على سفح التلة التي تشكل أول ضاحية الشيخ مقصود، و التي تشرف على مقابر الأرمن و الجنود الفرنسيين الذين قتلوا في فترة ما بين الحربين العالميتين، لم نكن ننتظر أحداً ما ليأتي و يقول: حسناً، كل شيء على ما يرام، أو ستكونون بخير و لا تأبهوا لشيء، كنا نغني عن قمر أصفر في السماء، عن ضوء يشع بين المنازل، ثم نقلد جميل هورو، نغمض أعيننا و نضع اليد على الأذن و ننادي على السمراء: تعالي كثيراً و إذهبي قليلاً، ثم رفعنا في أربعينية الشتاء تلك ثلاثة علب فوكس إلى الأعلى، نظرنا بعيداً حتى القلعة كذئاب بشرية سعيدة، وبإيمان الشباب الذي لا يعني شيئاً سوى السذاجة، أقسمنا ( و يا للهول ) على أن نبقى أصدقاء و مدى الحياة.
كنا ثلاثة.
أنا من سأصبح رجل الحيط، رجل الكنبة، الشارد الأبدي المراقب الذي يمشي على الحواف، أغزل خيط العزلة، أجدله، أشمّعه ثم أهتدي به لإختراع حياة لا يربطها بالحياة سوى الخيط نفسه.
آزاد الذي كتب على جدار داخلي في ثانوية وجيه عبد الدايم ” تحيا كردستان ” ففصل على إثرها بعد أن عوقب بفلقة شديدة على الأرجل أمام المدير والمدرسين و عشرين شعبة دراسية.
و محمد عمر.
آزاد كان يغني و يمثل و يكتب و يجادل في السياسة و كل شيء، يتنقل بين التنظيمات الكردية و لا يبقى طويلاً مع أي طرف، كان يضيع لكنه يهتدي بمقولة ربما لغوته أو غيره، أقتبسها ماركس في أحد كتبه، و جعلها آزاد منارته: المذاهب رمادية، شجرة الحياة وحدها خضراء.
مرة، زرته في البيت، كان عارياً تماماً، قال: هيا، لا أحد في البيت، كلهم خرجوا، قلت: يعني؟ قال: نيكني، فضحكت و قمت أشغل التلفاز، قال: لا تفهمني غلط، بس أحب أجرب أنو واحد ينيكني، و قام إلى غرفة النوم و عاد مرتدياً ثيابه و عدنا الطلبة الأنيقين في بناطيل الجينز و القمصان البيضاء، ثم لأخفف من شعوره بالخطيئة، رويت له قصة المشط الذي أشتراه لي والدي حينما كنت في السادسة و كنت أتباهى به، و لم أتخلى عنه سوى لقُلفَكري مقابل أن أحتك به من الخلف، و قلفكري حينها كان كل أطفال الشلة يدعون أنهم ناكوه خلف المدرسة و أذكر أن كبير الشلة سألني: هل كيّفت؟ كنت سأرد: لم أحس بأي شيء، لكنني قلت: بعد بكرا راح أجيب قلم الإستيلو كمان.
في الأسبوع الثالث من آذار 1990 قبل عيد النيروز بأيام، أصطحبنا آزاد، مفتاحنا لكل شيء، إلى إجتماع سري عقد في منزل قيد الإنشاء على أطراف حقل الرمي في آخر الضاحية، و يا للغرابة لأمرين أنه كان سرياً و عن الأدب و ثم لأنه بقي الإجتماع الوحيد الذي حضرته و لا أدري لماذا بقي مرتبطاً عندي برائحة الجوارب، ربما لوجود أكثر من مئة زوج من الجوارب الرجالية و ربما لأنني أنزعجت حينها كثيراً، كان المحاضر يتكلم عن الفروقات بين شعر أحمد خاني و شعر ملا جزيري و كان يروح و يجيء و يصف الخاني بأنه بارد، و الجزيري بأنه حار، الخاني بارد لأنه يأتي من العقل، الجزيري حار، يربت على الجزء الأيسر من صدره و يقول: لأنه ينبع من القلب، الخاني عقل و العقل بارد، الجزيري قلب و القلب حار، و حين فتح النقاش قلت دون أن أقصد الإستهزاء: العمى، حسيت حالي في حصة الفيزياء، لكن خانني صوتي في الصف الخلفي حيث كنا نجلس على الأرض، و خرج رفيعاً كصفارة حين قلت: أنا أرى…. فضحك بعض الحضور بضحك مكتوم فيما عقب المحاضر بكل ما يمكن أن يملكه الكردي من الوقاحة و الغلاظة:
جيلك ( أيها الفرخ )، حتى أنت ترى أيضاً؟
و حتى الصيف الثاني الذي قضيناه معاً بينما كانا الشعر يظهر تحت أنفيهما و على الذقن فيما بقيت أقصر منهما و أنحف، فرخاً كما أنا، و ذات يوم قال آزاد بأنه سيرى إن كنا رجلين أم لا، أستأجرنا سيارة تكسي نحو كرم القاطرجي و في مدخل البناية أخرج آزاد بخاخاً طبياً برائحة النعناع و بخ في فمه و فمينا، و قال: البنت لازم تشم من تمكون ريحة طيبة مو ريحة خرا. تعشينا و أكلنا الفواكه و شربنا البيرة و دفع كل منا خمسمائة ليرة كنا قبضناها من عملنا ثلاثة أسابيع في تزيين مركبات مهرجان القطن، كنا ندخن و كان كل شيء يجري كما نريد لولا وجود طفل في التاسعة، أخ للقحبة نفسها و يحمل ملامحها، لم يتكلم مطلقاً، كان شاحباً و ذا عينين صغيرتين تحدقان فينا بغضب شرس، أبى أن يخرج من البيت رغم أنها ناولته خمسين ليرة، و بقي يساوم ببقاءه بيننا و نحن نزيد له الليرات، لم ينطق شيئاً و لم يقم من مكانه حتى أخذ منا ما يقارب الثلاثمئة ليرة، فقام آزاد ليعلق ما أن خرجنا: ابن الحرام بيطالع أكتر منها.
في السابعة عشرة التحق آزاد بإحدى التنظيمات التي تقاتل في الجبال، محمد عمر أدعى أنه سيفتح ورشة لصناعة المنظفات مع ابن عمه في بيروت لأبقى وحيداً في المدرسة و وحيداً أعارك شبح البكالوريا.
محمد عمر لم أعد أتذكر منه سوى الشعر الأشقر و النظرات القلقة في الوجه الأبيض الذي لا تعيبه سوى ندبة الليشمانيا على ذروة الأنف، كان يتردد على الجوامع و جمعة تلو جمعة أخذ يبتعد عنا ثم ترك المدرسة و آخر مرة رأيته فيها كان يوم الجمعة التي دعاني فيه لرؤية براميل اللودالين التي يصنعها و يبيعها في سوقي الشيخ مقصود و الأشرفية، رفع الغطاء عن أحد البراميل، و قال: شم، فشممت رائحة النشادر القوية التي غطت مناخيري فأغمي علي فوراً، ثم فتحت عيني و رأسي على ركبته لأرى وجهه و ندبة الليشمانيا على رأس الأنف و هو يقول: هيك بتفيق و ما بتنساني طول عمرك.
و بعدها لم نكن نسمع سوى أنه في لبنان، في أفغانستان، في العراق، و مرة أنه واحد من ثلاثة أكراد معتقلين في غوانتانامو.
في 8 أيار 2014 وصلت مطار أتاتورك في العاشرة و النصف صباحاً في رحلة عمل لثلاثة أيام لحضور مؤتمر عن التقنيات الحديثة لتطبيق حشوات الكمبوزيت الضوئي في الأسنان الخلفية، و في فندق الباشا حيث نزلت، شاءت الصدفة أن أعرف في الليلة الثانية بطريقة ( أها، أنت كردي، من وين، بتعرفو لهداك، عن جد ) و عن طريق عامل البار أن آزاد في إستانبول أيضاً، و أنه يعمل في بار على الضفة الشرقية من البوسفور، و أنه كان معتقلاً لدى جماعة إسلامية متشددة في هذه الحرب – المتاهة، و ( هات و خود ) حصلّت رقم موبايله.
صباح اليوم الثالث و الأخير إستيقظت في التاسعة، و خلال ساعتين تبضعت من محل إل سي واكيكي في مول هيستوريا المجاور، ألبسة للسيدة، لصغيرتي، لصغيري، كتباً و أقراص موسيقى من مكتبة في جادة الإستقلال، ثلاثة بناطيل لي من بسطة تحت الجسر عند ساعة أكسراي، ثم أوصلت أغراضي إلى غرفتي بالفندق، رتبتها برفق بجانب اللابتوب و وثيقة حضور المؤتمر و قلت لنفسي: حسناً، لدي متسع كاف من الوقت، أيها الصديق القديم، لدي ساعات كثيرة حتى موعد الطائرة في الحادية عشرة مساءً و لِقْ: بعصتُ شاشة الموبايل و إتصلت به.
ألتقيت به في محطة كادي كوي، إحتضنني و قال: الفرخ لا يكبر.
أظنه كان محقاً إذ أنه كان كهلاً، بينما أنا ما أزال أبدو كأنني في الخامسة و العشرين أو الثلاثين، ماكسيموم، و أظن أنني الآن في الأربعين أصبحت أتباهى بأني أبدو صغيراً.
تمشينا لساعتين على الكورنيش الذي يرتاده أزواج العشاق، تحاذيه حدائق بسيطة وتفصله عن البحر صخور موضوعة بأناقة، كحلية كانت تبدو تحت البلل، أمطرت خفيفاً، ثم توقفت ثم غامت مرة أخرى، و رغم كل شيء كان المكان ساحراً، و فكرت بينما كان آزاد يحكي عن عودته إلى حلب قبل عشر سنوات و تركه السياسة، فكرت: هل سيبدو هذا المكان نفسه ساحراً، هكذا، فيما لو ألغيت الرحلة، و عدت إليه غداً .
جلسنا على الرصيف أمام دار الأوبرا و أنصتنا إلى فرقة جوالة من الطلبة كانت تعزف من أغاني قرا دينيز أي منطقة البحر الأسود، ثم تمشينا و دخلنا البار نفسه الذي يعمل فيه آزاد، قال بأنه سيعطل اليوم على شرف الفرخ، ثم أوصى على البيرة، و فطائر الجبنة المسقسقة، شربت من بيرة أفيس الشهيرة أما هو فمن البيرة الفلت، بيرة البراميل، ثم حكى لي عن اليوم الأول من إعتقاله، كان عائداً من عفرين، أوقفوا باصهم على الحاجز، أطلقوا سراح النساء و الأطفال ثم عصبوا أعينهم و قيدوا أيديهم خلف الظهر و قادوهم في بيكابات.
قال بأنهم نقلوا من مكان إلى آخر و كان عددهم ينقص بين مكان و آخر حتى وصلوا إلى سجن قديم لم يعرف عنه شيئاً لكنه عرف من سجناء آخرين قدماء أنه في ريف إدلب، ثم أضاف: كان جحيماً. و صمت بعدها و لم يفعل شيئاً بعدها سوى كرع البيرة التي يسكبها هو نفسه للزبائن كل ليلة.
خرجنا من البار في التاسعة مساءً و كنت ما أزال أنظر إلى ساعة الموبايل و أرى أنه لدي ما يكفي من الوقت، كان رأسي خفيفاً، و العالم جميلاً، و كل البشر نظيفون و رائعون، أصر آزاد أن يرافقني حتى المحطة ثم أصر أن يرافقني في اليخت حتى الضفة الغربية من البوسفور لأجلب أغراضي من الفندق و أطير.
في اليخت عاد آزاد إلى الجحيم في آخر أيامه.
قال أنهم قادوهم في اليوم الثالث عشر إلى ” السيران “، و أضاف: كان مسلخاً بشرياً في حاكورة من أشجار الزيتون، كانت الأجساد معلقة بحبل، أو مصلوبة ، بدون أذرع، مقطوعة الرأس، و رؤوس أخرى مفقوءة الأعين متروكة تحت جذوع الأشجار، و حين أعادونا إلى السجن كان هناك قاضٍ يدعونه أبو سلمان ذو شعر طويل أبيض تتخلله خصلات شقراء، و الحراس الذين أعتدنا عليهم، و الأمير و برفقته فتى بالكاد تجاوز الثانية عشرة يخاطبه الأمير بولدي أسامة.
و أكمل و هو يتنفس بسرعة، كان القاضي يتلو أحكامه بعربية مهجنة جعلتني أخمن أنه من الشيشان ، أحكامه كانت ستنفذ في اليوم التالي و تراوحت بين الجلد و طلب الفدية و قطع اليد من الرسغ و النحر، و في اللحظة التي نطق فيه إسمي، قال آزاد، إقترب أسامة مني، كنت على الأرض، مقيداً، رأسي بين ركبتي لا يصلني سوى صوت القاضي و رائحة خرائي، مرر أصابعه الرقيقة الناعمة على رقبتي، أخذ يتحسس فقراته بدقة، فقرة فقرة، أمسك الجلد بين الإبهام و السبابة، و أخذ يشد الجلد مرة تلو أخرى ضاغطاً على العروق، ثم شد شعري و رفع رأسي و أخذ يتحسس تفاحة آدم في عنقي، واضعاً إصبعه الوسطى في وسطها تماماً ثم قال مخاطباً الأمير: هل آن أواني؟ فضحك الأمير ضحكة نبرتها بين الأبوة و النبوة و قال بلكنة مسرحية: لقد أشتدت ذراعك يا بني لكن أترك المجوسي، رقبته غليظة، ستعذبك. ثم أردف مشيراً بعينه إلى الطرف الآخر، إلى آرام: الأرمني رقبته ملساء، أنصحك به أيها الشبل.
ليلتها حدثت المعجزة، أكمل آزاد، إقترب مني القاضي الذي أنتبهت أنه كان يحمل ندبة ليشمانيا على أنفه و همس سراً، لقد شفعت لك عند الأمير، ثم بسرعة عصبوا عيني و وضعوني في سيارة بيكاب، و حين أصبحنا على مقربة من حاجزٍ عسكري لميلشيات الأكراد، عروني تماماً، و أطلقوني و أطلقوا خلفي في سماء البرية مشطين من الرصاص لأعدو بقدمين عمياوتين و جسد لا يمكن لأحد أن يقدّر خفته .
كنا سكرانين تماماً، قمر إستانبول يلحق بنا، و اليخت يمضي بهدوء، قال آزاد بعد صمت طويل مشيراً بإبهامه إلى الخلف: هل تعرف أن جميل هورو غنى هناك في كادي كوي، عزف له علي تجو و كانت عائشة شان معهما ثم أخذ آزاد يغني بصوته العجوز، أيتها السمراء، تعالي، تعالي أيتها السمراء، القمر الأصفر في السماء، الضوء يشع بين المنازل، فتعالي، أرغب في قبلة الجميلة لكنني أخشى من أهلها، لم أعد أطيق أن أنتظرك، تعالي كثيراً و إذهبي قليلاً، تعالي أيتها السمراء، أيتها السمراء تعالي.
و كما يحصل لي حينما أسكر تماماً، غفوت بل نمت، ثم أستيقظت، لم يكن آزاد معي، و لم يبق أحد من الركاب و لم أكن قادراً على فتح عيني أو قادراً على دق رقم الموبايل الذي أنتبهت أنه قد نفدت بطاريته بل و لم أستيقظ إلا و موظفة بتنورة قصيرة تنادي: آبيه، آبيه، و لم أفهم من جملها التركية الأخرى سوى أننا وصلنا.
_________________________________
شاعر من سورية
الصورة من أعمال المصور العراقي فاضل عباس هادي وهي منشورة ضمن كتاب له بعنوان “ولا تنسَ أن السيدة لايكا تنتظرك بالبيت”، والذي يمكن التعرف على مضمونه من خلال قراءة المخرج والسينمائي قيس الزبيدي له في زاوية “كتاب” ضمن مواد هذا العدد.
*****
خاص بأوكسجين