العقل والإيمان والثورة
العدد 142 | 09 أيلول 2013
تيري إيغلتن/ ترجمة: أسامة منزلجي


  … قبل أنْ يجفّ الحبر الذي كتب به دوكينز كتابه “The God Delusion” وكتاب هيتشنز ” God Is Not Great” كان قد خرج عشرة آلاف راهب بوذي في بورما، مدفوعين بمبادئهم الدينية، في مسيرة ضد الحكم الفردي الوحشي فضُرِبوا وسُجِنوا وقُتِلوا بسبب ما فعلوا. وبسبب انتحار راهب بوذي في سايغون في عام 1963 تحركت الضمائر الأميركية حول الحرب الدائرة في الهند الصينية. وراهب فييتناميّ آخر، اسمه ثيتش نهات هانه، أصبح شخصية بارزة وسط حركة حقوق الإنسان الأميركية وأقنع مارتن لوثر كينغ بمناهضة الحرب في فييتنام. وفي كمبوديا، حيث ذبح الخمير الحمر تقريباً كل الرهبان في البلد ويبلغ عددهم ستون ألف راهب، أصبح الراهب ماها غوسانادا الشخصية المحورية في إعادة بناء البلد. وفي التيبت، خرج رهبان بوذيون في عام 1987 في أول مظاهرة كبرى منذ أعوام، وكانت النتيجة أنهم عومِلوا معاملة قاسية . إنْ كان في استطاعة الاشتراكيين أنْ يمدحوا الطبقات الوسطى بوصفها القوة الأشدّ ثوريّة في التاريخ، من دونها لا وجود للحقوق والقيَم التي نحافظ عليها، فلماذا يكون ديتشكينز مراوغاً فكرياً وبفظاظة بحيث يُنكِر منجزات الإيمان الديني، في حين يواصل التأكيد – وهذه نقطة قد يوافق المرء عليها – على أنَّ كفّة تلك الإسهامات الرائعة في خير الإنسانية فشلتْ في نهاية المطاف في أنْ ترجَح أمام الممارسات الإرهابيّة التي قام بها الدين المُنظَّم؟

   من المذهل أنَّ آلهة التنوير الليبرالي أمثال هيتشنز، ودوكينز، ومارتن إيميس، وسلمان رشدي، وإيان مكّيوين ليس لديهم الكثير يقولونه عن شرور الرأسمالية العالمية في مقابل شرور الإسلام الراديكالي. بل الحقيقة هي أنَّ غالبيتهم لم يذكروا كلمة “رأسمالية” على الإطلاق، مهما بلغ احتجاجهم بين حين وآخر على تجاوزاتها. ولا لاحظ أحد أنَّ كثيراً منهم هاجم، مثلاً، أنظمة الحُكم المرعبة التي تدعمها أميركا في المملكة العربية السعودية أو باكستان. والفكرة المألوفة (وإنْ كانت، كما يبدو، ليست مألوفة جداً في وسائل الإعلام الأميركية) القائلة، بعد مرور ثلاثين عاماً على اليوم الذي سبق الهجوم على البرجين التوأم، إنَّ حكومة الولايات المتحدة أطاحت بعنف بحكومة تشيلي المُنتَخَبة ديموقراطياً، ونصّبت مكانها دكتاتوراً دمية بغيضاً ظل يذبح من الناس أكثر بكثير ممّن ماتوا في مركز التجارة العالمية. والولايات المتحدة دعمتْ أيضاً على مدى سنين عديدة نظام الحكم في أندونيسيا الذي ربما أبادَ من الناس أكثر مما فعل صدّام حسين. وربما على الذين تلفّعوا بالعلم الأميركي كلفْتةِ احتجاج ضد الممارسات الإسلامية الوحشية أنْ يتذكّروا هذه الحقائق باستمرار.

   هناك سبب وجيه للاعتقاد أنَّ عنف الإرهاب الإسلامي الفظيع هو، من بين أشياء أخرى، ردّة فعل ضد هذا التاريخ الاستبدادي. وكما قال إعجاز أحمد  إنَّ الإسلاميين المتطرفين هم أولئك الذين يظهر الغرب في تصوراتهم المتزمّتة المُبالغ فيها ليس أكثر من بؤرة فساد وفسق، وبعد أنْ هاجروا إلى ما يرون أنه (وهو كذلك في الغالب) وسط غربي عِدائي، ” يتصورون أنه ينتظرهم ماض مُشترك دائم لن يأتي أبداً ” . إنه وهم يشتركون فيه مع العديد من المهاجرين، خاصة الأميركيين من أصل أيرلندي. ومع ذلك، كما يشير إعجاز أحمد، فإنَّ كل أولئك المؤهلين للانضمام إلى تنظيم ” القاعدة ” ينشأون في بلدان لها تاريخ طويل، مُخز، من الهيمنة الأوروبية أو الاحتلال المُستعمر. وفي العالم العربي، هؤلاء المنشقّين شاهدوا حكّامهم “يرهنون ثرواتهم الوطنية لصالح الغرب: مُبددين ثروة صاحب الأرض على رفاهيتهم ورفاهية أسرهم؛ ويُنشئون جيوشاً يُقاتل بعضها بعضاً ولا تقاتل أبداً الغازي والمُحتل”. وعندما يعجزون عن تكوين جيوش موثوقة يضمونها إليهم، ينتقلون إلى تصميم جيش خاص بهم: سرّي، غير وطني، مُكرَّس للدعاية للمأثرة. ويُضيف أحمد “لقد شاهدوا أعداداً لا حصر لها من المدنيين يُقتَلون على أيدي الأميركيين والإسرائيليين بحيث أنهم لا يعتبرون قتلهم للمدنيين عملاً إرهابياً، أو حتى يُقارَن بما عاناه شعبهم. وإنْ كان لابد من وصف أنفسهم فإنهم يعتبرون أنهم لا إرهابيين .

   إنَّ على الذين يرتابون في مثل هذه التصريحات ذات السِمة الدعائية الإسلامية أنْ يلاحظوا أنَّ قائلها يُقارن العنف الصادر عن تلك الجماعات بتلك التي كانت تصدر عن الإرهابيين الثوريين في روسيا القيصرية، في حين أنه يُشبِّه “نظام الحُكم السرّي العقابيّ بصورة رهيبة” لطالبان بممارسات بول بوتْ في كمبوديا. ولكن يُذكرنا أحمد أيضاً، بأسلوب نادر متوازن في تلك المناظرات، بأنّ ” حكم طالبان كان فظيعاً لكنه كان الفترة الوحيدة بعد أفغانستان ما بعد الشيوعية التي لم تتعرَّض خلالها النساء للاغتصاب من قِبَل النخبة الحاكمة، ولم يتلقَّ أي حاكم رشاوى، ولم يُزرع الخشخاش ولم يُصنَّع الهروين ” . والمقارنة الصحيحة هي مع حكم المُجاهدين العسكري السابق المُسلَّح من قِبَل الولايات المتّحدة. فإنْ كان طالبان قد حوّلوا البلد برمّته إلى سجن شاسع للنساء، في ظروف من الجوع الجماعي والعوز، فإنَّ حكم المُجاهدين كان يعني حلقات الاغتصاب الجماعي، وبؤر الفساد، والإعدام الجماعي. 

   خلال نصف قرن مضى أو نحوه، كما يُشير أحمد، بدأت الغالبية العظمى من الإسلاميين الناشطين سياسياً كموالين للغرب، ثم انتقلوا إلى معسكر المناوئين له بالدرجة الأولى بسبب عدائيّة السياسات الغربية. وبين الشيعة، كان المذهب الخُميني الذي يقول أنه ينبغي على الحكومة المدنيّة أنْ ترضخ كلياً لهيمنة الدين، وأنَّ العصيان المُسلَّح وسيلة مشروعة لتحقيق هذه الغاية، بدعة مذهلة في السنّة الإسلاميّة ترى التغيير السياسي من منظور انتخابيّ. والذين يسعون إلى فرض الإسلام عبر البندقية يُشكّلون أقلّية صغيرة جداً. والدين الإسلامي يُحرِّم الانتحار وقتل المدنيين. وظهور هذا المذهب العنيف في رأي أحمد يعود إلى مجموعة من العوامل. كان هناك قمع القِوى اليسارية والقِوى المدنية المناهضة للإمبريالية في إيران جراء الانقلاب المدعوم من الـ CIA في عام 1953، الذي استعاد النظام المَلَكي، وأطاح بالشيوعيين والديموقراطيين الاجتماعيين، وأوجدَ قِوة أمنيّة داخلية متعطشة لسفك الدماء. ولاحقاً تسبّب حُكم الشاه الفردي المُطلَق، بالإضافة إلى روابطه الحميمة مع الولايات المتحدة، في إحداث حركة ارتجاعيّة دينية راديكالية على شكل ثورة إسلاميّة في عام 1978 . وتحولت إيران، بمساعدة الـ CIA، من أمّة تضم يساريين علمانيين وديموقراطيين اجتماعيين إلى دولة إسلاميّة متشدّدة. 

   في إندونيسيا، الأمة التي تضم أكبر عدد سكان من المسلمين في العالم ولكنها كانت ذات يوم تضم أيضاً أكبر حزب شيوعي غير حاكم، أُطيحَ بحكومة سوكارنو العلمانية المناهضة للاستعمار في عام 1965 بانقلابٍ مدعوم من الولايات المتحدة، بأكبر حمّام دم من الشيوعيين فريد من نوعه في تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية، نتجَ عنه مقتل نصف مليون أو أكثر، وإنشاء ديكتاتورية سوهارتو. وفي أفغانستان، كانت الولايات المتحدة هي التي دعمت وأطلقت يد الجهاد الإسلامي ضد الشيوعيين المحليين والسوفييت، وأسّستْ بذلك لحكومة إسلامية عسكرية من المجاهدين. وفي الجزائر، وهي دولة هدّدها حزبٌ إسلامي مُنتَخَبٌ ديموقراطياً تهيّأ لتشكيل حكومة أوقفَ العملية الانتخابية باستحسان صاخب من الولايات المتحدة وأوروبا. وكان أحد نتائج هذا القمع أنه أمدّ العناصر الجهاديّة داخل الحركة الإسلاميّة بالقوة. وفي مصر، قمع نظام حكم مبارك المدعوم من الولايات المتحدة حزبَ الإخوان المسلمين المُمثَّل في مجلس الشعب، وسجن قادته، وتلاعب بالانتخابات. وفي الأراضي الفلسطينية المُحتلّة، صوّتت الجماهير بلا تحفُّظ لحركة حماس، لكنَّ انتخاب تلك الحكومة الشرعية تسبّب في تضييق الخِناق الاقتصادي الغربي الذي استمرَّ في استنزاف حياة الشعب الفلسطيني. 

   وفي رأيي أحمد ورأيي، لا شيء مما سبق يمنح أي قدرٍ من الشرعية لاستخدام الإرهاب. ولا يوحي بأنَّ الغرب مسؤول عن التفجير الانتحاري. إنَّ المُفجّرين الانتحاريين هم المسؤولون عن التفجير الانتحاري. لكنه يدل على أنَّ للغرب دوراً هاماً في خلق الظروف التي تبدو فيها مثل هذه الجرائم تستحق الارتكاب. ولا ريب في أنَّ أحمد على حق بادّعائه أنَّ “ما يخلق الظروف الموضوعية التي تجعل الإسلام ” المعتدل”، الديموقراطي، يفسح المجال، في أماكن عديدة، لتشكيلة من المتطرّفين، الألفييِّن ، هو مزيج من أنظمة الحكم المحليّة (الإسلاميّة)، المُناهضة لليسار وفي الغالب اليمينية الدكتاتورية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، سياسات (الغرب) الإمبريالية-الصهيونية الصارمة” . إنَّ الغرب هو الذي ساعد الإسلام الراديكالي على الازدهار بتعزيزه بوصفه قوة مُضادة لِما يُسمّى الشيوعيّة – وهي صِفة استُخدِمَتْ لوصف أي بلد جرؤ على إشهار مبدأ القومية الاقتصادية في وجه الوحدة الرأسمالية الغربية. والغرب، أيضاً، هو الذي، بضمانه الإطاحة بتلك الحكومات العلمانية في العالم الإسلامي التي إما تتسامح مع الشيوعيين أو ترفض أنْ تنحاز إلى الغرب (كسوكارنو في إندونيسيا وعبد الناصر في مصر)، أو الذي دعا حتى إلى شكل معتدل من القومية الاقتصادية (كمُصدَّق في إيران)، إنما ضيَّقَ حيِّز السياسة العلمانية في تلك المجتمعات وبالتالي ساعد على بروز الأيديولوجية الإسلاميّة.

   زيادة على ذلك، عندما نما التوجُّه الإسلامي وأضحى تياراً قوياً في العديد من تلك الدول، قدَّم الغرب لها أوراق اعتماده على طبق من ذهب بوصفها “مُعادية للإمبريالية ” وذلك بدعمه حكاماً مُستبدين أمثال مبارك والنظام الملكي السعودي الدكتاتوري ضدها، في حين كان يعِدّ لشن حرب مقدّسة على السوفييت في أفغانستان. في تلك الأثناء، استمرت إسرائيل في الاستهزاء بالقانون الدولي باحتلالها فلسطين. إنَّ الإسلاميين المُسلّحين هم في الغالب مُعادون للساميّة متعصبون ومتطرفون، يجهلون تماماً دينهم الإسلامي، وقمعيون ماضويون بشراسة، ومستعدون للقتل دون أنْ يرفّ لهم جفن. ومع ذلك، كما يقول أحمد، ليس غريباً أنَّ “الإسلاميين لا يُصدّقون أنَّ القانون الغربي… لن يمنحهم العدل أبداً” . وعندما يُجَرّ آرتفول دودجر  في رواية ديكنز إلى قفص الاتّهام في المحكمة وهو يصرخ محتجاً “هذا ليس مكاناً لتحقيق العدل”، إنما يُقدِّم عرضاً من رثاء الذات لكي يُثير عطف الآخرين. وهو أيضاً، كما تبيِّن الرواية، على حق تماماً.

   بين عاميّ 1945 و 1965، كما يقول أحمد، كانت المجتمعات ذات الغالبية المُسلمة، من إندونيسيا إلى الجزائر، تتقبَّل بصورة خارقة الأفكار اليسارية، والعلمانية. وكما لاحظنا تواً، رأى العديد من فقهاء الإسلام أنَّ الإسلام والاشتراكية (أو حتى الماركسية) تنسجم مع بعضها، وشكّكوا في القاعدة الإسلامية حول الملكية الخاصة. وفي خمسينيات القرن العشرين، كان أضخم تنظيم سياسي في العراق هو الحزب الشيوعي. وبالمقارنة، بين منتصف ستينيات القرن الماضي وحتى أواخر السبعينيات، عشية الانقلاب في إندونيسيا، وتدمير الجيوش العربية في الحرب العربية-الإسرائيلية، وأول تحركات المجاهدين الأفغان، وصل اليسار والعلمانية في العالم الإسلامي إلى مأزق حادّ، عندما ازدادت قوة التنافُس بين حركات التطرُّف في إيران والسعودية. 

   حطَّم الانتصار الإسرائيلي المدعوم غربياً في عام 1967 التيار الناصري، العقلاني-العلماني، والاشتراكي –الفاشي، الذي كان يجتاح  ذات يوم العالم العربي، بشكل كامل. والتيار الإسلامي الذي برز إثر تلك الهزيمة اتَّهم عبد الناصر بفشله في قيادة القِوى العربية إلى النصر على إسرائيل. وعلى الأثر انتقل التوازن السياسي داخل الوطن العربي بعيداً عن الحركة الناصرية التي فقدت مصداقيتها إلى وهّابيي السعودية المتطرفين الملَكيين الموالين للغرب. وما عجزت السياسة العلمانية كما بدا عن إنجازه، كان في استطاعة سياسة دينية متعصّبة أنْ تحققه بدل ذلك.

   وهكذا ساعد الغرب في إعداد الظروف التي ستُطلق العنان لشن اعتداءات مُستقبلية على سلطتها. وبعد المجازر التي ارتكبتها الإسرائيليون في الأردن عام 1971 ازدادت الأيديولوجيا الإسلامية بين الفلسطينيين قوة على قوة. وبحلول عام 1990، ومع بروز دولة إسلامية في أفغانستان تحت وصاية الولايات المتحدة، بدأ بعث الإسلام الراديكالي. حينئذٍ أخذ العالم يشهد شكلاً مسعوراً من التطرُّف الديني – تطرّفاً إما تصالح مع الغرب الإمبريالي وتغذّى منه، كما حدث في السعودية، أو استمر في كفاحه المناهض للإمبريالية بينما كان يؤسس (أو يسعى إلى تأسيس) أنظمة حكم لاهوتيّة، قمعيّة، كارهة للأجانب وأبويّة بصورة وحشية في بلدانه. وهذه الروح النضالية لم ير فيها مُعلّقون من أمثال مارتن إيميس وآخرون كُثُر في الغرب إلا أفعال أناسٍ معتوهين، جاهلين بصورة بائسة أو متجاهلين ما يُسميه أحمد “القرائن الخبيثة التي يمكن أنْ تنمو فيها أنواع السرطانات كافة”. ويتابع “إنَّ على العالم العِلماني أنْ يحتوي ما يكفي من العدل بحيث لا يُضطر المرء فيه إلى أنْ يستحضر على الدوام عدل الله مقابل جور الوثنيين”. إنَّ الحل للقضاء على الإرهاب الديني هو العدل العلماني. 

   لا شيء من هذا يدّعي بأنه لا وجود للإسلاميين المتعصبين من دون إمبريالية غربية. فهم موجودون فعلاً، تماماً كما أنه يوجد دون أدنى شك إنجيليون مسيحيون متعصبون. كل ما في الأمر أنه، من دون وجود مُعسكر الاعتقال الضخم المُسمّى قِطاع غزّة، لم يكن مُستبعداً على الإطلاق &a