بين رائحة الشهوة وبهاء النار وألق الجنة
العدد 150 | 20 نيسان 2014
أسامة اسماعيل


النصوص أدناه تتطلب الحيطة والحذر فكل نص هو عن فيلم وعنوانه عنوان ذلك الفيلم، فإن كنتم قد شاهدتم الفيلم فاللذة مضاعفة، وإن لم تكونوا قد شاهدتموه فأيضاً اللذة مضاعفة كونها نصوص ذات قيمة أدبية استثنائية قادمة من مهووس سينمائي *أوكسجين

 

نادي القتال

ذاك الفتى كان يعمل في “فندق بريسمنت” الفاخر

ثم طردوه

بعد أن تغوط في حساء الفطر وبال في كؤوس الشراب.

 

ذاك الفتى مرّ بي مراراً قابعاً بين صراصير مراكز التسوق،

مكفّناً ببدلتي الرسمية حول طاولات فنادق الخمس نجوم

محاولاً أن أكون وفي الوقت نفسه:

بيل غيتس رأس المال

وزياد رحباني الحقيقة

وجون ترافولتا الرقص

وفيفالدي الموسيقا

وكازانوفا العهر

وفيلليني السينما

وغيفارا النضال

وأرماني الموضة

بينما أرشف بشهية حساء الفطر وكؤوس الشراب.

 

ذاك الفتى اقتلع مني بلكمة واحدة سراباتي وأوهامي وكل ما لقّنوني إياه بأنني قد أكون:

بيل غيتس رأس المال

وزياد رحباني الحقيقة

و…و…و…

مصحوبة بصف أسناني الأمامية المتباعدة ودمي

 

ذاك الفتى اللعين تايلر دِردن

يسوعي الذي لا يرحم، إلهي المسيَّف، وجع خاصرتي الدائم.

***

 

القيامة الآن

منبثقاً رأسه من العتمة:

“أنت جابي الموت، أوعزَ لك كتبةُ الحسابات، أن تحصِّل فاتورةً فائتة”.

مرةً أخرى اختار العقيد كيرتز أن يوقظنا على طريقته.

مرةً أخرى متوسِّلاً النقيب ويلارد بصوته الأجوف:

إنه يضمِّخني بدمِ أحلامه. 

إنه يفرغني من نفسي.

إنه يحشوني بالخراء.

اقتله الآن بينما يحدق بي.

اقتله الآن بنصل نومك الدافئ.

 

ويلارد وأنا كنا قد اجتزنا النهر الأفعواني من فيتنام إلى كمبوديا.

ويلارد وأنا كنا قد عرفنا عنه من النهر والبراري والغابة كل شيء 

ولم نعلم عنه أي شيء.

ويلارد وأنا كنا قد اجتزنا الجنون والرصاص وموسيقا فاغنر والموت.

 

وأنا الآن مستعدٌ تماما لقتله وقتلي وقتلكم أجمعين.

 أنا الآن مستعدٌ تماما لنهش جثته وجثتي وجثثكم ورب العالمين… آمين. 

 أنا الآن سأوصد كل الأبواب في وجهكم مبشِّراً:

 إنها النهاية يا أصدقائي الجميلين.

***

 

تكلّم معها

لأنها تحبني بما لا يحتمله أحد.

 استيقظت ذات صباح متقلصاً بحجم اصبع قدمها الصغير فسكنتها. في بادئ الأمر، بنيت كوخاً صغيراً هناك في الأعلى تحت شحمة أذنها الوارفة لأن مطراً ساخناً كان ينهمر علي كل يوم، كنت أهدهدها كل مساء بصوت خفيض. ولأني صغير جداً فلا حاجة لي للنوم، كنت أقضي الليل تائهاً في شعرها الأسود أو قابعا قرب رموشها لأرشف دمعها عندما تبكي في أحلامها، أو منتظراً قرب شفتها لأنصت لأنفاسها وأشرب من لعابها.  كانت تضمخني بعطرها كل صباح، وحين تأخذني في نزهة إلى الحديقة كنت أغفو على صوت قرطها فتمسكني كريشة وتضعني في علبة صغيرة. بعد سنة أو سنتين ذهبت لتعيش قرب البحر فجئت إلى تلك التلّتين هناك في الأسفل ونصبت أرجوحة نومي بينهما. كانت كلما فكرت بي ينتصب عامودين صغيرين في قمتهما فأمتطي واحداً منهما وأقضي ساعات أنظر إلى الموج بكسل لذيذ. قبل أن تخرج لتسهر كنت أشبُكُ لها مشابك حمّالة صدرها وأعقد لها أربطة حذائها وأشد لها جوربها وإذا اصطحبتني معها أجلس هناك بجانب حلمتها وأتشبث بقماشها المخرّم عندما ترقص. بعد سنة أو سنتين ذهبت لتعيش في الجبال فنزلت إلى الدفء هنا في هذا الدغل. كانت تفرش لي عانتها الممسدة وتغطيني بقماش ناعم، وعندما يشتد البرد أنزلق قليلاً نحو كهفها الدافئ وأنام طوال الشتاء. كل ما علي الآن أن أموت فألج هذا الكهف نحو ذلك الضوء هناك وأعيش أبداً بين رائحة الشهوة وبهاء النار وألق الجنة.

***

 

أسامة

الشيخ المتكئ يسبّح على مهله خرزاتٍ بلون الدم قطرة قطرة. قلت له: لأني أرعبهم، لم يبق لي السفلة من شيء. بجلاليبهم عصبوا عيني، بنعالهم أخفوا وجهي، بعماماتهم أطبقوا على ثدييّ كي لا يطفرا، بمسابحهم أخاطوا فرجي، وجدّتي خوفاً منهم علي قصّت شعري المضفور لأبدو مثلهم. لأنني أرعبهم، السفلة قتلوا أبي، ووأدوا أمي، حطّموا الصور على الحائط، سدّوا النوافذ، أعتموا المصابيح، دفنوا ألواننا، كسّروا مرايانا، ذبحوا رجالنا، رصّونا في البيوت الموصدة، وها هم يصلون إليك ليأخذوا رحمتك منك قبل أن تحكم علي.

***

 

21  غراماً

قبل أن أموت بقليل، ضعوني في تابوت زجاجي حتى تروا كيف سيرشح مني 21 غراماً وتتكاثف على الزجاج. حينها سترون أسماءكم جميعاً مصفوفة في الغبش كطلقات مسدس موجهة على قلوبكم واحداً واحداً. وباستطاعتكم أيضاً أن تكتبوا على الغباشة ما شئتم، كم كرهتوني لأنني لم أطق أن يحبني أحد، كم كرهت كل شيء فيكم عدا شياطينكم. مع أنكم حاولتم لم يستطع أحدٌ منكم أبداً أن يكون الوغد الذي كنته أنا… لتكتبوا ما شئتم.

إنكم لا بد ستلاحظون أني سأصبح أضخم مما أنا عليه، وأن قرنين صغيرين أحمرين سيبزغان من رأسي، ومن فمي سيبرز نابا ضبع، ومن أصابعي مخالب وحش. وستدركون حينها أني لو كنت حياً في تلك اللحظة لكنت قفزت عليكم وقطعتكم جميعاً إلى نتف صغيرة ووضعتكم مكومين في تابوت زجاجي لأكتب على غباشتكم كم أكرهكم، كم كانت خسارة أنكم عشتم لكل هذا الوقت، كم كان عادلاً لو أنكم قتلتم لحظة ولدتم. كيف جعلتم هباءً ليس حياتكم فقط بل حياتي أيضاً، إن كان لكم إله فكم هو غبي حتى يخلقكم على هذه الشاكلة، فمهما فعلتم ومهما حاولتم لن تكونوا بعد أن أموت سوى 21 غراماً من الغبش على زجاج بارد.

***


بعيد

لأننا جدُّ فقراء. فقد أبى التفاح أن يتكور بقدر ما تكورت ظهورنا، وقد أصاب العقم أرضنا بعكس نسائنا، وقد تعرّى السنديان كي لا يجف عرقنا بظلِّه، والجليد ذبح كل الزهور الصغيرة. لأننا جدُّ  فقراء فقد أشارت لنا دروب الضباب أن نخطو خلفها غرباً كي نتبعثر في الشوارع المرصوفة، كي نتقطّع في الأزقة الضيقة، كي يقتلنا الحنين والخوف. لأننا جدُّ فقراء، مطأطئين هكذا سنبقى كي يمشوا من دون عناء فوق رؤوسنا، كي تتلقفنا الأرض سريعاً حين نسقط.

***

 

الإسم الأول كارمن

إنه في داخلي، وفي داخلك أيضاً. إنه يفتعل أمواج التخريب. لا أعرف الكثير، لكني على يقين بأن الأبرياء ليسوا من يحكمون هذا العالم. سنستمر إن كان ممكناً. أنا لست خائفة، لكن ذلك لأني لم أستطع أبداً أن أكون خائفة. لم أتعلم كيف أرتبط بأي شيء. علي أن أمضي الآن، أراك لاحقاً.

عندما يصبح للخراء قيمة، سيولد الفقراء من دون مؤخرات. كي أنتصر على الجهل والجريمة علي أن أثور كعاصفة وأنثر الشر في كل مكان. إنه الزمن الذي يشهد فيه جنونك نقائض كل شيء.

***

 

سحر البرجوازيين المكتوم

يأتون إلينا كالجراد، الخراب في عيونهم، الفوضى والوحشية، ولا ينفكون يقاطعون عشاء الكافيار مع شرائح البيض المسلوق والخبز الفرنسي المحمّص والبط المنقوع بالنبيذ الأبيض. يقرعون البوابات بأكفهم الدامية، ورؤوسهم تتدلى من بين أكتافهم. يفترشون الحدائق المنسقة وينظرون إلينا كقطيع خنازير يشاهد الأوبرا. لا أمانع بأن نرمي لهم ببعض شرائح اللحم وبضع زجاجات من نبيذ خدمنا، فهذا يجعلني أشعر بالرضا اتجاه نفسي. لكن كما قال أحدهم، إن كانت غرفتك تعج بالذباب فعليك أن تأتي “بقتّالة ذباب” وتبدأ طاخ طيخ.. فلنقتلهم جميعاً ونتابع عشائنا.

***

 

طعم الكرز

لم أعد أنام كما ينبغي، ولا يسعني إلا أن أنظر من النافذة لأراكم ساكنون كمستنقع، أيها المسروجون بالرتابة، الملجومون بالرضا، الغارقون بتفاهتكم. من الواضح لي من هنا أنه بسببكم الحياة لم تعد جميلة كما ينبغي، ولو أن ابن قحبة منكم يرضى أن يصعد إليَّ هنا ويفج رأسي بجموده، أو عاهرة منكم تجزّ عروقي بأظافرها، أو أن أطمئن إن مت من شدة كرهي لكم بأنّ أحدكم سيرميني في حفرة و يذري فوقي عشرين رفشاً من التراب لكنت سأجد شيئاً واحداً لأشكركم عليه.‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

_____________________________

كاتب من سورية

 

الصورة من أعمال الفنانة التشكيلية السورية رؤيا عيسى

*****

خاص بأوكسجين