تأملات في غياب المباهج 1 -2
العدد 230 | 28 نيسان 2018
محمد العرادي


غرابة البقاء في المدينة المشعة بلوحات المحلات التجارية:

مزدحمة، مزدحمة وخانقة. الكتف بالكتف، أنفاس الرجل الذي أكل في الصباح صحن فول وبصل أخضر في أنفك، كرشٌ متهدلة لرجل ضئيل بقميص متعرق يلتصق بظهرك، ورجل أسود متعب يميزه شارب صلب، دخان كثيف ينبعث ورائحة احتراق أحشاء حيوان بري. مصعد متعطل حُشرت به امرأة – تعاني من رهاب القطط – وسائقها وابنها الذي يصرخ، وأربع حقائب كبيرة للسفر، وخادمة أثيوبية قوية البنية وغير مبالية، بكت المرأة وتمددت يائسة في أرضية المصعد. تمددت في المصعد الذي ينتظره في الدور البعيد في الأعلى – الدور السابع والتسعون – ثلاثة عشر عاملاً بنغاليا من عمال شركة نظافة يعمل بها رجل أكل صحن فول وبصل أخضر يقرب فمه من أنفك. مزدحمة، مزدحمة وغريبة. لوحات إعلانية لا نهائية، في المطبخ الذي به رائحة احتراق أحشاء حيوان، في غرفة النوم، في بركة الماء لوحات أيضاً، في الغالب يضعون بها إعلانات عن صيانة تمديدات المياه، إعلانات في مصلى النساء، في حفرة تغيير الزيت رأيت لوحة، لوحات محلات تجارية تتكدس فوق بعضها مثل تل من جماجم ثيران البيسون، ابتداء من محلات الماركات الباريسية وحتى الدكاكين المحلية في الأزقة التي يديرها عمال بإقامات منتهية.

المطعم الذي لا يتسع إلا لأربعة أشخاص يتكدس به مئات الزبائن، يبيع شرائح لحم بقري متبلة ببهارات تصنعها امرأة نيجيرية تشتكي من آلام الظهر. الرجل الأسود الذي يقطع اللحم البقري في المطعم يمسح عرقه الآن ويرد  على اتصال عاملة اثيوبية تعمل عند امرأة محشورة في مصعد، الحديد له رائحة الجبنة الرطبة المتعفنة، والفئران المتضخمة التي تزن في بعض الأحيان كيلو جرام – وتتصرف كما لو كانت قططاً برية -تتكاثر في ناقلات البضائع التي تأتي من أوروبا الشرقية وإيران ومن الهند، وفي الميناء وعلى الشاطئ وفي حاويات النفايات الكبيرة وفي شقوق البيوت الشعبية، تتناسل في المطبخ الذي به رائحة احتراق أحشاء حيوان، في غرفة النوم، في مستودعات محلات شهيرة لا نستطيع ذكر اسمها. مزدحمة، مزدحمة ومؤذية. سيل من السيارات التي تسير بلا نظام واضح، سيارات لا تكاد تظهر حتى تختفي في الشوارع الفرعية مثل صراصير هاربة، تسقط السيارات من الأعلى وتخرج من تحت أغطية فتحات الصرف الصحي، ومن الشبابيك تخرج سيارات. طريق اسفلتي سيء، وسيارتي صغيرة لا تحتمل كل ذلك. في الطريق وأنت تحاول اللحاق بموعد عملك أكوام من المصدات الإسمنتية الصامتة، صامتة وأبدية. وقد يصادفك في طريقك وأنت تحاول اللحاق بموعد عملك دولاب ملابس، دولاب ملابس خشبي تلعب بأبوابه التيارات الهوائية التي يصنعها مرور السيارات التي تتفاداه، وقد يصادفك رجل أسود متعب يميزه شارب صلب، جثة فتاة منكشفة البطن غرقت في السيول التي دهمت المدينة، ثقوب سوداء لكنها ثقوب أرضية، حيوانات برية كانت في الحقيقة بشراً، وقد تصادف أشياء أخرى لا أدري ماهي. وبالتأكيد ستصادف ماء لا تنتبه لطبيعته، يخرج من العمارة التي تمر أمامها الآن وأنت مشغول بالبحث عن بوفية تتذكر أنها بالقرب.

الفضلات الإنسانية الرطبة تطفح من كرسي الحمام مثل رخويات بحرية، داكنة وثقيلة. بعد أن تجاوز الماء الطافح الصالة ووصل إلى الباب الخارجي للشقة التي لا تتجاوز مساحتها 30 متراً مربعاً، وتسكنها عائلة من زوجين وسبعة أولاد وفتاة وفتاة أخرى مصابة بالجذام لكن لم تظهر عليها الأعراض حتى الآن، قالت المرأة التي كانت تريد الخروج لكنها وقفت على الكنب لتحتمي من الماء الطافح والرخويات الداكنة: “الله يلعنكم دا من خراكم”، وشعرت بغثيان وقلة حيلة وقالت لشخص كان نائماً “قوم شوف البلاوي”. مساءً حين بكت وهي في الحمام تحاول تسليك مجرى الصرف الصحي ورأسها المعصوب يؤلمها وقعت على شحمة أذنها ناموسة كانت في حقيقتها غراب. سمعت صوت ابنها ينادي خائفاً لأن أنفه ينزف دماً ثخيناً أسود، قالت: “الله يلعني أنا اللي خلفتكم” وشتمت شتيمة قبيحة جداً لا نريد ذكرها. طرق باب الشقة التي لا تتجاوز مساحتها 30 متراً مربعاً شخص أرسله شخص آخر، لما ردت عليه من خلف الباب متلثمة قال لها عليكم إصلاح المجاري، ودفع الإيجار. يرن هاتف المنزل وكان الذي يطلبها رجل آخر غير الذي كان نائماً. الفتاة التي ليست مصابة بالجذام تقول لها أن مريولها انقطع، وعليها أن تجلي المواعين أيضاً، وتنظف الولد الرضيع الذي يبكي الآن، وتصلي العشاء الذي فوتت وقته. مزدحمة، مزدحمة ولا أدري ماذا أقول.

 الرجل الذي يعمل في مكتب عقار يفتح على شارع لا نريد ذكر اسمه قال للرجل الذي يجلس أمامه حائراً: “لا تزعجنا، روّح الله يستر عليك”. الرجل الذي يجلس حائراً شعر بمرارة، ولم يدر ما يصنع. ركب سيارته التي اشتراها من مصري يعمل في مستوصف خاص، يعرفه منذ سنوات، وقبل أن يغادر نهائياً بأسابيع باعها له بثمانية آلاف. المصري الذي يعمل طبيبا في مستوصف خاص، كان يعرف صيدليا تعرض لضربة ساطور في كتفه، بعد أن حاول مقاومة رجل أربعيني داهم الصيدلية. وقف أمامه، وكان الصيدلي جالساً يلعب بجواله ويشعر بالضجر، قال الرجل الأربعيني الذي كان مشوشا في تلك الساعة: “طلّع الفلوس كلها”. وضرب بساطوره زجاج طاولة العرض. هذا الساطور ورثه عن أبيه الذي كان يستخدمه لتكسير عظام الأضحية صبيحة العيد، قبل ثلاثين سنة ربما. أحس الصيدلي بالموت، اتصل البنغالي الذي كان يعمل معه بالشرطة، جاء البلاغ من غرفة العمليات لعسكري يقف بجوار بوفيه متواضعة في شارع فرعي يعمل بها هندي فكر بالانتحار بعد أن صادرت الحكومة الأرض الزراعية التي تملّكها في بلاده من عمله في هذه البوفية. قال العسكري في نفسه: “اشغلونا هالملاعين”. في هذه اللحظة تحديدا قالت المرأة التي تعيش في شقة لا تتجاوز مساحتها 30 متراً مربعاً وهي تجلس في المطبخ ساندة ظهرها إلى باب الثلاجة: “من وين نجيب فلوس”. في الشارع مر من أمام العمارة رجل أسود، كان ينادي رجلاً آخر بعيدا، ظنت المرأة التي تسند ظهرها إلى باب الثلاجة وتزعجها رائحة المواعين الوسخة أن الصوت لأحد الجيران. أما الفتاة التي كانت مصابة بالجذام ولم تظهر عليها أعراض حتى الآن، كانت خائفة في سجن دار الرعاية على سرير صلب، تشعر بالمهانة والانكشاف. مزدحمة، مزدحمة ومؤذية. المرأة النيجيرية التي تشتكي من آلام الظهر وتصنع بهارات لتتبيل اللحم البقري تشعر بالغضب، وهاجت مثل المصروعة، لأن عم زوجها اتصل بها وقال بلغة صلبة وهو يجلس مع أربعة من أقاربه أن ابنها قد خُطِف. الرجل الذي قالت زوجته “قوم شوف البلاوي” صوّرته الكاميرا يقتحم صيدلية بساطور، لم يخبئ الساطور، دفع الباب الذي قال “صلِ على محمد”، ووقف، وضرب زجاج طاولة العرض، أمر الصيدلي أن يخرج له المال، قال له: “اسمع أنا ماني حرامي أنا أبي ثلاث آلاف بس، الله يلعنك”.

 في النهار كانت المرأة التي عملت في مدرسة خاصة بالقرب من الصيدلية تنتظر السائق، بكت وراحت تكمل طريقها مشياً، ولم يكن معها ثلاث آلاف، لأن الراتب تأخر. مزدحمة، مزدحمة ولزجة، في أثناء سيرك سوف تفكر تفكيرا سطحياً بالأمور التي يمكن أن تجلب لك المال، وربما تخيلت سهولة عمل مشروع بدائي. الرطوبة والحرارة العالية تضغط عليك، الهواء الثقيل يمر ساخنا من تجاويف أنفك، والعرق يظهر يابساً أصفر على ثوبك الأبيض، وتشعر بأنفاس الرجل الذي أكل في الصباح صحن فول وبيض وبصل أخضر تلامس قفاك كما لو كانت أنفاسه دبيبا حشريا، قريبة ودافئة، وصوت نفسه يحك غشاء مخك، الأصوات المشوهة تصل للأعلى، العرق غزير والرجل اليماني عصب رأسه بمنشفة قذرة غرقت في العرق. تجلس في المقعدة الخلفية للسيارة قرب الباب ويلتصق بك رجل أفغاني ويلتصق به رجل أفغاني آخر، ورابعكم رجل مصري لا يسمع جيداً، ولا يبالي بهذا الجو الخانق. إذا نظرت من النافذة سوف ترى لوحات المحلات اللامعة تجري، وصهريج صرف المجاري متوقف، ويدلي خرطومه الخلفي في فتحة أرضية، فتحة أرضية تتكاثر فيها الجرذان، والفئران التي تتصرف كما لو كانت قططاً برية، الرجل الذي يجلس مكان السائق في صهريج صرف المجاري، لا يشعر بالغثيان، ويتمنى لو ينتهي مبكراً حتى يأكل صحن عدس من عند يماني يعصب رأسه بمنشفة غارقة في العرق. أنفاسك تتضاءل، وحرارة الجو مؤذية، تشعر بها في مزاجك، وفي الصداع الذي يدق جبهتك بمساميره. لن تجداً عملاً. تقول في نفسك التي تشعر بالوحشة أن البقاء في هذه الأماكن يستلزم المال، البيع الشراء النوم الأكل الصداقة النفاق الجلوس في السيارة، إيجار الشقة، تسليك انسدادات المجاري، الاحترام آه، العودة للوطن، غسل العرق الأصفر اليابس على الثوب، وكل شيء بعيد لم تفكر به، كل شيء يستلزم المال. ينخبط رأسك برأس الأفغاني وبزجاج النافذة، يقول المصري الذي لا يسمع جيداً للسائق: “مابشويش ياعم”. شعرت بالانزعاج؟ آلمتك الضربة من رأس الأفغاني؟  الحق أقول لك: إن لم تملك المال الآن ليس لألمك معنى إلا المزيد من اليأس. تفرك جبهتك بيدك، وتحاول أن تنتبه لرأسك حتى لا تندفع دون إرادتك. ترى لوحات المحلات التي تعود للجري أمام عينيك في تكرار أبدي يطغى على كل شيء يمكن أن تراه.

 

عن تلك العلاقات التي نسيتها، حسنا:

الشمس صافية حيوية، وأشعتها الصيفية تنبئ بيوم شتوي دافئ. يوم من أيام يناير المختلفة الذي يستحق أن تستشعر به نشوة غير محددة، سعادة آتية من أيامك البعيدة، أيام طفولتك حينما تجلس على منضدة المطبخ تراقب أمك التي تنظف السمكة من أحشائها وتقشر حراشفها، وضوء الشمس الذي يهرب من الشباك العريض خلف المجلى يبعث على الإحساس بحميمية تجاه الأم. تلعب من مكانك على المنضدة بعلبتي الفلفل الأسود والملح، تحركهما كما لو أنهما سيارتين. أمك تنظر إليك بعفوية وتضحك، تمد في وجهك ذيل سمكة مقطوع لتخيفك بمرح، وصوت التلفاز يأتيك خافتاً مناسباً لصوت تلفاز في أول أيام الأسبوع. والألوان الخشبية الداكنة التي تغطي أرضية المطبخ ورائحة قشر البرتقال الذي تحرقه الأم على موقد الغاز، كل هذا صنع هالة مريحة حول هذه الذكرى التي تتذكرها الآن في يوم من أيام يناير الدافئة. على الشاطئ خارج المدينة، في مكان غير مدرك، كان الزبد الأبيض للموج يندفع بقوة ليرتطم بمكعبات الساتر الحجري، ثم يرتفع عالياً. موج البحر، الهواء البارد الذي تدمع العين منه، النوارس تتنافس على سمكة مقطوعة الرأس، تحلق وتهوي، رائحة البحر الثقيلة، وخوفه الغامض من قوة الموج واتساع البحر. النخل المستورد بجذوعه العالية. تمنى لو أن معه الآن سيقار. جلس على الكرسي الأبيض الخشبي، على الكرسي الأبيض الآخر تجلس فتاة جميلة، لها جدة قديمة في صنعاء، تسمي بالله قبل أن تفعل أي شيء. تنظر للبحر، لا تدري لماذا تذكرت شمس الظهيرة في صالون البيت، الشبابيك الكبيرة القريبة من الأرض، وستائر الشيفون المطرزة. أصوات الأطفال الذين يلعبون حول المسبح، الإحساس بالهواء الهادئ المنبعث من فتحات التكيف في السقف، الاسترخاء على الصوفة وقراءة رواية بلزاك باللغة الإنجليزية، ودرس البيانو مع الآنسة صفاء في صالون المنزل، نغمة الدو في أول سلم العجم ترن في أذنها. كانت هذه سيجارتها الثانية. نظرت إلى عينيه، هو أيضا ينظر للبحر بصمت. ببطء قال لها “لقد حدث كل شيء على غير ما أريد، ومعارضاً لطبيعتي”. ولم ينظر إليها. نظر بيأس إلى الخلخال في ساقها، ود لو يمسك يدها، لكنه خشي مع هذا الاندفاع أن يبدو ضعيفاً أو أخرق. قالت لا أريد أن أتكلم بشيء، صوت ارتطام الموج بالساتر الحجري قوي وحاد. مد يده لعلبة سجائرها، لم تنظر، ومدت له القداحة. وقف ومشى خطوتين أو ثلاث للأمام، لو أني أرمي نفسي الآن إلى البحر، خجل من نفسه لأنه لم يجد القوة لمواجهة مثل هذه الأمور. دخن، وعاد ليجلس، لم ينظر إلى عينيها. تمنى لو أنه الآن يبكي وينتهي كل هذا التوجس، لا أحتمل هذا الثقل. قال لها بيأس وهو ينظر للخلخال ويكاد جسده يميل للأرض: “هل تنسي ما حدث؟” تخرج الكلمات ثقيلة وكأنها تُنزع نزعاً من روحه، صوت ارتطام الموج بالساتر الحجري. قالت وهي تشعر بعاطفة تجاهه وتود لو أنها تستطيع أن تنسى وأن يعود كل شيء لما كان: لم يحدث شيء مهم، وصمتت. جال في نفسها تصور كئيب عن الوجود، لم يكن واضحاً لكنه في معنى ما تصور عن محدودية المباهج في هذا الوجود، حينما تسير حياتك على نحو ممتاز، سوف يكون ذلك هو الوقت المثالي لضربة الفأس التي تقسمك نصفين، والإنسان على أي حال ليس شجرة ليحتمل ضربة فأس حديدية وصلبة. حينما تشعر بقوة وسعادة الامتلاك تغمر روحك وترى فاعلية المال بأم عينيك سوف تصيبك الأوبئة النادرة، أو تحترق عائلتك، أو ينسلخ جلدك أو تقع عليك طائرة بويينغ وأنت تمشي من دون خوذه رأس .. ثم فكرت أن كل هذا قد يقع لك دون أن تملك أي قوة، حتى حينما تكون حقيراً، مهمشاً. هكذا تصورت. قال لها وهو يرى التماع ضوء الشمس على خلخالها: يمكن أن نبدأ  كل شيء من جديد لو مرت هذه الأوقات، أرجوك. يمكن أن نعيش في أمريكا هذه المرة، أطلب نصيبي وثم نذهب، سوف تكون لنا حياة جيدة. أرادت أن تقول أن هذا ضد طبيعتها لكنها صمتت، ثم قالت وهي تنظر للبحر بكآبة: أنت لا تفهم. وأعادت ما قالت لأنها حينما نطقت “تفهم” توافق نطقها مع دوي ارتطام الموج بالساتر الحجري: “أنت لم تفهمني أبداً”. أمسك بيدها قاصداً أن يقبل ظهر كفها لكنه في لحظته تلك كان مرتبكاً وعاجزا عن قول كلام مفهوم لذلك رفع يدها ناحية صدره وبكى. أتذكر أنه حينما كان صغيراً أراد أن يفعل شيئاً مدوياً، يفعل ما يجعله يفتخر لآخر يوم في حياته بتلك القوة، سوف يقول الجميع من ذلك الذي فعلها يا للولد الشقي، وظن أنه حينها سوف يكتم ابتسامته لأن أحداً غيره لن يعرف من فعل ذلك. ولم يخطر بذهنه أمر أكثر حمقاً من تدمير سبورة الفصل بالحبر، حينما بدأ جميع الطلاب بالخروج للفسحة بعد الحصة الثالثة، تظاهر بكتابة درس ما في دفتر الرياضيات، حتى يجعل تأخره في الفصل أمراً طبيعياً، جزء من يوم دراسي عادي. ولما مضى بعض الوقت وتأكد أن الجميع قد نزل إلى الفسحة، كسر قلماً، قلم حبر أزرق سائل، وكسر آخر أحمر ببعض الصعوبة. استخدم أسنانه لكسر رأس القلم، واستعان بساق الكرسي. كان الحبر الأزرق يبدو داكناً يميل للسواد، ثم أخذ يرسم خطوطا بالطول والعرض على السبورة حتى تتعذر الكتابة على المدرس في الحصة التالية. لما انتهت الفسحة وعاد بقية الطلاب، دخل المدرس وبدأت حصة رياضيات أخرى ثقيلة. لم يحدث شيء لأن الخطوط على السبورة كانت غير مؤثرة. على عكس بقع الحبر في يديه وبجانب فمه كانت قوية وظاهرة، بقع مؤثرة. أما الآن فإنه يبكي ويحاول أن ينتبه لرأسه حتى لا يندفع من دون إرادته. سحبت يدها، وشعر بالخجل من نفسه المنهارة. تمالك نفسه وقال لها بخطابية يائسة وافتعال من يلقي قصيدة: رغم كل شيء ترينه، أنت لم تري روحي الممزقة روحي الخاوية. إني بدونك شقي ولا أجد أي معنى لكل هذه البهرجة، أغمض عينه وقال “أرجوك”. هي أيضاً كانت حزينة رغم كل شيء. نظرت في الأفق حيث النوارس التي تحلق، وضوء الشمس، والهواء البارد. قالت: “أنا لم أفعل شيئاً. وأرادت أن تقول أنت تفسد مباهجنا لكنها لم تقل، ما الفائدة من الكلام، أشعلت سيجارة أخرى. غاضبة، فكرت أنه يستحق الألم، وأن ارتباطها به لا جدوى منه، ولا جدوى من أي شيء. نظر إلى الخلخال في ساقها وقال: قلبي يتحطم ولن أكون سعيدا بعد الآن وأنا إنسان على أي حال. أرجوك ..

(يتبع في العدد المقبل)

 *****

خاص بأوكسجين

 


قاص من السعودية.