رأيت حلماً” – قالت هذا مرتين الآن. لاح لي وجهها خلف النافذة في العربة المظلمة؛ لكنه بدا غير مألوف و كأنني أراه للمرة الأولى. على كلٍ، و بما أنه لم يكن معي من الوقت سوى ثلاثين دقيقة لتلفيق حجة لزبوني تبرر تأخري ولترتيب مسودة مقترح لاجتماع اليوم، لم يكن هناك وقت للتفكير بالسلوك الغريب لزوجتي الأغرب.
أما وقد قلت ذلك، أسررت إلى نفسي أن علي بطريقة أو أخرى مغادرة المكتب مبكراً هذا اليوم (ناهيك عن أنه في الأشهر العديدة التي مضت على انتقالي لمنصبي الجديد لم يمر يوم واحد غادرت به المكتب قبل منتصف الليل)، و شحذتُ نفسي للتحدّي.
غابة مظلمة. ما من بشر. أوراق الأشجار المدببة، قدمي المتمزقة. هذا المكان، الموجود في الذاكرة تقريباً، لكنني تائهة الآن. هلعة. باردة. عبر الوادي المتجمد يوجد بناء أحمر يشبه الحظيرة. حصيرة من التبن ترفرف متدليةً من الباب. لفّها وأنا بالداخل، إنها بالداخل. عصىا خيزران طويلة ملطخة بقطع اللحم الدامي والدم ما زال يقطر منها. حاول أن تندفع لكن اللحم، ما من نهاية للحم و لا مخرج. الدم في فمي، الملابس الملطّخة بالدم تسرّبت إلى بشرتي.
هناك على الأقل طريق للخروج. ركض، ركض عبر الوادي، ثم فجأةً تنفتح الغابة. أشجار كثيفة الأوراق، الضوء الطبيعي لفصل الربيع. عائلات تتنزه، أطفال صغار يحومون، وتلك الرائحة، تلك الرائحة الشهية. متقدة على نحو مؤلم. التيار ذو الفقاقيع، ناس يبسطون الحصير للجلوس عليها، وجبات خفيفة من الجمباب (السوشي). لحم الشواء، أصوات الغناء والضحكات السعيدة.
بيبقى الخوف. ما زالت ثيابي مبللة بالدماء. اختبئ، اختبئ خلف الأشجار. انحنِ لا تدع أحداً يراك. يداي الداميتان. فمي الدامي. في تلك الحظيرة، ماذا فعلت؟ دفعتُ تلك القطعة الحمراء النيئة داخل فمي، و شعرتُ بها تنسحق بين أسناني، و سقف فمي ينزلق بالدم القرمزي.
مضغ شيء كأنه حقيقي، و لكن لا يمكن أن يكون كذلك. لا يمكن. وجهي، النظرة في عينيّ … وجهي بلا أدنى شك، لكن لم يسبق لي رؤيته من قبل. مهلاً، ليس وجهي، وإن هو مألوف جداً … لا شيء منطقي. مألوف و لكنه غير مألوف… ذلك الإحساس المندفع الغريب الفظيع المرعب.
*
وضعت زوجتي على مائدة الطعام الخس و معجون الصويا وحساء الأعشاب البحرية – خلواً على غير العادة من اللحم أو المحار والكمتشي[1].
“بالله عليك! كل هذا من أجل حلم سخيف، ذهبتِ و رميتِ اللحم كلّه؟ كم قيمته؟
نهضتُ من مقعدي و فتحت الثلاجة، فكانت فارغة تقريباً؛ لا شيء فيها سوى مسحوق “الميسو” ومسحوق الفلفل الحار، وفلفل طازج مجمّد و حزمة من الثوم المفروم.
“اقلي لي بيضاً. فأنا منهك جداً اليوم. لم أحظ َ حتى بغداء مناسب.”
“تخلّصتُ من البيض أيضاً”
“ماذا؟!”
“و الحليب كذلك”
“هذا لا يُصدق. هل تقولين لي بألا آكل اللحم؟”
“لم أستطع أن أبقي هذه الأشياء بالثلاجة. لن يكون ذلك من الصواب بشيء.”
كيف لها أن تكون بهذه الأنانية؟ حدّقتُ بعينها الخفيضة و في التعابير الجلَد الهادئة البادية عليها. مجرد فكرة احتكامها على جانب آخر -ذلك الجانب الذي يجعلها تفعل بأنانية ما يرضيها- كانت صادمة. من كان يتخيل أنها ستصل إلى هذا الحد من اللامعقول.
“تقولين إذاً إنه من اليوم ولاحقاً لن يدخل اللحم منزلنا؟”
“حسناً، قبل كل شيء أنت لا تتناول سوى الإفطار في المنزل. و أفترض أنك في أغلب الأحيان تأكل لحماً على الغداء أو العشاء، لذا … الأمر ليس كما لو أنك ستموت لو لم تتناول اللحم فقط مع وجبة واحدة.”
إجابتها كانت ممنهجة جداً، كان كما لو أنها رأت بهذا القرار السخيف شيئاً منطقياً تماماً و لائقاً.
“أوه، جيد، هذا يعني أن الأمر محسوم إذا. وماذا عنكِ؟ هل تدّعين أنك لن تتناولي اللحم من الآن فصاعداً؟”
أومأت برأسها موافقةً.
“أوه حقاً؟ إلى متى؟”
“أفترض … إلى الأبد”
أضعت الكلام، إلا إنني في الوقت ذاته كنت واعياً أن النظام الغذائي النباتي لم يعد نادراً كما كان في الماضي. يتحول الناس للنظام النباتي لأسباب متنوعة: لمحاولة تغيير استعدادهم الجيني لاكتساب أنواع معينة من الحساسية، على سبيل المثال، أو لسبب آخر كأن يرى الشخص نظام مقاطعة اللحوم نظاماً صديقاً للبيئة. وبالتأكيد فإن الكهنة البوذيين الذين قطعوا على أنفسهم عهوداً معينة ملزمون أخلاقياً بعدم المشاركة في تدمير الحياة، ولكن بطيبعة الحال ليست حتى الفتيات الصغيرات الحساسات يجب أن يأخذن ذلك على هذا القدر من الجدية فعلى حد علمي، كانت الأسباب المعقولة الوحيدة لتبديل عادات أكل المرء هي الرغبة في تخفيف الوزن والسعي لتقليل أخطار الاصابة ببعض الأمراض والمس من قبل روح شريرة أو اضطراب النوم بسبب عسر الهضم. وفي حالة أخرى، فإن السبب كامن في عناد شديد لزوجة تتمرد على رغبات زوجها كما فعلت زوجتي.
لو قلت إن اللحوم دوماً ما تُقزز زوجتي لدرجة الإغماء فإنه يمكنني فهم ذلك، إلا أن الواقع عكس ذلك تماماً، فمنذ زواجنا أثبتتْ نفسها كطبّاخة أكثر من ماهرة، و كنت كثيراً ما أنبهر بطريقتها في الطبخ؛ ملقط في يد واحدة وفي الأخرى مقص، تقلّب لحمة الضلع على المشواة في الوقت الذي تقطّعها إلى قطع بحجم اللقيمات بحركة متمرّسة وماهرة. وإعدادها لحمة بطن الحنزير العبقة المتكرملة المقلية بتخليل اللحم بالزنجبيل المفروم و شراب النشاء الدبق. أما طبقها الخاص فقد كان عبارة عن شرائح فائقة الرقة من اللحم البقري متبلة بالفلفل الأسود وزيت السمسم، تغلفها بمسحوق الأرز اللزج بسخاء كما كنتَ لتفعله مع كعكة الأرز أو فطيرة الصاج، ثم تُغمس في مرقة “الشابو شابو” الفوّارة. لقد صنعت أيضاً طبق “الدبيبموباب” من براعم الفول و اللحم البقري المفروم و الأرز غير المنقوع مسبقاً، تحمسها جافة في زيت السمسم. و كان هناك أيضاً طبق الدجاجة السميكة وحساء البط مع قطع كبيرة من البطاطس،او مرقة حارّة مليئة بالمحار و بلح البحر، و التي كنت أجهز بسعادة على ثلاث حصص في جلسة واحدة.
ما وُضع أمامي الآن كان اعتذاراً عن وجبة. سحبت زوجتي كرسيها إلى الزاوية، بعد أن غرفت بعضاً من حساء الأعشاب البحرية، التي بدا واضحاً أم طعمها بطعم الماء لا أكثر، ووزّعت الأرز ومعجون الصويا على ورقة خس، ثم حشرت اللفافة في فمها و لاكتها على مهل.
ما عدت قادراً على فهمها، وقد تبينت لاحقا: ليس لدي مؤشر يقودني إلى كيفية تحولها إلى هذه المرأة.
“لن تأكل؟” سألتني ساهمة كما لو أنها امرأة في منتصف العمر تخاطب ابنها الراشد.
جلستُ بصمت، غير مهتم بهذا العذر التافه عن الوجبة مضغتُ الكيمشي[2] كما لو أنني استغرقت عمراً كاملاً.
حلّ الربيع و لا تزال زوجتي صامدة لم تتراجع. كانت بقوة كلمتها -فلم أر قطعة لحم واحدة تمر من بين شفتيها مطلقاً- و لكنني كنت قد أوقفت تحميل نفسي عناء التبرّم منذ وقت طويل. فعندما يمر شخص بمثل هذا التحول الجذري فببساطة لا يوجد شيء بامكان شخص آخر القيام به سوى الجلوس و السماح له بالاستمرار.
ومع مرور الأيام أمست أنحف مما كانت عليه لدرجة أن عظمام وجنتيها أصبحت بالفعل بارزة بشكل سافر، و بشرتها بلا مكياج ماثلت بشرة مريض مستشفى.
لو كانت الحالة مجرد مثال آخر لامرأة تقاطع اللحوم من أجل خسارة وزن، فلن يكون هناك داعي للقلق. لكنني كنت على ثقة بأنه كان شيء يحدث هنا أكثر من كونه حالة بسيطة من التحول للنظام النباتي. لا، لابد أنه ذلك الحلم الذي ذكرته؛ هو مؤهلٌ لأن يكون منشأ كل هذا، مع أنها -في الواقع- توقفت عملياً عن النوم.
لا يمكن لأحد وصف زوجتي بأنها تهتم على نحو استثنائي، فكثيراً ما كنت أعود إلى في وقت متأخر لأجدها قد غطّت في نومها. لكن الآن صرت أدخل المنزل في منتصف الليل، ولا توافيني إلى غرفة المعيشة حتى بعد أن أغتسل وأوضّب السرير وأتمدد للنوم. لم تكن تقرأ كتاباً أو تتحدث عبر الانترنت أو تشاهد برامج آخر الليل في التلفاز السلكي. والشيء الوحيد الذي أمكنني أن أفكّر فيه هو أنه لابد أنها تعمل على بالونات خطابية للمجلات الهزلية،و لكن من المستحيل أن يستغرق ذلك كل هذا الوقت.
لم تأتِ إلى السرير إلا حين اقتربت الساعة من الخامسة فجراً، و مع هذا لم أستطع القول على وجه اليقين إنها بالفعل نامت بعد ساعة أم لا. كان وجهها شاحباً و شعرها متشابكاً و هي تراقبني على مائدة الفطور بعين مجهدة حمراء. لم تكن كمن سيلتقط ملعقته، فهي لم تهتم حقيقةً بأكل أي شيء.
أكثر ما ضايقني تحولها فعلياً الآن إلى تجنب الجنس. كانت فيما مضى ترغب بالامتثال لحاجاتي الجسدية بشكل عام، لا بل كانت أحياناً هي من يبادر. الآن، -بالرغم من إنها لا تثير ضجة حول هذا الأمر- ستبتعد بهدوء إذا ما مسّت يدي كتفها، هذا وقد قمت في أحد الأيام بمواجهتها بذلك
“ما المشكلة تحديداً؟”
“إنني متعبة”
“حسناً، هذا يعني بأنكِ بحاجة لأكل بعض اللحم. لهذا لم يعد لديك أي طاقة، صحيح؟ فلم تكوني هكذا في النهاية.”
“في الواقع …”
“ماذا؟”
“… الرائحة هي السبب”
“الرائحة؟”
“رائحة اللحوم. جسدك تفوح منه رائحة اللحم.”
كان ذلك كلاماً بمنتهى السخافة.
“ألم ترينني تحممت للتو؟ فمن أين تأتي هذه الرائحة، هاه؟”
“من ذات الموضع الذي تفوح منه رائحة عرقك” أجابت بجدية تامة.
كان ذلك يصعقني بين الفينة والأخرى، فهذا ليس بالأمر التافه بقدر ما هو نذير شؤم. ماذا لو أن هذه الأعراض المبكرة لم تنقضِ؟ ماذا لو أن علامات الهستيريا و الوهم و الأعصاب الضعيفة و غيرها مما كنت قادراً على استكشافه فيما قالته أدّت إلى ما هو أكثر؟
وجدت صعوبة في الاعتقاد بأنها في صدد الإصابة بوهن عقلي. كانت كالعادة قليلة كلام كما كانت في وقت مضى و حافظت على المنزل مرتباً. ففي عطل نهاية الأسبوع، كانت تحضّر لنا أطباق الخضروات الموسمية المتبّلة الجانبية لتناولها خلال أيام الأسبوع، و تعدّ أيضاً “النودلز” الشفافة المقلية مع الفطر بدلاً من اللحم المعتاد. لم يكن الأمر -في الواقع- بهذه الغرابة عندما تدرك أنها تحولات شخص نباتي على اتصال بالدارج. فقط عندما أصبحتْ غير قادرة على النوم وبدت التجاويف في وجهها أكثر من العادة، كما لو أنها مفرغة الأحشاء من الداخل، كنت سأسألها في الصباح عن المشكلة لأسمع فقط “رأيتُ حلماً”. و لم يحدث أن استفسرتُ عن طبيعة هذا الحلم، فلقد سمعت مرةً ذلك الحديث الجنوني حول الحظيرة في الغابة المظلمة، والوجه المنعكس في مسبح من الدماء و بقية الحلم، ومرة واحدة كانت أكثر من كافية.
كل ذلك كان بسبب حلم فاجع كنتُ مستبعداً منه و ليس لدي وسيلة لمعرفته، و فوق هذا لم أرغب بالمعرفة، و استمرت هي بالوهن. في البداية نحفت للحدود الدقيقة للياقة راقصة، و تمنيتُ أن الأمور توقفت عند هذا الحد، لكن جسدها الآن لا يشبه إلا الهيكل العظي لمعتل. كلما وجدتُ نفسي مضطرباً من مثل هذه الخواطر، حاولت طمأنة نفسي بتذكّر ما أعرفه عن أسرتها حيث عمل أبوها في منشرة في بلدة صغيرة بعيدة عن المدينة بينما كانت تُدير أمها محلاً صغيراً جداً، فيما كانت شقيقتها و زوجها أناساً عاديين وخلوقين بما يكفي. فعلى أقل تقدير، لم يبدُ أن هناك أي نزعة اضطراب عقلي تدنس سلالة زوجتي.
لم يكن بمقدوري التفكير بأسرتها دون أن أسترجع رائحة اللحم المشوي و الثوم المحروق و صوت قرقعات كؤوس الشراب و محادثات النساء الصاخبة المنبعثة من المطبخ. فكلهم -خاصةً أبيها- استمتع باليوكهو[3]، وهو طبق من اللحم البقري. و لقد رأيتُ حماتي تخرج أحشاء سمك حي، و كانت كلاً من زوجتي و شقيقتها على درجة فائقة من الكفاءة عندما يتعلّق الأمر بتقطيع دجاجة بساطور جزار، ولطالما أحببتُ حيوية زوجتي العملية، و طريقتها في اصطياد الصراصير بصعقهم براحة يدها، فقد كانت حقاً أكثر امرأة عادية في العالم.
و حتى لو سلّمت بعدم القدرة على التنبؤ بحالتها، فإنني لم أكن مستعداً لأخذها لاستشارة طبية عاجلة، ناهيك عن العلاج. لا يوجد مشكلة فيها -أخبرتُ نفسي- فهذا الشيء ليس حتى مرض حقيقي. قاومتُ إغراء ذلك لأنغمس في تأملاتي.ليس لهذا الوضع الغريب علاقة بي.
_____________________________________
المصدر: http://www.wordswithoutborders.org/article/the-vegetarian#ixzz48uLuvxOV
[1] الطبق التقليدي في كوريا
[2] وجبة كورية
[3] وجبة كورية
*****
خاص بأوكسجين