في سنة 1972 أصدر الكاتب النمساوي الكبير بيتر هاندكِه كتابًا يضمّ مجموعة من المقالات الأدبية واليوميات والنصوص النثرية تحت عنوان “أسكن في برج عاجي” (دار زوركامب فرانكفورت/ماين)، تعدّ – وفق قراءتي الشخصية- الميثاق الأسلوبي الذي أبرمه هاندكِه بينه وبين نفسه أولًا، ثمّ بين المهتمّين بقراءة أعماله.
قبل الدخول إلى مقالة هاندكِه، أودّ التنويه إلى مقابلة قديمة، أجرتها د. جون شلوستر، وهي أستاذة أدب أمريكية مع بيتر هاندكِه في 23 يوليو سنة 1979 في أثناء إقامة قصيرة في برلين الغربية، كشف فيها عن رؤية فنية ظلّت ملاصقة لأدبه وأسلوبه.
من بين أسئلة المقابلة اخترتُ السؤال التالي كتمهيد لفهم الفقرات التي نقلتها من مقالة هاندكِه التي تحمل عنوان الكتاب ذاته: “أسكن في برجٍ عاجي”.
سُئل هاندكه السؤال التالي: “سيد هاندكه.. في كتابك أسكن في برجٍ عاجي قلتَ إن القصّة المحكية لم تعد ضرورة أدبية، وإن كثيرًا من أدوات الأدب الخيالي تسقط تباعًا في الطريق. لكن قارئ أعمالك مثل (وزن العالم) و(رسالة قصيرة للوداع الطويل) و(المرأة العسراء) يرى أنها تلتزم طريقة سرد تقليدية؟ ما رأيك في هذه الملاحظة”؟
كان ردّ هاندكه: “بالفعل لا تشتمل هذه الأعمال السردية والروايات على قصة. إن هي إلا سلسلة من أحداث اليوم العادية رُتبّتْ ترتيبًا جديدًا. فالحكاية/المُخيّلة ما هي إلا نقطة التقاء أحداث اليوم التي تقع للفرد، وهو ما يخلق انطباعًا لدى القارئ بأنها خيالية. لذلك لا أعتقد أن ما كتبته يعدّ سردًا تقليديًا، ما فعلته هو أنني أعدتُ ترتيب أحداث اليوم المتشظية ترتيبًا جديدًا، فبدتَ وكأنها خيالية، ولا تحدوني رغبة لأن أفعل أكثر من ذلك. لا أظن نفسي قادرًا على كتابة خيال غروتسكي عجائبي غريب، أو لوحة جدارية مزخرفة تعيد تصوير المجتمع، تقدّم بشرًا عظماء يجتمعون معًا. فكل شجرة أصفها ينبغي أن تكون أنا. لا أرى تناقضًا بين اليوميات والأدب الخيالي، اليوميات عبارة عن وصف الملاحظات التي تعنّ إليَّ يومًا وراء يوم وصفًا موضوعيًا. اليوميات بالنسبة إليَّ لون من ألوان الرواية أو ملحمة لسرد أحداث الحياة اليومية”.
اخترتُ السؤال السابق كمُدخل لقراءة مقالة هاندكِه المشار إليها، التي انتقيتُ منها الفقرات التالية:
عن نظرته إلى قدرة الأدب على تغيير الإنسان يقول:
“منذ أن وعيتُ إلى مصيري في عالم الأدب كقارئ وكاتب على حدٍ سواء، بدأتُ أنظر إلى الأدب غير المنفصل عن الواقع نظرة مُنتبهةً ناقدة. أنتظر من أي عملٍ أدبي أن يقذف في قلبي شيئًا جديدًا، شيئًا يغّير مِني ولو قليلًا، شيئًا ينبهني إلى إمكانات فهم الواقع لم أفكّر بها من قبل، ولم أفطن إليها من قبل، ينبهني إلى إمكانية جديدة كي أرى، وأتكلّم وأفكّر وأمارس وجودي.
ومنذ أن وعيتُ إلى قدرة الأدب على تغيري، وإلى قدرته على أن يصنع مني إنسانًا آخر، أتوقّع من كل عمل أدبي أن يمنحني فرصة جديدة لأواصل التغيّر، إذ لا أرى أنني قد وصلتُ إلى نسخة نهائية من نفسي، وأنتظر من كل عمل أدبي تقويض كل تصورات العالم التي تبدو حاسمة”.
“ولما تنبهتُ إلى أنني تغيّرت بفضل الأدب، وأنني صرت أرى الحياة بوعيّ أعمق بفضل الأدب، أيقنتُ من قدرة أعمالي الأدبية على تغيير حياة الآخرين أيضًا، لقد غيّر فون كلايست، وفلوبير، ودوستويفسكي، وكافكا، وفوكنر، وآلان روب- جرييه من وعيي بهذا العالم”.
وعن رؤية هاندكِه إلى أهمية الأسلوب، الذي كان يراه العمود الفقري للمُنتج الأدبي برمّته يقول:
“أما اليوم كقارئ وكاتب، فلم تعد ترضيني الإمكانيات المطروقة لتصوير العالم. ففرصة تصوير العالم أقصاها عندي مرّة واحدة فقط، يستحيل بعدها إعادة محاكاتها. ذلك أن إعادة استخدام طريقة مطروقة لتصوير العالم لا يأتي بجديد، ويمسي في أفضل الأحوال تعديلًا على أسلوب قديم. قد يصلح الأسلوب المُبتكر في تمثيل الواقع في المرة الأولى، لكنه يتحول في المرة الثانية إلى مجرد نمط أسلوبي، يخلو من الواقعية، حتى لو وُسِمَ بأنه أسلوب واقعي”.
يواصل هاندكِه في فقرة أخرى من مقالته كشف رؤيته قائلًا:
“أعرف أن كل ما أقوله مغرقٌ في التجريد، لإني لم أضرب أمثلة ولم أعطِ أرقامًا ولم أذكر أسماء. سأسوق نفسي كمثالٍ على تحوّل طريقة التصوير الأدبي إلى نمط. قبل عدّة سنوات بينما كنتُ أنظر في قانون العقوبات، عثرتُ على مواد قانون الأحكام العُرفية. ينظّم القانون عبر فقرات الأحوال التي تُفرض بموجبها الأحكام العرفية في منطقة ما: كتشكيل هيئة المحكمة، وآلية عملها، ووسائل الطعن المكفولة للمُدعى عليه، والعقوبة المنصوص عليها في هذا القانون (عقوبة الموت)، وما الذي يحدث بعد النطق بالحُكم (يُنفّذ حكم الإعدام بعد النطق بالحكم بساعتيْن، ويجوز تأجيل التنفيذ ساعة أخرى بموجب طلبٍ من المحكوم عليه، وكيفية تنفيذ الحُكم، وما الذي يجري تحديدًا بعد تنفيذ الحُكم). وقعتُ في أسر هذا الشكل التجريدي المستخدم في تصوير عملية “مفارقة الحياة” وفقًا لآلية طقسية. بدا ترتيب الجُمل، التي كانت في أغلبها جُملًا شرطية تصف واقعًا مجرّدًا، لكنه قابل للتطبيق على أرض الواقع إذا ما تحققت شروطه، أقول بدا ترتيب الجُمل مخيفًا ومقبضًا. كشفت لي الجُمل المجرّدة، التي لم تكن ترسم واقعة موت شخصٍ بعينه، إمكانية جديدة لتأمل ظاهرتيّ الاحتضار والموت، وغيّرتْ من عادات التفكير القديمة في طريقة تصوير الاحتضار/الموت تصويرًا أدبيًا. حينها كتبتُ نصًا ينقل أسلوب النص القانوني إلى عالم الأدب، وكان مستمدًا من متن النص القانوني وإن كان مكتوبًا بعباراتي الخاصة. ثم حاولتُ لاحقًا تطبيق هذا الأسلوب على الواقع في مرات مختلفة. لكن، في المرة الثانية تحوّلت الطريقة المُبتكرة إلى مجرد نمط عاجزٍ عن خلق إمكانية جديدة، وتحوّل اللعب [الأدبي] إلى ضرب من العبث والتحايل”.
وعن علاقته بأدب مجايليه من الكُتّاب يقول:
«لم تعد تربطني أية صلة بالأدب المكتوب حاليًا. والسبب أنه لم يعد يـنـقـل إليَّ سوى موضوعات مطروقة، وأفكارًا مطروقة، وأساليب مطروقة، أقصد أفكارًا ومشاعر مطروقة لإن طريقة نقلها إليَّ مألوفة».
وعن ضروة التخلّص من الحكاية/الخيال في كتابة الأدب يقول:
“لا أتحمّل فكرة الأدب الذي يقصّ الحكايات. تبدو الحكايات بالنسبة إليَّ غير مُحتملة كلما أغرقتْ في خيالها. أُفضَّل سماع الحكايات مرويّة في المترو أو في الحانة أو بجانب الموقد في حالتي. الحكاية تُـشتت القارئ، تُـسلّيه في أفضل الأحوال، ولما كان دورها التسلية فقط، صارت لا تسليني على الإطلاق. كل حكاية خيالية تصرف انتباهي عن “حكايتي الحقيقية”، تُنسيني نفسي عبر إغراقها في الخيال، تُنسيني موقفي من العالم، وتُنسيني العالم. فالتخيّل، ومحاولة اختلاق حدث كمطيّة لنقل حقائق عن العالم لم يعد ضروريًا، لإن الخيال يقف حجر عثرة. أرى أن تقدّم الأدب مرهون بالانسلاخ التدريجي عن الخيال غير الضروري. تسقط الأدوات القصصية تباعًا كل يوم، وتمسي الحكاية لا لزوم لها ، وابتكار الأحداث لا فائدة منه، ما يعنيني في الأدب هو مشاركة الخبرات والتجارب – لغوية وغير لغوية-، ولتحقيق ذلك الغرض لم يعد من الضروري ابتكار حكاية. لا أريد على الإطلاق أن أرى نفسي مستغرقًا داخل حكاية، لا أريد ستارًا يحجب الجُمَل، الجُملة هي عندي بيت القصيد”.
***
فطنتُ بعد قراءة المقالة إلى سبب تسمية الكتاب “أسكن في برجٍ عاجي”؛ العنوان مخادع، يقول شيئًا ويقصد شيئًا آخر، فالرغبة في سكنى البرج العاجي تنطوي على رغبة صادقة نزيهة في الاقتراب من الواقع والحياة والناس. وحثّتني المقالة على التفكير في أمور متصلة بتطور رؤية الإنسان إلى الأدب. تنبهّتُ إلى أن النصوص الأدبية التي التصقت بذاكرتي وشكّلت ذائقتي ومازالت، هي نصوص ابتعدتْ بشكلٍ أو بآخر – بذكاء ووعيّ- عن الإغراق في الخيال، ولا أقول نبذته تمامًا، فتبنّتْ طريقة أخرى في فهم الخيال، وفي إعادة ترتيب وقائع الأحداث اليومية/الحياتية ترتيبًا مغايرًا، فأنتجَتْ نصوصًا نثرية تفوق في جمالياتها– بحسب ذوقي الشخصي- أعمالًا أخرى توسلّت بمطية الحكاية/الخيال بحسب تعبير هاندكِه للعبور إلى الضفة الثانية.
ومثلما لم يفرّق هاندكِه بين كتابة اليوميات وكتابة الرواية، صرت لا أفرّق بين الأعمال الخيالية (الروائية والقصصية) الخالصة وبين “تقرير إلى غريكو” لكازانتاكيس، و”صورة الفنان في شبابه” لجويس، ورسائل كافكا وشذرات بيسوا، وسيرة هيرمان هسّه الذاتية، وأعمال كونديرا النقدية، وبعض نصوص بدر الديب، ويوميات مصطفى ذكري، أدركتُ ما كان يقصده هاندكِه حينما قال: “أكثر العبارات سخافة عن الكتابة هي القول أن لدى هذا الكاتب شيئًا ليقوله، فليس عندي ما أقوله، ولذلك أكتب، وليست عندي موضوعات أريد الكتابة عنها. ما يشغلني في الكتابة شيء واحد فقط: أن أرى بوضوح”.
*****
خاص بأوكسجين