تذكرة مرور
العدد 245 | 08 تموز 2019
أحمد الزناتي


يشرح القاموس المحيط مفردة “تذكِرة” بأنها ما تُسْتَذكر بها الحاجة، وهي ما يدعو إلى الذِكر والاعتبار. قبل بداية الرحلة يحتفظ البطل بتذكرة مادية كقرينة مادية على انتقاله من زمن البشر إلى زمن الرواية، بطاقة تُـستخدم مرة واحدة وفي اتجاه واحد فقط، ولا تُبرز إلا لاجتياز “كارتـة” الزمن. أحياناً يستخدمها البطل، وأحياناً يدسّها في جيبه، أو في درج مكتبه وينسى الأمر برمته.

في رواية الجبل السحري، وقبل طلوع الجبل، اعتقد هانز كاستورب أنه عائد إلى منزله بعد ثلاثة أسابيع وكأنها فترة اختبار تعاقديه. استدرجوه حتى سقط في الفخ. خاض البطل رحلة عُمرٍ غاب فيها سبع سنوات، الأصح أن كاستورب غاب غيبته الكبرى، واختفى داخل سرداب الجبل السحري، ذلك العالم المُصمت الذي لا يتأثر بالزمن. في البداية، وأقصد أيام البراءة الأولى، لما كان غـراً ساذجاً، أولى هانز اهتماماً كبيراً بمرور الزمن وبمراقبة الوقت. وفي يوم من الأيام تسقط ساعة يدِه عن الطاولة الجانبية وتتحطم، لكن البطل لا يلقي بالاً، ولا يهتم بإصلاحها، بعد أن فهم قواعد اللعبة. بقصد أو دون قصد، اندمج البطل الروائي في عالم الجبل السحري، واستخدم تذكرة مرور في اتجاه واحد، ذهاب بلا عودة.

في رواية ميدان ألكسندر – برلين لألفريد دوبلِن، يخوض فرانتس بيبركوبف رحلةً في اتجاه معاكس، رحلة من السجن إلى مواجهة البشر (كان د. مصطفى ماهر يقول إن العقاب الأكبر لفرانتس هـو خروجه من السجن الأصغر، وهو سجن تيجِل-برلين إلى السجن الأكبر وهو مواجهة البشر، مشيراً إلى الكلمة الواردة في أول صفحة من الرواية: “…وهنا تبدأ العقوبة”). بعد كل نكسة من نكسات الحياة التي كان يُمنى بها، ينزوي فرانتس بيبركوبف في غرفته، ويقاسي مللاً شبيهاً بالملل الذي عاناه صاحبه هانز كاستورب، فلم يجد ما يشغل به نفسه سوى إصلاح ساعته المكسورة، لكنه – للأسف- لم يكن يعرف كيف يُصلحها.

الطريف أنّ تذكرة الساعة قد تحولت إلى أداة فعالة لرصد تحولات البطل في أدبيات القرن العشرين، ساعة دلسي مثلاً في رواية وليام فوكنر الصخب والعنف، ودقات ساعة بيج بِن المهيبة في رواية “السيدة دالاوي” لفرجينيا وولف، والأمثلة كثيرة.

يُعرّف معجم اللغة العربية المعاصرة تذكرة المرور بأنها وثيقة تسمح بحرية المرور والتنقُّل بدلاً عن جواز السفر. في قصة خورخي لويس بورخيس “المعجزة السرّية” يُلقى القبض على “يارومير هلاديك” في التاسع عشر من مارس سنة 1939، ويُقتاد إلى معسكر أبيض بارد. البطل هلاديك تجاوز الأربعين، كانت الكتابة هي حياته، وكانت كل الكتب التي يدفع بها إلى المطبعة تشعره بالذنب. يدرك البطل أن الزمن خدعة، ولا بديل أمامه سوى دفن الماضي والحاضر والمستقبل داخل عمل أدبيّ، لكن كتيبة الإعدام تقف بالمرصاد، والرصاص الألماني سينفّذ إلى صدره في ساعة محددة، ولا أمل في نقض الحُكم. في لحظة تصويب البنادق نحو هلاديك، يتوقّف الزمن، ويسكن كل شيء وكأن الحياة مشهد صامت داخل لوحة. يسأل الكاتبُ الغلبان ربّـه سنة كاملة لينجز عمله، فيجيب الله طلبه، ويصنع من أجله معجزة سرّية. قطع الربّ حبل الزمن بمقص ذي شفرة حادة. صحيح أن الموت سيحـذُّ أيضاً عنق هلاديك في وقت معلوم، لكن داخل عقله الروائي ستقضي سنة كاملة بين صدور الحكم وتنفيذه، وهذه السنة هي كل ما يحتاجه.          

وجه الخلاف بين بطل بورخيس وبين هانس كاستورب وفرانتس بيبركوبف أن يارومير هلاديك لم يكن يملك ساعة لإنه محبوس داخل زنزانة حقيقية. كانت ذاكرته تذكرة مرور، وجواز سفر سريّ مكّنه من حرية التنقّل ومن هزيمة خصومه. حفِظَ البطل أجزاء المسرحية الشعرية شطراً شطراً، وأنهى مسرحيته داخل عقله. لم يدركه الموت إلا حينما بعدما أنهى المسرحية، وبعدما عثر على وصفٍ تائه لمفردةٍ ما. رغم تنفيذ الحكم في الموعد المحدد، انتصر هلاديك على “الأعداء”، وهو عنوان المسرحية.

نقرأ في كتاب “اللمع في التصوف” لسراج الدين الطوسي عبارة غامضة منسوبة إلى العارف أبي بكر الشبلي تقول: “أنتم أوقاتكم مقطوعة، ووقتي ليس له طرفان [*يقصد مثل الحبل له بداية ونهاية] … ألف عام ماضية في ألف عام واردة، هذا هو الوقت، ولا تغرّنكم الأشباح”. يقول العارفون المفسّرون كالشعراني وروزبهان البقلي المصري في تأويل الشطحيات إن العارف وفقاً لمنطق الشبلي لا يحتاج إلا “الذِكر” كتذكرة مرور لاجتياز بوابات الزمن البشري، وبلوغ زمن سرمدي بين يدي الله.

وصلته الموافقة أخيراً على إعداد التقرير الثالث؛ رمية من غير رامٍ. ساعة يد عتيقة تخصّ والده، كان قد طلب منه تصليحها. لم يفهم الرسالة. دسّ الساعة في درج مكتبه، ونسي الأمر حتى ذكّره والده.

في محل تصليح ساعات قديم في أحد شوارع الكوربة أخبروه أن بطارية الساعة سليمة، وأن التروس تعمل بكفاءة، لكنهم عجزوا أمام منطق العقارب، التي كانت تسير وتقف في أوقات محددة وبدقّة مذهلة، بعد الثامنة تحديداً. نصحوه ألا يجرّب تصليحها في محل آخر، فالموضوع محسوم، ولا حلّ لذلك.

*****

خاص بأوكسجين

 


روائي وقاص من مصر. من رواياته "البساط الفيروزي: في ذكر ما جرى ليونس السمّان"" 2017، و""ماضي"" 2017."