نظر حازم إلى الساعة المعلّقة على الحائط قبالة سريره، كانت تشير إلى السادسة وبضع دقائق صباحاً. استأذن الأموات – سكّان أحلامه منذ سنوات- في النهوض. كان قد تعوّد على وجودهم هناك منذ وقت طويل، حتّى أنّ التسكّع معهم و التحدّث إليهم كل يوم بات أحد أساسات فكرة النوم نفسها. سأل صديقةً ذات مرّة: “ما معنى أن يظهر الأموات في الحلم بشكلٍ متكرّر؟”.
-“هل يطلبون منك الذهاب معهم؟” ردّت متسائلة.
-“لا أذكر، ربّما!”.
-“هذا يعني أنّك ستلحق بهم قريباً”.
-حسناً”.
لكنّ ذلك لم يحدث حتى الآن.
-“يبدو أنّها كانت تقصد أنْ تقول أنّنا سنموت جميعاً في نهاية المطاف” قال لنفسه.
نهض من السرير، غسل وجهه، أعدّ القهوة، شربها على مهل. ثمّ ارتدى ملابسه، وغادر شقّته الصغيرة ثلاثة طوابق نزولاً. ذهب إلى سيّارته الصغيرة، دلف إليها وشغّل المحرّك.
-“اللعنة! لقد نسيتُ النقود!” تذكّر بحنق.
أطفأ المحرّك، خرج من السيارة، وعاد ثلاثة طوابق صعوداً إلى شقّته الصغيرة. دخل وذهبَ مباشرة إلى المكتبة الصغيرة حيث يحتفظ بمبلغٍ من المال.
عيد ميلاد حبيبته يصادف اليوم. كانا متّفقين على كره المناسبات والتواريخ، والسائد بينهما تجاهلها وجعْلها تمرّ دون ضجّة أو احتفال. الكثير من الرجال في هذه المدينة يحتفلون بأعياد ميلادهم، فما بالك بالنساء! وما بالك بتوقّعات المرأة من حبيب أو زوج في مناسبة كهذه! لكنّ حبيبته لم تكن من هذا النوع، واحتمال أن تحظى باِمرأة تشبهك في مثل هذه الأشياء كاحتمال الفوز بالجائزة الكبرى في اليانصيب.
لكنّه – ودون أن يكون متأكّداً من السبب- أراد أن يكون هذا اليوم استثناءً. ربّما كان يرغب في مفاجأتها على سبيل التغيير لا أكثر. فكّر في احتفالٍ صغير على شكل كعكة مكوّبة صغيرة مع شمعة في منتصفها، والهديّة المحترمة: زجاجة عطر فاخرة.. تلك التي اِدّخر المبلغ المختبئ بين الكتب لأجلها.
دسَّ النقود في جيبه وعاد إلى السيّارة. شغّلها وانطلق نحو الشارع الرئيسي.
كان الوقت لا يزال باكراً بالنسبة لكل شيء بتوقيت هذه المدينة. لن تفتح المتاجر أو المقاهي، ولن تدبّ الحياة في أوصالها فعلاً قبل ساعتين أو ثلاث.
-“كل شيءٍ يحدث متأخراً هنا.. إلّا الموت” فكّر حازم وهو يحاول تجنّب النظر إلى صور الأموات المعلّقة على كل زاوية زقاق وناصية طريق في طول المدينة وعرضها.
نظرَ – فيما كان يقود سيّارته ببطء مع حركة السير الخفيفة- إلى وجوه “الأحياء” في الشوارع. وجوهٌ تشبه المدينة نفسها: متجهّمة، عبثية، لا شيء يعجبها. لكنّ بالأخص.. حزينة.
تابع القيادة باتّجاه أطراف المدينة.
عند زاوية شارع فرعيّ، لوّحت له اِمرأةٌ بيدها. لم يكن ذلك أمراً مألوفاً هنا. تجاوزها ببضعة أمتار، ثمّ توقّف دون أن يكون متأكداً لمَ فعل ذلك. جلس يراقبها عبر المرآة الجانبية وهي تقترب من السيّارة. بدا كل شيءٍ فيها متوسّطاً: الجمال، الطول، الوزن.. حتّى شعرها كان متوسّط الطول دون لون محدّد. ملابسها عادية أيضاً، حذاء رياضي مع بنطال جينز، كنزة رمادية وسترة سوداء خفيفة فوقها.
لكنّ تبرّجها كان شيئاً يصعب وصفه بالعاديّ أو المتوسّط، إذ بدا وجهها شديد البياض وشفتاها شديدتي الاحمرار.
فتحتْ باب السيّارة الأمامي وجلستْ بجانب حازم.
-“مرحباً” قالت المرأة.
-“مرحباً” ردّ حازم وهو يضغط على دوّاسة الوقود لينطلق بالسيّارة من جديد.
ساد صمتٌ، كسرهُ حازم بعد لحظات: “كيف هي وجهتك؟”.
-“إلى حيث تتجه بنا. آمل أن لديك مكاناً مناسباً كي لا نضطّر إلى فعلها هنا في السيّارة”.
-“أوه لا، لستُ مهتمّاً بذلك” ردّ حازم بارتباك.
-“لماذا توقّفتَ إذاً؟”.
-“ظننتُ أنّكِ بحاجة إلى توصيلة”.
-“لا، لستُ كذلك. لكن بما أنّني أصبحتُ هنا بالفعل ربّما تعيد التفكير في الأمر، يمكنني أن أمصّ لك هذا سريعاً إن أردتْ!” قالت وهي تشير إلى قضيبه.
-“لماذا تقومين بذلك؟”
-“ماذا تعتقد؟ ليس الأمر وكأنّني عجزتُ عن مقاومة جاذبيتكَ القاتلة بالطبع. لا شيء من كل هذا يتعلّق بالمتعة يا عزيزي.. المسألة برمّتها تتعلّق بالمال فقط، ولا أظنّك تحتاج لمعرفة أكثر من ذلك. لكنّني أستطيع أن أقول لك شيئاً مؤكّداً: بات عليك لكي تتمكّن من النجاة هنا القيام بأشياء لم تكن لتخطر ببالك في يوم من الأيام”.
ركن حازم السيارة على جانب الطريق. أخرج النقود من جيبه، سحب نصف الرزمة تقريباً ووضعها في يد المرأة: “خذي استراحة اليوم” قال بينما كان يمدّ يده و يفتح الباب لها.
-“هل أنتَ جاد؟” قالت المرأة مذهولة.
-“كوني بخير.. مع السلامة”.
غادرتْ المرأة السيارة وأغلقتْ الباب، لكنّها ظلّت واقفة دون حراك تشاهد الرجل ينطلق مبتعداً.
-“هل بتّ تتعفّف عن اقتناص الفرص السهلة الآن؟ يا لها من إشارة!” حدّثه صوتٌ هازئٌ من مكان ما داخل رأسه. لكنّه قرّر ألّا يستمع إليه، إذ لم يكن يرغب في التفكير في كلّ ما حدث للتوّ. فذهبَ بتفكيره سريعاً إلى مكان آخر: “فلتكن زجاجة عطرٍ جيدة فقط. لن يكون ذلك بالشيء السيّء”.
انعطفَ حازم يساراً ليسلك الطريق البحري ويتجنّب الازدحام الآخذ بالازدياد. تحقّقَ من الوقت، كان لا يزال هناك ما يكفي ليذهب ويشتري الهديّة.. ويصلَ إلى حبيبته في الموعد المحدّد.
حين همّ بالالتفاف مجدّداً ليأخذ الطريق المؤدّية إلى متجر العطورات، لاحظَ رجلاً يجلس على الرصيف ويضع رأسه بين يديه. اقترب حازم منه ببطء إلى أن توقّف بالسيارة قربه. لم يبدُ الرجل متسوّلاً بحالٍ من الأحوال، كانت ملابسه بسيطة لكنّها تكاد تكون نظيفة، بل ومهندمةً على نحوٍ جيّد. القميص موضوع بعناية تحت البنطال المشدود على نحوٍ ملائم بحزامٍ جلدي، حتّى أنّ شعره الرمادي بدا مسرّحاً إلى حدٍّ ما. بقي متوقّفاً بجانب الرجل لبعض الوقت، لكنّ هذا الأخير لم يحرّك ساكناً وظلّ ممسكاً رأسه بيديه ووجهه إلى الأسفل.
-“مرحباً” قال حازم أخيراً.
رفع الرجل رأسه. كانت الدموع تملأ عينيه ووجهه.
-“رجلٌ يبكي! يا رحمةَ السماء! ماذا يمكن أن يخبّئ هذا اليوم أيضاً؟” فكّر حازم بحزنٍ وذهول.
-“هل أنتَ بخير؟” قال للرجل محاولاً تمالك نفسه.
لم يجب الرجل بشيء.
سحب حازم بقيّة النقود ومدّ يده عبر شبّاك السيّارة. تردّد الرجل، ذرفَ دمعةً أخرى قبل أن يتناول النقود من اليد الممدودة ويقول: “أشكرك…” حاول أن يقول شيئاً آخر لكنّ صوته اختنقَ تماماً.
-“لا بأس، لا بأس! لا تقل أي شيء” قال حازم وانطلق مسرعاً كما لو أنّه يفرّ هارباً. أحسَّ بالاختناق هو أيضاً. تمنّى لو كان بمقدوره أن يفعل شيئاً يُحدِث فرقاً، لو أنّه يملك حلولاً حقيقية. لكنّه هو الآخر كان بالكاد ناجياً من هذا الخراب العظيم، وليس لوقت طويل على الأرجح.
-“ماذا يحدث لهذه البلاد الملعونة بحقّ الجحيم؟” فكّر مغموماً.
طارت النقود، وطارت معها المفاجأة.
-“لا بأس، ربّما في السنة القادمة!” قال مواسياً نفسه وحبيبته سلفاً.
أخذ أخيراً الطريق المؤدّية إلى نقطة لقائهما المعتادة، لكنّه توقّف للحظات قبل وصوله إلى هناك ليشتري كوبي قهوة مستفيداً من بعض القطع المعدنية المنسية في درج السيّارة.
أرسل لها رسالة نصيّة ليعلمها بوصوله، وجلس ينتظر قدومها.
ثمّ رآها تقترب من بعيد.. “ما زال هناك ضوءٌ في آخر النفق رغم كل شيء!” قال لنفسه فيما كان يتأمّلها مبهوراً كما لو أنّه يراها لأول مرّة.
نسيَ حازم أموات احلامه. نسيَ الحرب والخراب، مآسي البشر وتعاطفه اللاإرادي معها. توقّفَ عن التفكير في سبلٌ للنجاة، إذ كان حبل نجاته على بعد خطوات ويقترب منه.. تلك الروح الشفيفة التي تكاد لا تلامس الأرض لخفّتها تعلن عن وصولها كرذاذٍ باردٍ منعش في يوم شديد الحرارة.
-“هي ليست إثباتاً قاطعاً على وجود الربّ فحسب، بل ودليلٌ دامغ على براعته أيضاً!” أخبر حازم نفسه للمرّة الألف.
دخلتْ السيارة، أغلقتْ الباب، أعطته قبلةً على الخدّ كما تفعل كل يوم.
جلس ينظر إليها مبتسماً دون أن يقول شيئاً.
-“هل أنتَ بخير؟” قالت له.
-“أنا على أحسن ما يرام”.
-“ما الأمر إذاً؟”.
-“هل أخبرتكِ أن لا مثيل لرائحتك في الدنيا، وأنّه لا يمكن لأي عطرٍ أن يهزمها؟”.
-“طبعاً، أنتَ تخبرني بذلك كل يوم تقريباً. قل لي ما الأمر؟” قالت وهي تضحك ضحكةً صغيرة ساحرة.
-“لا شيء! فقط أريد منك أن تتذكّري ذلك دائماً”.
*****
خاص بأوكسجين