبه الزئير، بعدئذٍ أصبحت أقرب لعواء هائل يفوق الواقع، وعندها أدركوا أنهم يقفون على مشارف العصر النووي.
لم يصرخوا أو يرموا قبعاتهم… لم يتعانقوا. وقفوا وسط قاعات السكواتش وابتسموا. صبوا النبيذ في كؤوس كرتونية، ورغم فرحهم، لم تكن ابتساماتهم مكتملة. كان فرحهم بمقدار حزنهم… حزنوا لأنه متى ما بدأ هذا الشيء فإنهم لن يعودوا إلى سابق عهدهم. لكنهم كانوا سعداء أيضاً لأن ما قد يصبح نهاية، كان بداية أيضاً.
4
ظلّت سيليستي تعدّ التوست بعد أن انتقلت للعيش معي، تعدّ هي التوست وأعدّ أنا القهوة، ومع الوقت تحول الأمر لعادة. كان ذلك مريحاً في البداية، إلا أنه أصبح اعتيادياً للغاية، ولإضفاء تنوع على عاداتنا، ذهبنا في نزهة. قصدنا حديقة قرب البحيرة، وفرشنا بطانية على طاولة النزهات الشاغرة، جلسنا وأرجلنا على المقعد، وراقبنا الظلال تعبر العشب. أخرجت بعض التوست المحمص و”ترمس” القهوة من سلتها، جلسنا هناك، وكنا الأشخاص الوحيدين في الحديقة بأكملها. صبّت القهوة الساخنة في غطاء “الترمس” المصنوع من الستانلس ستيل واحتست أول رشفة.
عندما مررته إلي أمسكته من المقبض بيد وسندته من الجانب الآخر باليد الأخرى، ولسخونة القهوة رشفتها مع الكثير من الهواء، فخرجت رشفتي صاخبة. مع إعادة الغطاء تذكرت صوت رشفاتنا، وإذ أخذت القهوة تبرد انخفض صخب رشفاتنا، وأصبحنا نسمع صوت الشارع من خلفنا كهمهمة تأتي من بعيد.
تخللت الهمهمة انقطاعات، انقطاعات صغيرة من الصمت كانت تمسي أطول مع إنصاتنا إليها، وفي منتصف واحدة منها التفتُ إليها.
لأننا تقاسمنا التوست فقد تقاسمنا الحميمية، لكن لأن ما تحت بشرتها ما يزال مجهولا بالنسبة لي، فلم يكن بمقدوري إلا النظر إلى وجهها. كانت تبتسم ابتسامة عريضة. وكنت ابتسم أيضاً، كنت أشعر بها على وجهي. نعم، كانت ابتسامتنا سعيدة، لكنها لم تكن مكتملة. كانت مثقلة بعبء الحذر من ارتكاب أي خطأ. كانت ابتسامات سعيدة، لكنها خائفة، ابتسامات حذرة، كما لو أننا نقفز في الهواء، ونسبح في الهواء، وعندما نهبط ستكون البداية. ولكن في لحظة ما قبل البداية علينا أن نكون شديدي الحذر.
____________________
من رواية “المطهر الأمريكي”
***
خاص بأوكسجين