تحت تأثير المورفين
العدد 150 | 20 نيسان 2014
فيليب روث/ترجمة: أسامة منزلجي


   بعد مرور حوالي شهرين ونصف من عبور القوات الكورية الشمالية الجيدة التدريب، المُزوَّدة بأسلحة الشيوعيين السوفييت والصينيين، خط العرض الثامن والثلاثين إلى كوريا الجنوبية في 25 حزيران (يونيو)، عام 1950، وبدء مآسي الحرب الكورية، التحقتُ بروبرت تريت، وهي جامعة صغيرة في قلب نيوارك سُمِّيتْ باسم مؤسِّس المدينة في القرن السابع عشر. كنتُ العضو الأول في عائلتنا الذي يسعى إلى تحصيل الدراسات العليا. فلم يتجاوز أي من أقربائي المرحلة الثانوية، ولم يُنه والدي أو أي من إخوته الثلاثة المرحلة الإعدادية. وقد أخبرني أبي، قال ” لقد عملتُ لأكسب نقوداً منذ أنْ كنتُ في العاشرة من العمر “. كان لحّام الحي وكنتُ أوصِلُ الطلبات على متن دراجتي طوال فترة دراستي الثانوية، ما عدا في موسم لعبة البيسبول وفي فترات العصر عندما كنتُ أُضطر إلى حضور مباريات المدارس بوصفي عضواً في الفريق المُنافِس. ومنذ اليوم الذي غادرتُ فيه المخزن تقريباً – حيث كنتُ أعمل ستين ساعة في الأسبوع لصالحه منذ أنْ تخرّجتُ من المدرسة الثانوية في شهر كانون ثاني (يناير) وحتى بداية الدراسة في الجامعة في شهر أيلول (سبتمبر) – ومنذ اليوم الذي باشرتُ فيه الدروس في جامعة روبرت تريت تقريباً، أصبح والدي يخشى عليّ من الموت. ربما كان لخوفه صِلة بالحرب، التي كانت القوات المُسلّحة الأميركية، تحت رعاية الأمم المتحدة، التي انخرطتْ فيها على الفور تقريباً لتدعم جهود الجيش الكوري الجنوبي سيئ الإعداد وغير المُجهَّز ؛ وربما كانت له صِلة بالخسائر الثقيلة التي تكبّدتها قواتنا في وجه النيران الشيوعية وبخشيته من أنّه إذا امتدّ الصراع كما امتدت الحرب العالمية الثانية، فقد ألتحق بالجيش لكي أُقاتل وأموت في ساحة القتال الكوريّة كما مات قريبيّ آبي وديف خلال الحرب العالمية الثانية. أو ربما كان للخوف صِلة بهمومه المالية : قبل ذلك بعام، افتتحَ أول سوبرماركت في الحي أبوابه على مقرُبة من محل العائلة لبيع اللحم الحلال ، وكان البيع قد بدأ ينحدر باطّراد، من ناحية بسبب منافسة قسم بيع اللحوم والدواجن لأسعار والدي ومن ناحية أخرى بسبب الانحدار العام بعد انتهاء الحرب في عدد العائلات التي تهتم بالأمور المنزلية الحلال وبشراء اللحوم والدواجن الحلال من المحل المُصدَّق حِبرياً  الذي كان صاحبه عضواً في اتّحاد بيع اللحم الحلال في نيو جرزي. أو لعلّ خوفه عليّ نبع من خوفه على نفسه، ذلك أنه في سن الخمسين، وبعد الاستمتاع بحياة من الصحة الجيدة المتينة، بدأ ينتاب هذا الرجل الضئيل القويّ سُعالٌ متواصل وهادر، مُسبّباً القلق لأمي، ولم يمنعه من مواصلة التدخين من زاوية فمه طوال النهار. وكائناً ما كان السبب أو مجموع الأسباب وراء التغيير المُفاجئ الذي طرأ على سلوكه الأبويّ الذي كان سابقاً لطيفاً، كان يُعبِّر عن خوفه بملاحقتي ليلاً ونهاراً ليعرف مكان تواجدي. ” أين كنت ؟ لِمَ لم تعُد إلى المنزل ؟ كيف لي أنْ أعرف مكان وجودك وأنت في الخارج ؟ أنتَ فتى ينتظركَ مســـتقبل باهر – فكيف لي أنْ اعرف أنكَ لا ترتاد أماكن يمكن أنْ تُقتَلَ فيها ؟ “

   أضحت الأسئلة مُثيرة للسخرية بما أني كنتُ، خلال فترة دراستي الثانوية، طالباً متفوقاً، مُجدّاً، مجتهداً، مسؤولاً ومتعقّلاً، لا يخرج إلا مع أجمل الفتيات، ومُحاوِر متمرِّس، ولاعب جيد في منتخب لعبة البيسبول، يعيشُ سعادة كافية ضمن حدود معايير المراهقة في حيّنا ومدرستي. والأسئلة أيضاً كانت مُغيظة – وكأنّ الوالد الذي كنتُ شديد القُرب منه طوال تلك السنوات، وأنمو إلى جانبه في المحل، لم تعد لديه أدنى فكرة عمَّن هو ابنه أو ماذا يمثِّل. في المحل، كان الزبائن يُسلّونه وأمي بتعبيرهم عن سعادتهم بمراقبة الصغير الذي كانوا يجلبون له الكعك – في الماضي حين كان والده يدعه يلعب ببعض الدهن ويقطعه له بحِرفيّة ” اللحّام المتمرِّس “، وإنْ كان يستخدم سكيناً بحدٍ ثلم – بمراقبته وهو ينمو أمام أعينهم ليغدو شاباً يافعاً حسن السلوك، مُهذّب الألفاظ، يضعُ لحمهم في المطحنة ليقطعه إلى شرائح وينثر نشارة الخشب على الأرضيّة ومن ثم يكنسها وينزع طائعاً ما تبقّى من ريش عن أعناق الدجاج الميت المُدلّى من الخطّافات على الجدار ويهتف له والده قائلاً ” اذبح دجاجتين، يا ماركي، من فضلك، من أجل السيدة فلان الفلاني “. وخلال الأشهر السبعة التي سبقتْ التحاقه بالجامعة أوكلَ إليّ أكثر من مجرد طحن اللحم وذبح بضع دجاجات ؛ علَّمني كيف أتناول عنق حَمَل وأُقطّع منه شرائح، وكيف أفصل اللحم عن الضلع، وعندما أصل إلى الأسفل، كيف أتناول الساطور وأقطع الباقي إلى شرائح. وكان دائماً يُعلِّمني بطريقة سهلة وسلسلة. فيقول ” لا تضرب بالساطور بقوة وسيكون كل شيء على ما يُرام “. علَّمني التعامُل بصبر مع أشد زبائننا تطلُّباً، خاصة أولئك الذين يُصرّون على النظر إلى قطعة اللحم من جوانبها كافة قبل أنْ يشتروها، الذين ينبغي أنْ أرفع الدجاجة أمامهم لكي يتفحّصوا بكل معنى الكلمة ثقبها ويتأكّدوا من أنه نظيف. وقال لي ” لن تُصدِّق ما يمكن لبعض تلك النسوة أنْ يُسبِّبنَ لك من متاعب قبل أنْ يشترين دجاجة “. ومن ثم يُحاكيهنّ ساخراً : ” اقلبها. كلا. اقلبها على ظهرها. دعني أرى البطن “. ولم يكن عملي يقتصر على نزع ريش الدجاج بل كنتُ أنزع أحشاءها. أفتح الشرج واسعاً قليلاً وأُقحِمُ يدي وأقبض على الأحشاء وأنزعها نحو الخارج. كنتُ أكره هذا الجزء. كان مُثيراً للاشمئزاز والتقزُّز، ولكن كان لابد من القيام به. هذا ما تعلّمت من والدي وما أحببتُ أنْ أتعلّم منه : يجب أنْ تقوم بما ينبغي عليك أنْ تقوم به. 

   كان محلّنا يواجه جادّة ليون في نيوارك، على مقربة من مستشفى بيت إسرائيل، وفي الواجهة كان لدينا مكان يمكن وضع الثلج فيه، عبارة عن رف عريض يميل قليلاً نحو الأسفل، من الخلف إلى الأمام. كانت سيارة الثلج تأتي لكي تبيعنا الثلج المُقطَّع، وكنا نضع الثلج هناك ومن ثم نضع اللحم عليه لكي يراه الناس أثناء مرورهم. وخلال الأشهر السبعة التي عملتُ أثناءها في المحل بدوامٍ كامل قبل التحاقي بالجامعة كنتُ أقوم بترتيب الواجهة لأجله. كان والدي يقول عندما يُعلِّق الناس على عرض الواجهة ” إنَّ ماركوس فنّان”. كنتُ أضع كل شيء فيها : شرائح اللحم، والدجاج، وقطع لحم الغنم – وأصنع تشكيلات بما لدينا من منتجات وأرتّبها في الواجهة ” بصورة فنيّة “. كنتُ أزيّن كل شيء بنبات السرخس، أحصل عليه من محل بيع الأزهار الذي يقع قبالة المستشفى. ولم أكن أكتفي بتقطيع اللحم وتشريحه وبيعه وتزيين الواجهة به ؛ خلال تلك الأشهر السبعة التي حللتُ محل والدتي كيده اليُمنى كنتُ أرافقُ والدي إلى سوق الجملة في الصباح الباكر وأتعلَّم أُصول شرائه أيضاً. كان يذهب إلى هناك مرة في الأسبوع، في الخامسة، أو الخامسة والنصف صباحاً، لأنكَ إذا ذهبتَ إلى السوق وانتقيت احتياجك من اللحم وعُدتَ إلى دكانك ووضعته في الثلاّجة بنفسك، توفّر أجر توصيله. كنا نشتري رُبعاً كاملاً من لحم البقر، وربعاً أمامياً من الحَمَل لنصنع منه شرائح لحم الغنم، ونشتري عجلاً، وأكباد البقر، ولما كان لدينا بعض الزبائن للمخ كنا نشتري عدداً منه. وكان المحل يفتح أبوابه في السابعة صباحاً ونعمل حتى السابعة أو الثامنة مساءً. كنتُ حينئذٍ في السابعة عشرة، يافعاً ومتحمساً وحيوياً، وبحلول الساعة الخامسة أكون قد استُنزِفت. أما هو، فيبقى قوياً، يتنكّب مائة رطل من لحم الربع الأمامي على كتفيه، يدخل ويُعلّقه في الثلاّجة من الخطافات، ويَقطعه ويُشرّحه بالسكاكين، ويُقطّعه بالساطور، وعندما أبلغ حافة الانهيار عند الساعة السابعة مساءً، يكون هو لا يزال يُلبّي الطلبات. لكنَّ آخر عمل لي كان أنْ أُنظِّف وَضَم اللحام قبل العودة إلى المنزل، وأنثر بعض نشارة الخشب على الوضم ومن ثم أكشطه بفرشاةٍ شُعيراتها من حديد، وهكذا، أحشد ما تبقّى لديّ من طاقة وأزيل الدماء لأبقي المكان شرعياً.

   إنني أستعيد ذِكرى تلك الأشهر السبعة بوصفها زمناً رائعاً – رائعاً إلا فيما يتعلَّق بنزع أحشاء الدجاج. وحتى هذا كان رائعاً على طريقته، لأنه كان عملاً أدّيته، وأحسنتُ أداءه، ولم أُمانع في القيام به. إذن كانت هناك دروس في القيام بذلك. دروس أحببتُها – هاتها ! وأحببتُ والدي، وهو أحبّني، أكثر مما فعلنا في أي مرحلة من حياتنا. في المحل، كنتُ أُعدُّ وجبة الغداء لي وله. ولم نكن فقط نتناول طعام الغداء هناك بل كنا نطبخه هناك، على مِشواة في الغرفة الخلفية، بجوار المكان الذي نقطِّع فيه اللحم ونُعِدّه. كنتُ أشوي أكباد الدجاج لنأكلها، وأشوي قطعاً صغيرة من لحم خاصرة البقر، وكانت تلك أسعد أوقاتنا. ولكن بعد ذلك بفترةٍ وجيزة بدأ صراعٌ مُدمِّر بيننا : أين كنت ؟ لِمَ لم تعُد إلى المنزل ؟ كيف أعرف أين أنت وأنت في الخارج ؟ أنتَ فتى صغير ينتظركَ مستقبل رائع – كيف لي أنْ أعرف أنكَ لم ترتد أماكن يمكن أنْ تُقتَل فيها ؟

   خلال فصل الخريف ذاك باشرت الدراسة في جامعة روبرت تريت كطالب مُستجدّ، وكلما أوصد والدي أبواب بيتنا الأمامية والخلفية بأقفال مزدوجة ولم أتمكّن من استخدام مفاتيحي في فتح أي منها وأُضطرّ إلى الضرب بقوة على أحدها ليُسمحَ لي بالدخول إذا عدتُ ليلاً متأخّراً عشرين دقيقة عمّا يعتقد أنه الموعد الصحيح للعودة، أعتقد أنه أُصيب بالجنون.

   وقد فعل: أُصيبَ بجنون القلق على ولده الوحيد المُدلَّل غير المُهيّأ لمواجهة نوائب الحياة كأي شخص آخر يلج مرحلة الرجولة، بجنون اكتشافهِ المُرعب أنَّ ولده الصغير ينمو، ويغدو طويل القامة، ويُغطّي على والديه، وأنه لم يعد يستطيع الاحتفاظ به، وأنَّ عليه أنْ يُسلّمه للعالم.

   تركتُ جامعة روبرت تريت بعد عام فقط. غادرتها لأنَّ والدي فَقَدَ فجأةً إيمانه حتى بقدرتي على عبور الشارع وحدي. غادرتها لأنَّ مراقبة والدي لي أضحت لا تُطاق. كان استقلالي المأمول يجعل هذا الرجل، المتوازن المزاج في المعتاد، ونادراً ما ينفجر في وجه أي شخص، يبدو كأنه يتعمَّد ممارسة العنف إذا ما تجرّأت وخذلته، في حين أني – أنا الذي جعلتني مواهبي كعالِم في المنطق صافي الذهن دعامةَ فريق النقاش في المرحلة الثانوية – اختُزِلتُ إلى شخص يجأر بإحباطه في وجه جهله ولا عقلانيته. كان ينبغي أنْ أبتعد عنه قبل أنْ أقتله – هذا ما قلت بعنف لأمي المذهولة، التي وجدتْ نفسها الآن فجأةً غير قادرة على التأثير عليه مثلي تماماً.

   ذات ليلة وصلتُ إلى المنزل على متن حافلة قادماً من قلب المدينة عند نحو الساعة التاسعة والنصف. كنتُ في الفرع الرئيس لمكتبة نيوارك العامة، بما أنَّ جامعة تريت لم تكن تحتوي مكتبة خاصة بها. وكنتُ قد غادرتُ المنزل في الساعة الثامنة والنصف من صباح ذلك اليوم وأمضيتُ الوقت في حضور الدروس وفي الدراسة، وأول ما قالت أمي كان ” لقد خرج والدك لكي يبحث عنك “، ” لماذا ؟ وأين يبحث ؟ “، ” ذهب إلى صالة لعبة البول  “، ” إنني لا أعرف حتى كيف ألعب تلك اللعبة. بماذا يُفكّر ؟ لقد كنتُ أدرس، حباً بالله. كنتُ أكتب أُطروحة. كنتُ أقرأ. بأي شيء آخر يعتقد أني أقضي ليلي ونهاري ؟ “، ” كان يتحدث مع السيد برلغرين عن إدي، ثم استشاط غضباً منك “. وكان إدي برلغرين، الذي كان والده هو عامل السباكة الذي نتعامل معه، قد تخرَّجَ معي من المدرسة الثانوية والتحقَ بجامعة بانزر، في إيست أورانج، لكي يُصبح أستاذاً في مادة التربية البدنية للمرحلة الثانوية. وكنتُ ألعب الكرة منذ طفولتي. قلت ” أنا لستُ إدي برلغرين. أنا نفسي “، ” ولكن هل تعلم ماذا فعل ؟ من دون أنْ يُخبر  أحداً، قاد السيارة من هنا إلى بنسلفانيا، وإلى سكرانتن، بسيارة والده لكي يلعب البول في ما يشبه صالة لعب البول هناك “، ” ولكن إدي بارع في لعبة البول. ولست مندهشاً لأنه ذهبَ إلى سكرانت. إنَّ إدي لا يستطيع أنْ يُنظف أسنانه بالفرشاة في الصباح من دون أنْ يُفكِّر في لعبة البول. ولن أدهش إذا ذهب إلى القمر لكي يلعب البول. إنَّ إدي يتظاهر وهو بمُصاحبة أشخاص لا يعرفونه إنه فقط بمستواهم في البراعة، ومن ثم يلعبون ويهزمهم شرّ هزيمة مقابل خمسة وعشرين دولاراً عن كل مباراة “، ” سوف ينتهي به الأمر إلى سرقة السيارات، كما قال السيد برلغرين “، ” أوه، أمي، هذا سخف. إنَّ ما يفعله إدي لا يهمني “،  ” أأنا مَنْ ينتهي به الأمر إلى سرقة السيارات ؟ “، ” طبعاً لا، يا عزيزي “، ” لا أحب هذه اللعبة التي يحبها إدي، ولا أحب الجو الذي يعجبه. أنا لستُ مهتماً بالحياة السوقيّة، يا أمي. أنا مهتم بالأشياء القيِّمة. ولا أولي أي اهتمام بلعبة البول. أوه، انظري، يكفيني ما شرحت عمّا يعجبني ولا يعجبني. ولن أتحدث عن نفسي أكثر من هذا.   

__________________________________

من رواية “سخط” للكاتب الأميركي فيليب روث                       

الصورة من أعمال الفنانة التشكيلية السورية رؤيا عيسى

*****

خاص بأوكسجين