الوعورة تصاعدية والسلاسة أيضاً في رواية الجامايكي مارلون جيمس “تاريخ موجز لسبعة اغتيالات” A Brief History Of Seven Killings (الحائزة على جائزة بوكر العالمية لعام 2015)، إنها رواية شرسة بحق تنشب مخالبها فيك ثم تربت عليك، وهي تروي تاريخاً ليس موجزاً أبداً (686 صفحة) عن سبعينات جامايكا وصولا إلى التسعينيات، ولها أن تأتي على إيقاع الريغي في استبعاد لرتابته والرواية مرتكزة أولاً وأخيراً على محاولة الاغتيال التي تعرض لها أسطورة الريغي بوب مارلي عام 1976، ومارلون جيمس لم يكن قد تجاوز السابعة من عمره في حينها.
تبدأ الراوية بعبارة صادمة تقول ” اسمع. الميت لا يتوقف عن الكلام أبداً. ربما لأن الموت ليس موتاً على الإطلاق”. ربما هذه العبارة الافتتاحية التي يبدأ بها تعيد إلى ذهني بداية رواية مارلون The Book of Night Women “كتاب نساء الليل” 2009: “يحسب الناس أن الدم أحمر، لكن ليس للدم من لون” – حسناً أنا كائن تعني له كثيرا الجملة الافتتاحية في الرواية – لكن قبل ذلك فإن ما يتصدر الرواية هو أسماء الشخصيات كما المسرحيات وهي 76 شخصية، حين هممت بقراءة الرواية مضيت أطالع تلك الأسماء وكل اسم متبوع بتوصيف وجيز فهذا عميل سي أي ايه وذاك زعيم عصابة ..، ثم عدلت عن متابعة تصفح أسماء الشخصيات، فأنا سأنساها على الفور، لكن بدا أن العودة إليها مع كل فصل أمر لا محيد عنه لفهم السياق الذي تتكلم فيه كل شخصية كونها تمضي مباشرة بمشاهدات وهواجس وأحداث تحتاج بقوة إلى معرفة من هو هذا الذي يتكلم. فعلى سبيل المثال فإن أول فصل يأتي تحت عنوان “السير آرثر جورج جيننيغس” وهو يحدثنا عن الموت إلا أن المتكلم ميت، لقد رُمي به من شرفة وهو ينظر إلى الأعلى الآن وهو ممدد على الأرض، والحدود بين الأحياء والموتى لا وجود لها، ومع معرفة توصيفه ضمن شخصيات الروايةبـ “سياسي سابق متوفي” فإن مغاليق ما يتناوله سرده تتضح، كما أن الشخصيات التي نقع عليها وهي تفعل وتعيش تكون مبتورة في البداية ترمم التعريف بنفسها رويداً رويدا وكل فصل حامل لاسم الشخصية وباري ديفلوري يحدثنا عن العاملة في “برغر كينغ” وأن مهنة عازف الدرامز في فريق ريغي أشد الأشياء رتابة في هذا الكون وهو ليس إلا برئيس محطة وكالة الاستخبارات الأميركية في جامايكا، بينما نقع على فتى تحت عنوان “بام بام” يكون ابن “الغيتو” وعوالم كينغستون السفلية وهو يمضي رفقة الجوع والجهل والجريمة إلى أن يصبح قاتلاً محترفاً، وهو يروي حياته ويقاطعها مع حياة بوب مارلي وأغانيه.
تتخذ رواية “تاريخ موجز لسبعة اغتيالات” من حادثة محاولة اغتيال بوب مارلي في جامايكا نقطة ارتكاز أساسية لكل ما تحمله الرواية بوصفها العقدة الرئيسة التي تمضي إليها الأحداث والشخصية مواصلة سيرها إلى ما بعد محاولة الاغتيال تلك إلى أن تصل بداية التسعينات، حيث تكتمل مصائر الشخصيات المتورطة بتلك المحاولة وكل من كان على صلة أو شهد جزءاً منها أو كان قريبا أو بعيدا عنها. طبعاً محاولة الاغتيال حدثت بالفعل، وقد نجا منها مارلي كذلك زوجته رغم إصابة الأخيرة بالرأس، والجو العام للرواية مشحون بالأحداث ومارلي مدعو للمشاركة بحفلة إلى جانب “الرولينغ ستونز” بعنوان “ابتسمي يا جامايكا” وهي من تنظيم رئيس وزراء جامايكا وزعيم حزب الشعب الوطني مايكل مانلي، وحينها كانت تشهد جامايكا صراعاً دامياً بين الأحزاب اعتمدت فيه تسليح العصابات، وتواصل هذا الصراع لغاية بداية الثمانينيات، بما حوله إلى صراع دولي يجعل من عملاء السي أي أيه حاضرين بقوة في الأحداث التي ترصدها الرواية، والولايات المتحدة ساعية بكل قوة لئلا تدع لقوى اليسار أن يحولوا جامايكا إلى دولة اشتراكية أو شيوعية خاصة مع الحضور الكوبي في الجزيرة، وعلاقة مانلي الوثيقة بكاسترو.
تحتكم الرواية على انفلات سردي مدهش يبقى متقداً ومتتابعا، ويبدو ما أوردناه فيما سبق من المناخ السياسي إطاراً عاماً متداخلاً بقوة ببينة الرواية، تكون الشخصيات والأحداث تأسيساً للرواية الموازية للتاريخي: القتلة وكيف ولدوا وترعرعوا، الجوع، الفقر، الجنس، الحب، المثلية، التجسس وعملاء الاستخبارات، وقبل ذلك أغاني بوب مارلي، الريغي وما قبله، ومع كل فصل ترد أغنية لمارلي في سياق ما يروى، ولعل وصف الراواية بالملحمية وصف شديد الدقة.
بالعودة إلى البداية وتوصيفي الرواية بالوعورة والسلاسة ومن ثم الشراسة والرقة، فإن ذلك آت تماماً من فعل قراءتها حيث البناء السردي للرواية شاسع جداً ويستدعي تتبعاً حصيفاً لما يؤسس له جيمس ليدفع بالقارئ في خضم بحر سردي تتعدد أمواجه ودوّارته وتياراته، كم أن اللغة تتفاوت وتتنوع حسب الشخصيات، وفي قسم لا بأس به تكون انكليزية جامايكية تضرب عرض الحائط بكل قواعد اللغة الانكليزية، إلا أن اللغة وعلى امتداد الرواية مشدودة تعتمد شعريتها العالية على الالتقاطات الذكية على المفارقات كما لو أنها تحاكي أغاني بوب مارلي.
*****
خاص بأوكسجين