المُشَاهِد
العدد 150 | 20 نيسان 2014
فكري عمر


دوت الطلقات فى أنحاء الغرفة وهم يشاهدون التلفزيون، وقد كانت آتية من جوف الشاشة. نحى نفسه جانبًا، وبسرعة زحف على أربع،  فرأى جميع من معه فى الحجرة يتلوون من الألم، دماؤهم بقّعت الجدران وراحت تسيل على الكراسي والسجاد. دماء ساخنة لمسها بيده وهو يغالب بالكاد دموعه، ثم تذوقها بلسانه، ليتأكد من أنه ليس فى كابوس يستعيد إعلانًا تليفزيونيًا شهيرًا بطريقة دامية. 

كيف أحس بالخيانة وحده من دون رفاقه وهم يشاهدون الأخبار؟ 

كان يدرك أن لا أحد ببعيد عما يحدث، وسوف يطال الأذى كل من له رأياً مخالفاً. هل أحس بالأمان لمجرد أنه ينشر مقالاته تحت اسم مستعار؟ لا! كان الشك يملأه، وها هو الآن يرى ما شعر به من قبل.

كل شخص نجا من عائلة كان يرمي بين الأقدام المهرولة سؤالًا أو سؤالين لا يتغيران بتغير الأشخاص: كيف حدث ذلك؟! ولماذا أمطرونا بالرصاص ونحن لم نخرج من قبل إلى الشارع، وكنا فقط ننقل آرائنا لبعضنا البعض فقط بين جدران الحجرة الأربع؟!

كان يعي وضعه الجديد بصعوبة. أقدامه تحمله مثلما تحمل أقدام الجميع أشخاصًا عيونهم تتسع كالمحيط تحت ضغط الرعب المباغت. كان يلتقي فى كل شارع ينزلق إليه بأفراد جدد يندمجون فى المسيرة المرعوبة المتقدمة فى كل شوارع المدينة. زعيق الجنود الذين قفزوا من شاشات التليزيون واحتلوا البيوت يلاحقهم، كما أن أمطار الرصاص لا تكف عن حصد المتخاذلين والضعفاء. أين وزير الإعلام؛ ليشرح لنا السر المزعج الذى نعيشه؟!

تبدلت المناظر فى الشارع المؤدي إلى البحر، حتى خلا إلى البحر بزرقته العميقة. قابلتهم من الشوارع المتقاطعة تماثيل هائلة لفراعنة كانوا قد صُلبوا لسنوات طوال فى الميادين والمعابد، أبو الهول يتقدمهم، يزحف كوحش خرافي فيسحق من يقع فى محيط أقدامه. 

كان الهلع فى عيون البشر والحجر. وقف الجميع للحظات أمام البحر.. هل يتذكر كل منهم حكاية له مع البحر؟ توقف الزحف، وانتشر الغبار فوق البحر كغمامة.. غبار الأقدام اللاهثة هبط ببطء إلى الماء وغاص فيه. كانت الأمواج تثب عاليًا كالجبال، وقال لنفسه ماذا لو كان “طارق بن زياد” وجنوده هنا، هل سيقول: “البحر من خلفكم والعدو من أمامكم فاختاروا” بعدما أحرق السفن. إنها حقًا خدعة! لا اختيار لأحد فى شيء. خدعه أنتجها الفلاسفة ليجعلونا نندم على كل فعل فعلناه. من يختار زمنه، ظروفه، الصدف التى تجعله يتخذ قرارات لا يعرف وقعها على مستقبله؟! ذلك المستقبل الذى يجيء مرة واحدة ويتحول إلى ماض، لا نتعلم من أخطائه فقط ولكن نتمنى أيضًا أن يعود. وهل يعود الماضي؟! 

ماذا نفعل الآن؟ سأل نفسه مرارً ونظر للجموع. 

لقد دهمنا البؤس فى وطن لا ينتج سوى الفراعنة ورجال البلاط والأنبياء والكهنة والشعراء والمجانين؛ فماذا نختار سوى أن يشرق الربيع، والربيع جاء بنا إلى بحر هائل، تقف أمامه الجموع الهاربة استعدادًا للمغادرة. 

لا يملك الواقفون سلاحًا لكي يعودوا إلى العساكر الذين ينبثقون من الشاشات. ليس أمامهم إلا ركوب الأمواج التى تعلن هي الأخرى عن غضبها؛ فتخرج من جوفها سلاحف عملاقة، طيور بأجنحة وكلَّابات، أسماك بأقدام حرشفية.

كل ذلك فى البحر! 

لقد دعك عينيه أكثر من مرة لكنه اكتشف أن ما يعيشة حقيقة، لكنها حقيقة مختلة كالكوابيس. تمنى أن يتحول إلى كائن رخوي داخل صدفة منسية، لكن كيف له بتلك المقدرة التى هى هيكل الخيال لا لحم الواقع. هل لو فكر بتلك الطريقة سيملك القدرة على التحول؟! حشد كل أفكاره في فكرة أنه أصبح كائناً بين الرمال، وفتح عينيه على نفس المشهد المريع. 

كل الكتب التى قرأها والتاريخ الذى أدمنه انقلب أمامه الآن رأساً على عقب. إنه يعيش الملاحم، لكنه ليس بطلاً ولا نصف إله، إنما هو يعيش الجانب المأساوي من الملاحم حتى آخر نفس. 

جرى إلى جوار أبو الهول العملاق لما رأى فمه يتحرك بالكلام؛ عله يجد منقذاً فى اللحظة المناسبة. 

قال له: لماذا جئت أنت أيضاً؟! ألم يمر بك الغزاة جميعهم؟! 

قال أبو الهول، وكان فيما يبدو يجيب على أكثر من واحد: لكنهم أشرس من الغزاة.. كثيراً ما رفع لي الغزاة القبعة لكننى مع هؤلاء مُعرّض للفناء. 

ـ والبحر سيفنيك إلى آخر ذرة رمل. 

أبو الهول: إذا أكون قد فعلت ما عليّ فعله، وسأستقر مع أجدادي الغرقى. 

ـ من هؤلاء؟ 

رد أبو الهول: أظن أنها غضبة من أمير الجيوش لا سابق لنا بها. 

ـ أمير الجيوش يصارع المرض وهو يحب السلام.  

أبو الهول: هي إذن تراتيل الكهنة أنزلت اللعنة بنا. 

قال وفى فمه حسرة مقيتة: ألا تعرف يا حارس الزمان إلا قوة أمير الجيوش ولعنة الكهنة. 

أبو الهول، وهو يتقدم على الرمال: لا علم لي إلا بهاتين القوتين الجبارتين. 

ـ ونحن.. ألا نستطيع المواجهة؟ 

أبو الهول: أنتم مشوهون، مسوخ فى أثواب بشر. 

وفى اللحظة التى قرر فيها الشاب العودة ليثبت أنه لم يعد مسخاً، صم أذنيه دوي طلقات أطاحت بمجموعة كبيرة ممن يقفون على شاطئ البحر ولم يكونوا قد اتخذوا قراراً بالعبور، كما أطاحت الطلقات برؤوس التماثيل وأجسادها فكانت تسقط هي الأخرى على الأجساد فتمزقها، وآخر ما رأه وهو يجري إلى البحر لسان أبو الهول الحجري، الذى لم يره أحد من قبل، وقد حُفرت عليه نقوش كثيرة بعدما تحطم الرأس تماماً. طواه فى قميصه بسرعة وهو يستعد للسباحة فى البحر إلى الجانب الآخر؛ فقد ينجو بحياته، ثم سيبحث عن حفيد نبيه لـ”شامبليون” ليحل له لغز النقوش عله يفهم شيئاً مما حدث.

________________________________________

كاتب من مصر

 

الصورة من أعمال الفنانة التشكيلية السورية رؤيا عيسى

*****

خاص بأوكسجين