الفلسفة باعتبارها مشروعاً وجودياً
العدد 285 | 1-4-2024
حسن أوزال


إنني مُختبِر (expérimentateur)، أكتب حتى أغيّر نفسي بنفسي وأفكّر على نحوٍ مغاير لِما كنتُ أفكّر فيه من ذي قبل.

 ميشال فوكو

لنشرع بدايةً بطرح هكذا سؤال: هل منّا مَن اختبر مرّة، أن يعيش فكرةً ما؟ حسبي في ذلك أنّ الأفكار منذورةٌ أساساً لأن تُعاش، لا لأنْ تُقرأ فحسب[1]، على اعتبار أنّها حينئذ فقط تكون ذات مفعول وأثر. نورد هذا الكلام لا لشيءٍ إلا لأنّ ثمّة مجموعة من المثقّفين يتعاطون الفلسفة مثلاً من أجل الفلسفة، تماماً مثلما يتعاطى بعضُ الفنانين الفنّ من أجل الفنّ، والشعراء، الشعر من أجل الشعر… وهَلُمَّ جَرَّا؛ تبدو المسألةُ عندهم والحالة هذه، مجرّد لعب بالألفاظ، وليست أكثر من نشاط عبثيّ لتمضية الوقت، يكاد لا يلزمهم بأيّ شيء. بديهيّ إذاً أن يتميّزَ الفيلسوف عن غيره ممّن ينشغل بالفكر كالأستاذ والموظّف طالما أنّ الأستاذ هو من يعيش مِنَ الفلسفة، بينما الفيلسوف هو مَنْ يعيش الفلسفة. لكن هل كلّ فلسفةٍ قابلةٍ لأن تُعاش وأن تُحيا؟ فهل بوسعنا، على سبيل الذكر لا الحصر، أن نعيش فلسفة هيدجر[2] أو هيغل؟ وهل بوسعنا أن نعمل بفكرة واحدة من أفكار فخته؟ إنّه لأمرٌ مستحيل ومستعصٍ بنظري أن تحيا تصوّراً من تصوّرات هؤلاء الفلاسفة المثاليين لا لشيءٍ إلا لأنّهم يتبنّون أفكاراً شديدة التجريد والضبابيّة؛ أفكاراً أقلُّ ما يمكن أن يقالَ عنها إنّها تشتغل لذاتها، منقطعة الصلة بالواقع، باعتباره عالمنا الحسيّ الوحيد الذي فيه نحيا. فهؤلاء بدل أن يجعلونا نختبر الحياة كواقعة، يرمون إلى الإبقاء عليها كفكرة ضاربةٍ في التجريد. إنّهم بقدر ما يستميتون في الزجّ بالناس في سلسلة من التمثّلات الخاطئة، والتعقيدات الزائدة، بقدر ما يرمون من وراء ذلك إلى نزع الطابع الماديّ عن الواقع، وفتح الباب مشرعاً أمام رزنامةٍ من الترّهات الماورائية.

على هذا النحو يصحّ القول إنّ العيش على نحوٍ هيدجري أو هيغلي يكاد يخلو من أيّ مغزى، خلافاً للعيش مثلاً، على نحوٍ رواقيّ أو أبيقوريّ. كيف لا وهاتان الفلسفتان الأخيرتان، فلسفتان وجوديّتان بامتياز، طالما أنّ همّهما الأكبر، إنْ لم يكن الوحيد، هو التفكير في تقنيّات إبداعِ الحياة وخلق إمكاناتٍ جديدة للعيش. وهذا ما يتّضح جليّاً، حالما نعلم بأنّ الحكمةَ بالنسبةِ لهذه الفلسفات القديمة تعمل وفق نهجٍ خاص، فهي كلّما اكتشفَتْ فكرةً، اتّخذتها بوصلة لحياتها، لتصيرَ بمثابةِ العمود الفقريّ لقيام صرحها الوجودي. لعلّ التفلسفَ ههنا طريقةٌ للعيش قبل أن يكون رزنامة أفكار، وأسلوبَ حياة قبل أن يُعتبَر ترسانةً معرفية. إذ لا أهميّة لفيلسوف عندهم لا يمكنهم اقتفاءُ أثر فلسفته، وما خلّفه من وراء إبداعه من جماليّة تستأهل الاقتداء. لعلّ الفيصل، في هذه الحالة، يعود إلى التساؤل عن أيّ فلسفةٍ -من هذه الفلسفات- تُقرِّبنا من الحياة، وأيٍّ منها تُبعدنا عنها؟ أيّ منها تستحقّ أن تُنْعَتَ بالحكمة على اعتبار الحكمةَ كما يلحّ أبيقور، هي صحةُ النفس؛ وأيّ منها تَهُدُّ فيك إرادة القوّة فتردّك تافهاً وتجعل حياتَك بلا معنى؟ جليٌّ للعيان إذاً أنّ القضية لا تستدعي الوعظ والإرشاد كما التنظير واختراع ركامٍ من المفاهيم المجرّدة، أكثر مما تستدعي الممارسة والتصرّف الفلسفي. تصرّفٌ يوضّحه نيتشه في الجزء الثالث من كتابه «اعتبارات في غير أوانها» قائلاً: «أقدِّرُ فيلسوفاً حالماً يستطيع أن يكونَ قدوة»[3] ولَئن كان بوسعنا إيجازاً القول إنّ أمرَ التفلسف يكاد يصبُّ في العبرة التي يتركها الحكيم لغيره من الناس، فأيُّ مثالٍ نقتدي به في الحياة، نلفيه عند هيدجر أو هيغل؟ بل فضلاً عن ذلك، ما الحكمة العملية التي بوسع امرئٍ حصيفٍ أن يستشفَّها من «الوجود والزمان» أو «مبدأ العلّة» لهيدجر؟ وهل من نصيحةٍ نسترشد بها عند فيلسوفٍ من عيار هيغل؟ أبداً! وآيتي في ذلك، ما أَوردَه ألبير كامو في مذكّراته ساخراً، حيث يحكي أنّ كيركيغارد هدّد مرةً هيغل على نحوٍ مريب: لمّا تعمّد أن يبعث إليه بشابّ يطلب النصح[4]. لا شكّ أنّ ما أزعجَ فيلسوف المساء، إنّما هو شعوره بعجزٍ دفينٍ أمام إلحاحِ هذا الشابّ على الاسترشاد في عزّ حياته بكلامِ فيلسوفٍ بلغ من الحكمة ما يؤهّله لذلك، عجزٍ يرجع أوّل ما يرجع إلى طبيعةِ فلسفته عينها، باعتبارها فلسفةً نسقيّة بامتياز، منغلقةً على نفسها وغارقةً في التأمّلات المجرّدة، خلافاً لـ كيركيغارد المفكّر المهووس بالفعل وفرص العيش القابلة للخلق.

ههنا تتجابه الفلسفة المحايثة وكنَّتُها المثالية. الأولى ترى أن الألفاظ والأقوال كلّها أدوات ذات أثرٍ ومفعول واقعيين، ينبغي تقييمهما إيجابياً، بينما الثانية تروم عبر نفس الوسائل، صياغةَ الواقع على نحوٍ أثيريّ مفاهيميّ ومحض تمَثّلاتي. ثمّة إذاً طريقتان اثنتان للتفلسف: الأولى هي على نحو كيركيغارد؛ حيث الفكر نتاج فيزيولوجيا الجسد، يأتي اعترافاً بحالات عنفوانه وضعفه، فرحه وبؤسه، صحته ومرضه. فهو بذلك يكاد لا ينفصل عن الواقع الذي أفرزه، والكائن الحيّ الذي أنتجه، متفاعِلاً معه بغاية السموّ بصاحبه وتقويته على الرغم من كلّ شيء. أمّا الطريقة الثانية، فهي على نهج هيغل، الأستاذ والموظّف، الحائر من أمره، لأنْ لا نصحَ يبديه لنفسه ولا لغيره، طالما أنّ الفلسفة بالنسبة لصاحب «فينومنولوجيا الروح» أشبه ما تكون بطائر مينيرفا، لا تأتي إلا في المساء، أي بعد فوات الأوان.

تبدو الفلسفة وفق تصوّر هيغل نشاطاً بلا جدوى. إنها مجرّد تمرينٍ رياضيّ للعقل المستقيل، ومهمّة منوطة بالأستاذ المُدرِّس الذي تتكفّل الدولة بتعويضه عن أتعابه عند نهاية كلّ شهر، لكنْ شريطة تنقيط وتقويم جمهور من الطلبةٍ دائمي الحضور، بغرض فرزِ من يستحقّ منهم نيل الدبلوم الكفيل بضمان قوْتِه اليومي حينما يصبح هو كذلك موظّفاً. ضدّ هذا النزوع المرضيّ، نلاحظ أن الفيلسوف لا يفكّر من أجل أن يحيا فحسب، بل أيضاً من أجل أن يحيا حياةً أفضل. إنّه يفكّر توجيهاً لسلوكه في الحياة ما دام «ألا حقيقةَ بالنسبة إليه سوى في ما يأتيه من أفعال» تيمّناً بسارتر الذي يمضي في موضعٍ آخر حدَّ تحديدِه على «أنّ الإنسان ليس شيئاً آخر، عدا مجموع أفعاله وسلوكه، إنّه ليس إلا حياته»[5]. لذلك، فكلّ تأمّل وعمليّة تعقّل تقتضي، أوّل ما تقتضيه، أن نرسم لذواتنا مسلكاً وجوديّاً، صانعين من حياتنا لوحةً فنيّةً لا سجناً قاتلاً. علينا أن نصيرَ شعراء حيواتنا بتعبير نيتشه، فنجعل الأشياء تبدو جميلة حتى عندما لا تكون كذلك. علينا أن نرى في كلِّ واقعة، تجليّاً لإرادة القوّة التي ليست إلا المتعة والسعادة، الفرح والجمال. لكن هيهات هيهات، ما دام أنّ كلَّ ما هو جميلٌ نادرٌ وصعب المنال» على حدّ التعبير الرائع لسبينوزا في آخر كتابه «الإيتيقا». أكيد، لأنّ كسب القوّة في الوجود، هو ما يتطلّب المران الدؤوب لا الكسل والخمول. مرانٌ يفضي بصاحبه إلى تعلّم تقنيّات العيش العديدة، رسماً لأُفُقِه الخاصّ. ذلك يقيناً، ما يجعلُنا بحاجة ماسّة لتعاطي القراءة كطقسٍ يوميّ. قراءة فلاسفة الحياة بطبيعة الحال من قبيل: ديوجين، بلوتارك، أبيقور، أنتيستين، ديمقريطس، أريستيبوس مونتيني، نيتشه، كامو وغيرهم كثر، واضعين في الحسبان، أنّ المغزى ليس القراءة والمكتبة ولا الكتابة والكتب، بل ما تخوّله إيّانا هذه التقنيات من قدرات، خلقاً لإمكاناتِ حياةٍ جديدة وفريدة. إذ ما الداعي لالتهام نصوص بأكملها دون أن يكونَ لها أدنى أثرٍ في طريقة عيشنا؟

لا يفيد تساؤلنا هذا، أنّنا نسعى إلى التطابق مع ما نقرأه أكثرَ ما يفيد أننا نعتبر كلّ ما نقرأه منطلَقاً مؤسِّساً للسبيل المتوخّى نهجه، على اعتبار أنّ الانطلاق من الصفر، عبثٌ وبهتان. فأن تقرأ أبيقور مثلاً، ليس يعني أن تتطابقَ معه رؤيةً ومنظوراً، بل أن تهضمَه أحسن هضمٍ وتجترَّه أيّما اجترار، بغاية استيعابه الجيّد وبالتالي تجاوزه. على ذات النحو تغدو أبيقوريا بامتياز. فأنت أبيقوريّ ليس بالمطابقة إنّما بالاختلاف والتباين مع أبيقور. لكنّه اختلافٌ بقدر ما يجعل من فكر صاحب البستان منطلقاً له، بقدر ما يروم التناغمَ والانسجام، وهو الأهمّ، مع أفق جديد، كلّ منا هو سيّدُه ومهندسُه بالتمام. نخلص من وراء هذا كلّه إلى التوكيد ختاماً على أنّ الفيلسوف ليس هو رجل الماهيّات والمُثُل والمفاهيم والتجريدات الواهية، بل هو من يستطيعُ أن يأخذَ بالحسبان الواقعَ الملموس انتقاداً للحياة اليومية. لعلّ هذا الفيلسوف الجديد هو من يجرؤ، بتعبير هنري لوفيفر، على الخوض في قضايا ومواضيعَ عديدة بدءاً من طريقة تنظيم كلّ واحد منّا لحياته بحسب انتمائه الاجتماعي، وتدبيره لأجرته المحدَّدة طبقياً، إلى علاقته بالثقافة والفنّ، وأسلوب تعاطيه مع الحبّ والرغبة، مروراً بتدبيره لأوقات الفراغ والترفيه وأنماط العلاقات التي ينصهر فيها اجتماعياً وعائلياً.

________________________________

[1] لعل أطروحة التعارض ما بين الحياة العملية وحياة التأمّل تعارض أسيوي النشأة وهذا ما أدركه الإغريق القدماء بحسب نيتشه الذي ربط بشكل وثيق الفلسفة بالحياة والفن دون أن يسقط في فخ الفجاجة حيث تغدو الفلسفة مبتذلة وحياة الفيلسوف مجرّد أكذوبة.

[2]  لقد جرت العادة في فرنسا أن يُجيَّش عامة المشتغلِين بالفلسفة لقراءة هيدجر تحت تأثير كلّ من ليفيناس وسارتر حتى بلغ الأمر بهابرماس إلى القول محقّا بأنّ كتاب هيدجر الرئيسي بعنوان «الكينونة والزمان» تمّت قراءته بـ«نظارات كيركجور». ولما كان الجميع متلهفا للعثور في كتابه السالف الذكر على فلسفة تُمجِّد الفردانية، لم يجدوا فيها في الحقيقة سوى فلسفة ترفض كما في الفقرة 74 كل ما يُحيل إلى مآلات فردية. هذا بينما ذهب فلاسفة آخرون ألمان بفضل رؤيتهم الحادقة بدءا من «كارل لويت» و«غونتر أندرس» وصولا إلى «تيودور أدورنو» إلى حدّ بلورة نقدٍ لاذع لعملية إقدام هيدجر على اختزال الوجود وردّه مجرّد قضية استسلام الفرد وتضحيته بذاته إن لم نقل إلى جعله انتحارا أخلاقيا نلقى أثره في لفظة la Selbstaufgabe الألمانية باعتبارها بحسب هيدجر «الإمكانية القصوى» في الوجود. هكذا يغدو «الوجود» عند هيدجر، والحالة هاته «انتحارا يستمر مدى الحياة» على حد تعبير أدورنو.  للمزيد من التفاصيل في هذا الباب يمكن للقارئ أن يعود إلى الكتاب التالي:

Emmanuel Faye, Heidegger, L’introduction du nazisme dans la philosophie, éd. Albin Michel, 2005.

[3] Friedrich Nietzsche, shopenhauer éducateur, trad. Henri Albert, Mercure de France, Paris, 1874, §3.

[4] Albert Camus, Œuvres complétes, tome IV. P. 1268. Éd. la pléiade, Gallimard.

[5] Jean-Paul Sartre L’existentialisme est un humanisme, éd. Gallimard, 1996, P. 51.

من كتاب “العيش بصحبة الفلسفة” الذي سيصدر قريباً عن “محترف أوكسجين للنشر”.

*****

خاص بأوكسجين

 


باحث ومترجم مغربي، متخصص في الفلسفة المعاصرة. من إصداراته: "تضاريس فكرية، نحو فلسفة محايثة" (2012)، و"منطق الفكر ومنطق الرغبة"، (2013)، بالإضافة إلى مساهمته في العديد من الكتب والأعمال المشتركة، منها: "أفول الحقيقة، الإنسان ينقض ذاته"، "داروين والثورة الداروينية"، و"الأقليات والأسئلة المكبوتة". من ترجماته: "حكمة الحداثيين، أنطولوجيا الحاضر" (2004)، "الجنس والوعي الأخلاقي: في نقد التحليل النفسي الفرويدي" لـ ميشال هار، (2007)، و"تأملات فلسفية" لـ أندريه كونت سبونفيل (2022).