العين الكونيّة
العدد 218 | 05 أيلول 2017
هنري ميللر


    في ليلة قريبة، وبينما كنتُ أرفّه عن كاتبٍ أميركيّ جاء لزيارة فرنسا بعد فترة غياب طويلة، أدركتُ بحِدّة ما حدث لي منذ أنْ غادرتُ وطني الأصلي. وككل أبناء بلدي الذين جاؤوا ليزوروني سألني سؤالاً طبيعياً جداً عمّا دفعني إلى البقاء هنا كل تلك المدة الطويلة. (إنني أُقيم في باريس منذ سبع سنين) وشعرتُ أنَّ من العبث أنْ أُجيبه بالكلمات. فاقترحتُ بدل ذلك أنْ نتمشّى في الشوارع. وانطلقنا من ناصية شارع “رو دو لا غيته” وجادّة “دو مان” حيث كنا نجلس ؛ ومشيتُ معه على طول شارع “رو دو لويست” المؤدي إلى شارع “رو دو شاتو”، ثم اجتزنا جسر سكة القطار العائد إلى “محطة مونبرناس” ومنها إلى “بولفار باستور” ثم إلى “جادّة دو بروتوي” نحو مقهى يواجه “أنفاليد” حيث جلسنا صامتين فترة طويلة. لعله ذلك الصمت الذي يجده المرء في شوارع باريس ليلاً، لعل ذلك وحده كان جواباً كافياً على سؤاله. إنه شيء صعب المنال في مدينة أميركيّة كبرى.

   على أي حال، لم تكن المُصادفة هي التي قادتْ خطواتي. لقد كنتُ بسيري مع صديقي خلال الشوارع المُقفرة أعيشُ من جديد أيامي الأولى في باريس، ذلك أنَّ البداية الحقيقيّة لحياتي الجديدة كانت في شارع “دو فانف”. ليلة بعد ليلة جبتُ تلك الشوارع يائساً مكروباً، بلا نقود، بلا أصدقاء، بلا لغة. كانت الشوارع هي كل شيء بالنسبة إليّ، كما لابد أنها بالنسبة إلى كل ضائع في مدينة كبرى. لقد هنّأتُ نفسي في صمت وأنا أسير فيها من جديد مع ابن بلدي لأنني بدأتُ حياتي في باريس سرّاً. إنْ كنتُ قد عشتُ حياةً بوهيميّة، كما يتصوّر البعض، فذلك من خلال فقر مرير. حياة بوهيميّة! ما أغربها من عبارة عندما تفكّر فيها! إنها خالية تماماً من البوهيميّة. على أي حال، الشيء الهامّ هو أنَّني في شارع “دو فانف” وصلتُ إلى الدرك الأسفل. لقد اضطُررتُ، شئتُ أم أبيت، إلى خلق حياة جديدة لنفسي. وهذه الحياة الجديدة أشعر بأنها لي، دون مُنازِع، وأنني حرٌ في الاستفادة منها أو تحطيمها، كما أرى أنه مُناسِب.  في هذه الحياة أنا إله، وكإله أنا لا أبالي بمصيري. أنا كل ما هو موجود – فلمَ أقلق؟

   لقد شعرتُ بانفصالي عن أميركا كأنني قطعة من المادة انفصلتْ عن الشمس لكي تعيش خلقاً جديداً تماماً. وفور حدوث الانفصال تكوَّنَ مدار جديد، ولا سبيل إلى العودة إلى الوراء. إنَّ الشمس بالنسبة إليّ لم يعُد لها وجود ؛ أنا نفسي أصبحت شمساً تتلظّى. وككل الشموس الأخرى  في الكون ينبغي أنْ أُتغذّى من الداخل. إنني أتحدث لغةً كونيّة لأنها تبدو لي الطريقة الوحيدة الممكنة لكي يعتقد المرء بأنه حيٌ حقاً.  إنني أفكّر بهذه الطريقة أيضاً لأنها الطريقة المناقِضة تماماً لتلك التي كنتُ أفكّر فيها قبل بضع سنوات عندما كانت لدي ما يُسمّى بالآمال. إنَّ الأمل شيء سيئ. إنه يعني أنكَ لستَ ما تريد أنْ تكون. ويعني أنَّ جزءاً منك قد مات، إذا لم تكن قد مُتّ بالكامل. ويعني أنكَ تنطوي على أوهام. بل يجب أنْ أقول، إنه نوع من مرض السيلان الروحيّ.

   قبل أنْ يحدث هذا التغيُّر الداخلي كنتُ أعتقد أننا نعيش زمناً صعباً بصورة هائلة. وكغالبيّة الرجال اعتقدتُ أنَّ زماننا هو أسوأ ما يمكن تصوّره. وهو كذلك دون أدنى شك – أعني، بالنسبة إلى الذين لا زالوا يقولون “زماننا”. أما أنا، فقد رميتُ الروزنامة التي يحسب بها المرء السنوات الكبيسة والسنوات الكاملة. بالنسبة إليّ هي دفقٌ رائع، متواصل وكئيب لزمنٍ بلا بداية ولا نهاية. نعم، إنَّ الأزمان سيئة، سيئة على الدوام – إلا إذا أصبح المرء منيعاً، أصبح إلهاً. وبما أنّني أصبحتُ إلهاً فإنني دائماً أذهب إلى أقصى مدى. إنني لا مبالٍ على الإطلاق بمصير العالم : أنا لديّ عالمي الخاص ومصيري الخاص. ليست لديّ أي تحفّظات ولا تسويات. أنا أقبل. أنا موجود – وهذا كل شيء.

   لهذا السبب، ربما، عندما أجلس أمام آلتي الكاتبة أواجه دائماً جهة الشرق. لا أُلقي أي نظرة إلى الخلف. المدار الذي أدور فيه يقودني أبعد فأبعد عن الشمس الميّتة التي ولدتني. ذات مرة واجهت خياراً – إما أنْ أبقى قمراً تابعاً لذلك الشيء الميّتْ أو أنْ أخلقَ عالماً جديداً خاصاً بي، لي توابعي الخاصة. واخترتُ. وبعد ذلك لم يعد هناك مجال للبقاء ساكناً. إنَّ المرءَ يُصبحُ حيّاً أكثر فأكثر، أو ميّتاً أكثر فأكثر. ولا فائدة من أخذ piqure (حقنة) ؛ لا فائدة من نقل الدم. إنَّ الرجل الجديد مصنوع من قماشة كاملة، بتغيُّرٍ في القلب غيَّرَ كل خليّة حيّة في جسمه. وأي شيء أقلّ من تغيُّرٍ في القلب هو كارثة حتميّة. وهذا، إذا تبعتَ العقل، يُفسِّر سبب أنَّ الأزمان دائماً سيّئة. لأنه، إنْ لم يحدث تغيُّر في القلب لن يكون هناك عملٌ إراديّ. قد يكون هناك مظهر للإرادة، يصحبه نشاط هائل (كالحروب، والثورات، إلى آخره)، لكنَّ ذلك لن يُغيِّر الأزمان. بل إنَّ الأمور، في الحقيقة، سوف تزداد سوءاً.

   على امتداد العديد من القرون ظهرت حفنة من الرجال فهموا حقاً، استناداً إلى طريقتي في التفكير، السبب في أنَّ الأزمان سيئة على الدوام. لقد أثبتوا، بأسلوب حياتهم الفريد والخاص، أنّ تلك “الحقيقة” الحزينة هي إحدى ضلالات الإنسان. ولكن يبدو أنه لا أحد يفهمها. والصحيح تماماً هو أنه يجب أنْ تكون هكذا. فإذا أردنا أنْ نعيش حياةً خلّاقة فمن العدل المُطلَق أنّنا يجب أنْ نكون مسؤولين عن مصيرنا. وتخيُّل أسلوب من الحياة يمكن أنْ يُرقَّع يعني التفكير في الكون كتركيب شاسع ومُعقَّد. والتوقُّع من الآخرين أنْ يقوموا بما عجزنا نحن أنفسنا عن القيام به يعني حقاً أنْ نؤمن بالمعجزات، معجزات لا يمكن لأي نبي أنْ يحلم باجتراحها. إنَّ النظام الاجتماعي- السياسي برمّته للوجود جنونيّ – لأنه قائم على أساس العيش البديل. إنَّ الإنسان الحقيقيّ ليس في حاجة إلى حكومات، وقوانين، أو دساتير أخلاقيّة أو سلوكيّة، ناهيك عن  البوارج الحربيّة، وهراوات رجال الشرطة، والقنابل عاليّة التفجير وما إلى ذلك. ولاشك في أنَّ من الصعب العثور على إنسان حقيقيّ، ولكن ذلك هو النوع الوحيد الذي يستحق الحديث عنه. ولِمَ التحدّث عن الهراء؟ إنَّ التكتلات الضخمة من البشر، الرعاع، الشعب، هم الذين يخلقون الأزمان السيئة على الدوام. ما العالم إلا مرآة تعكس صورتنا. فإنْ كانت شيئاً يجعلنا نتقيّأ، تقيئوا، يا أبنائي، إنَّ ما ترونَ ليس إلا سحنتكم المريضة!

   أحياناَ يكاد يبدو أنَّ الكاتب يستمد متعة منحرفة من رؤية الأزمان تتحلَّل، من رؤية كل شيء يتشوّه ويتحطّم. لعلّ الفنان ليس أكثر من تجسيدٍ لهذا التشوُّه الكونيّ، لانعدام التوازن الكونيّ هذا. لعلَّ هذا يفسّر السبب في أنَّه في البلدان الحياديّة، العقيمة (كالدول الاسكندنافية، وهولندا، وسويسرا)، لا يكاد يُنتَج أي فن، أو أنَّ الدول التي تجتاز تغيّرات اجتماعيّة وسياسيّة عميقة ( كروسيا، وألمانيا، وإيطاليا)، يكون الإنتاج الفني فيها خالياً من أي قيمة تُذكَر. ولكن، سواء أكان هناك قليل من الفن أم فن سيئ، فيجب أنْ نفهم أنَّ الفن ليس إلا بديلٌ مؤقّتْ، بديل عن الشيء الحقيقيّ. هناك فقط فنٌ واحد، إذا مارسنا، سوف يُدمّر ما يُسمّى ” الفن “. إنني مع كل سطر أكتب أقتلُ “الفنّان” فيَّ. مع كل سطر هناك إمّا جريمة قتل من الدرجة الأولى أو انتحار. أنا لا أريد أنْ أمنح أملاً للآخرين، ولا إلهاماً. لو أننا عرفنا معنى أنْ نُلهَمْ لما ألهمنا. لاكتفينا ببساطة بأنْ نكون. في الواقع نحن لا نتبادل الإلهام ولا المساعدة : نحن فقط نطبّقُ عدالة باردة. من ناحيتي لا أريدُ هذه العدالة الباردة القذرة ؛ بل أريد إما شهامة من القلب أو إهمالاً تاماً. وأقول الصدق، أريد شيئاً يفوقُ ما يمكن لأي إنسان أنْ يمنح. أريد كل شيء ! أريد كل شيء – أو لا شيء. هذا جنون، أعلمْ ولكن هذا ما أعني.

   هل الوضع جيد هنا في فرنسا؟ إنه رائع. ممتاز. بالنسبة إليّ هو ممتاز، لأنه المكان الوحيد في العالم الذي أستطيع فيه أنْ أستمر في موضوع القتل-الانتحار  – إلى أنْ أكتشف عالماً جديداً من البروج الفلكيّة. بالنسبة إلى كاتب فرنسيّ قد يكون الوضع سيئاً هنا، لكنني لستُ كاتباً فرنسياً. وأكره أنْ أكون كاتباً فرنسياً أو ألمانياً أو روسياً أو أميركياً. إنه جحيم. أنا كاتبٌ كونيّ، وعندما أفتحُ فمي أبثُّ للعالم أجمع في الحال. (كقول الأب المقدّس[1] : السلام! ما أروعه!)، وبسلوكي هذا قد أتعرّض لعقاب شديد. قد أُستنزَف، وأعلمُ هذا. ولكن هذا هو مزاجي الخاص، وسوف أدعمه أو أموت دونه. وفي الختام لن أُزعج نفسي حتى بأنْ أصبح كاتباً كونيّاً: سوف أكون فقط رجلاً. ولكن أولاً يجب ارتكاب الكثير من المذابح.

__________________________________

[1] – الأب المقدّس : اسمه  م. ج ديفاين (1876 – 1965) : ويُكنّى بـ “الرسول”. زعيم روحي أميركي أسود ظل طوال عمره يدعو إلى السلام.                – المترجم

 

من كتاب لهنري ميللر بعنوان “العين الكونية”

*****

خاص بأوكسجين