النُطق والـصمت: هايدجر/ تسـيلان
العدد 230 | 28 نيسان 2018
أحمد الزناتي


في الرابع والعشرين من يوليو/تموز 1967 أقـيـمـت أمسية شعرية للشاعر الروماني الأصل، الألماني اللسان باول تسيلان (1920-1970) في جامعة فرايبورج. عُقِدت الأمسية في القاعة نفسها التي ألقى فيها مارتن هايدجر (1976-1889) خطاب تنصيبه مديرًا للجامعة قبل أربعة وثلاثين عامًا. حضر هايدجر المُحبّ  لشعر تسيلان الأمسية، لاحظ الحضور الذين كانوا يترقبون بحذرٍ وفضول ردود أفعال الرجلين، أنّ الهوّة بين الطرفيْن واسعة وسحيقة، هـوّة لا يُمكن تجاوزها سوى بكلمة واحدة ينطقها أيّ منهما أو بالصمت النهائي. تهرّب تسيلان من التقاط صورةٍ تذكارية تجمعه بهايدجر، لكنه رغم ذلك لـبّى دعوة الأخير لزيارة كوخه الشهير في “تودناوبيرج”.

***

في اليوم الثاني، أي في الخامس والعشرين من شهر يوليو/تموز 1967 جرى اللقاء في الكوخ الخشبيّ الصغير القابع في أعماق الغابة السوداء (شفارتس فالد)، أشهر كوخ فلسفي في القرن العشرين. يقع الكوخ على ارتفاع 1150 متراً عن سطح الأرض، ولا تزيد مساحته عن 42 مترًا، يتسع لمطبخ صغير، ويضمّ قاعة جلوس فيها طاولة خشبية متواضعة، وغرفة نوم ومكتب للعمل. جلس الـطـرفان على الطاولة. دار حوارٌ لم تُكشف تفاصيله ولم يُسر لأحدٍ ما الذي دار فيه على وجه التحديد. ثمّ خرج الرجلان بعدها للتنزه في الغابة السوداء.

كان كوخ هايدجر هو مهبط  وحيه. وفقًا لكلام د. عبد الرحمن بدوي في موسوعة الفلسفة (جزء 2 – المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1984)  شيّد هايدجر كوخه سنة 1922، وقال عنه: “ما أقام البيت ها هنا هي المثابرة على إدراج الأرض والسماء، والأمور الإلهية والغاية بكل بساطتها، إدراجها في الأشياء. وهذه القوّة هي التي أقامت البيت على سفح الجبل، في مأمن من الرياح، وفي مواجهة الجنوب، بين المروج وقريبًا من الينبوع. وهي التي وهبته سقفًا من الألواح بارزًا بروزًا كبيرًا يحمل شحنات الثلج وبانحناء مناسب، وهو ينزل إلى أسفل، فيحمي الغرف من عواصف ليالي الشتاء الطويلة”. 

كتب هايدجر في هذا الكوخ أغلب مؤلفاته، رافضًا عروض الانتقال السخيّة إلى فرايبورج، ومؤثرا البقاء داخل كوخه الصغير بين الأشجار والفلاحين في أعماق الغابة، صارفًا وقته في المشي لمسافات طويلة، منفردًا بذاته في أجواء لن يضطر فيها كثيرًا  للوقوع في الزيف، أو في المجاملة، أو في الثرثرة مع متوسطي القيمة، أو مجاراة السائد، أو تبرير مواقفه السياسية. يقول السائق الذي أقلّ تسيلان إلى تودناوبرج إن هايدجر استقبل تسيلان بحفاوةٍ بالغة، ودعاه إلى الجلوس على الطاولة الخشبية التي كان يجلس إليها مع ولديه هيرمان ويورج. لم يلتفت هايدجر إلى ما أُثير عن مواقفه السياسية في أوائل الثلاثينيات، ولا عن التزامه الصمت عما يُسمى بالهولوكوست، ولم يخشَ مواجهة الطرف الثاني، باول تسيلان، بل دعاه إلى لقاء أخير، لم يحضره سواهما.

***

على الطرف المقابل من الطاولة جلس باول تسيلان، الشاعر الذي فقد والديه على يدّ الاشتراكيين القوميين. المعرفة قديمة، فتسيلان يعرف أعمال هايدجر جيدًا، والفيلسوف يعرف أعمال تسيلان تمام المعرفة، بل أن هايدجر وضع شعر تسيلان في مرتبة “الشِعر الحقّ” الذي يقول الوجود ويمنحه اسمًا ووصفًا، وهي المرتبة ذاتها التي أعطاها من قبل لهولدرلين وجيورج تراكْـلْ. كان هايدجر مُنصفًا لأعمال الرجل. يرجّح د. جيرهارد باومان، المتخصص في الدراسات الجرمانية في كتابه (ذكريات عن باول تسيلان-دار نشر زوركامب، فرانكفورت 1986) أنّ الشاعر اليهودي الكبير كان يُمني نفسه بإجابات عن أسئلة تتعلّق بالماضي، وربما على نحو شخصي عن سبب ما لحق بأمه وبأبيه.

بالطبع لم يكن لهايدجر دخلٌ فيما جرى، فقد استقال هايدجر من منصبه مديرًا لجامعة فرايبورج بعد عشرة شهور فقط من تقلّده المنصب، احتجاجًا على أوضاعٍ بعينها، فضلًا عن المضايقات التي تعرّض لها، ومنع بعض دروسه (السمنينيرات)، وهي المضايقات التي وصلت إلى حدّ منع طبع كتابه “نظرية أفلاطون في الحقيقة”، كما مُنِع الرجل من حضور مؤتمر باريس للفلسفة سنة 1937. ولكنّ هل صدّق تسيلان ذلك؟

أم استجاب لما أفرزته آلة الكذب الإعلامية الجهنمية التي لم تتوقّف عن تأويل مواقف هايدجر تأويلًا مغلوطًا حتى وفاته؟

زار تسيلان هايدجر في كوخه الجبلي المتُربّع على قمّة العالم. ما الذي كان ينتظر تسيلان؟ بل ما الذي كان ينتظره تسيلان تحديدًا من رجلٍ في شخصية هايدجر، قالب الـفـولاذ الذي لا يلين؟ اعتذار؟ إدانة؟ اعتراف؟ ما الذي دار بينهما؟ لا أحد يعلم ولا شيء مؤكّد. لم يقل تسيلان سوى أنّه كان في انتظار “الكلمة القادمة”، أي الإجابة عن الأسئلة التي يعرفها كلاهما، وإنْ لم ينطقا بها. بعد اللقاء حكى السائق الذي أقلّ هايدجر وتسيلان عن صمت الرجليْن، صمت تسيلان معروف، فهو ينتظر إجابةً أو إدانةً. أما صمتُ هايدجر فبقي غامضًا ومؤلمًا بالنسبة للشاعر.

***

ترجم الشاعر والناشر العراقي خالد المعالي إلى العربية مختارات شعرية ونثرية لباول تسيلان، صدرت سنة 1999 عن منشورات الجمل تحت عنوان “سمعتُ من يقول”. اختتم المعالي مختاراته برسالةٍ بعث بها هايدجر إلى تسيلان، وسمح بنشرها هيرمان هايدجر (ابن الفيلسوف):

عزيزي حضرة المحترم باول تسيلان،

 “..قد صمُتَ كلانا. أفكّر، بأنّ ثمة ما يُقال وسوف يأتي يومٌ سـنــفُـــكّ خلال محادثة، هذا الذي لم يُــقــل”.  

الذي يتذكركم بصداقة، مارتن هايدجر!  

*****

خاص بأوكسجين


روائي وقاص من مصر. من رواياته "البساط الفيروزي: في ذكر ما جرى ليونس السمّان"" 2017، و""ماضي"" 2017."