أتذكر هذه الليلة جيداً. كان يحضن بيمناه كتاب النور لعثمان الأصمّ، في مشيته الوئيدة إلى المسجد، دون أن يحمل قنديلا. فالقمر كان ساطعا، حتى إنه ترك عصاه معلقة في كربة نخلة في باحة البيت الطيني، وقبل ذلك أرسل نظرة إلى السّماء من خلل جريد النخل واطمأنّ إلى اكتمال القمر، ثمّ علقها وأكمل طريقه إلى الباب وغادر. اهتزّت العصا وراءه مرّتين من الأسفل كأنما لتُعبّر عن غضبها بالتخلي السّريع عنها بسبب قمر مكتمل. رفيقته اليومية منذ سنين، وفي الليل يُنيمها تحت سريره المعدني المرتفع ثُلثَ متر عن الأرض، والمتروك في عراء الباحة قِبلة للهواء المتقلب. لا يأخذ جدّي قيلولة الظهيرة إلا في صحن المسجد، دقائق بعد صلاة الظهر، إلى أن تأتي جدتي أو أنا لإيقاظه للغداء.
صعد درجات المسجد أولاً بخطى بطيئة وبلا أنين. ألقى نظرة من الشّرفة المطلة على السّرح الأخضر الذي غطاه الظلام، حيث تحيط بالمسجد أشجار الوقف المرتوية بفضل وفرة ماء الفلج المتدفق بلا انقطاع على عتبة سلاليم المسجد، وكأنما ليودِع مقام الصلوات نصيباً أزلياً من قسمة ماء القرية. استطاع أيضاً، بنظرته الخاطفة تلك، أن يرمق من الشّرفة شعاعاً باهتاً يخترق الظلام من بعيد. كنت أحمل القنديل الذي أسرجته جدّتي بعد أن صبّت عليه في المطبخ من وعاء الكيروسين. طلب منها أن تشعله ثمّ أحمله وراءه. لم يكن يريد السراج للطريق، وإنما للقراءة. سيظلّ يقرأ بعد الصّلاة الأخيرة فصلا من كتاب النور.
كان أبي يتركني كل صيف عند جدّي، كي أتعلم منه وأساعده. وفي صباح كلّ جمعة يأخذني إلى السّوق الطينية، الذي لم يكن سوى غرف موزّعة تحت الأشجار. نشتري علباً محفوظة وقهوة مدقوقة وصفيحة كيروسين. لم تصل الكهرباء إلى قريتنا بعد. وقبل الأصيل، حين يأتي الضّيوف لزيارة جدي في مضافته المفتوحة، أعرف أنّ عليّ الذهاب إلى البيت لجلب تمر وقهوة.
أقضي أوقات ما قبل الظهيرة في البحث عن أطفال لألعب معهم. أجدهم عادة عند الوادي يركضون وراء الكرة في فريقين. أنضمّ إلى أيّ منهما دون استئذان. وهكذا يحدث لأيّ طفل يظهر فجأة. حفاة في الأغلب، عدا الطفل الذي جاء أول مرة بالكرة، يكون أكثرَنا استعدادا للعب، أو قد يأتي ومعه رهط مجهّز من اللاعبين، أربعة أو خمسة من إخوته وأقاربه، ينتعلون أحذية. ينقسمون في فريقين، وكلّ من يأتي ينضمّ إلى أحدهما. من سلمت قدمه المحتذية من الجرح لن يسلم صيمه العاري من الرضّ المؤلم. يكون الألم شديداً حين تأتيني في الخنصر الصّغيرة لإحدى قدميَ ضربة مفاجئة تعصر قلبي وتُزيح الأصبع من مكانها وتُفرّقها، مُتورّمةً، عن أخواتها. لا أشعر بالألم في المرة الأولى، لكنْ بتمدّد الوقت، يبدأ عمل الوخزات العنيفة. وفي الليل يكون الألم أشدّ. تربطها جدّتي بعد أن تلصق فيها رقعة من الكركم الحارّ. تُوزّع تلك الرّقع الصّفراء على بقع أخرى من قدمي وساقي ترى أنها تحتاج إلى علاج. لذلك سأرتدي طيلة يومين دشداشتي كي أخفي تلك الجراح. في تلك الفترة أصير حارساً للفريق، بسبب هذه الدشداشة والجراح المخفية. ثمّ بعد ذلك حين أتخلى عن دشداشتي وأذهب إلى الملعب بسروالي القصير والفانيلة المكتفة، أستطيع بعد وقفة قصيرة أن أعرف أيّ فريق ينقصه لاعب. وهكذا سيظلّ الفريقان يكبران ويزداد عددهما… وكلّ من يتعب منا سينسحب بصمت. وهكذا سيظلّ الفريقان ينقصان، إلى أن تخلو الساحة. حينئذ حتى الغبار المثار الذي كان يلهو معنا يهمد ويستريح.
عدا كرة القدم نلعب ألعاباً أخرى، بحسب عدد اللاعبين.. لو كنا ثلاثة تكون اللعبة الأنسب هي “البيلوة”. سنرسم مربّعات في الأرض نقفز فوقها؛ أو “المديسوة”، وحينئذ سنركض لنختبئ بين الزّرع العالي. أتصنّع النوم في تلك الفرشة الخضراء، إلى أن ينكشف أمري، فيعلو الصراخ ويُستأنف الركض والاختباء. وحين يكون العدد اثنين فإن اللعبة الأقرب هي صيد الجراد… نُكوّر أيادينا ونُسقطها مثل ظلّ كبير على الجرادة السّاهية. نحفّ أجنحتها ونقطع رافعاتها الشوكية ونودعها جيوبنا، أو نذهب لاصطياد العصافير إذا وجد أحدنا نشابا معلقا في نخلة، نستعيره بصمت ثمّ نعيده إلى مكانه حين ننتهي. وبعد أن نُسقط عدّة عصافير من على أغصان الأشجار، نقتسم غنيمتنا ويذهب كل منا إلى بيته. هناك ستُشوى وتقدّم أفخاذها وصدورها الساخنة لكلّ من رغب في أكلها ممّن في البيت. لا تُراعَى في هذه الحالات مواعد الطعام المألوفة.
لن يتحول اللعب إلى جِدّ إلا حين أكون وحيداً أو في الكُتّاب لحفظ القرآن. عصا المُعلّم الطويلة تجعل حركاتنا جامدة، لكنْ متوثبة للضّحك والانفجار بالصّراخ فور خروجه لقضاء حاجة، أو عندما يدخل أحد الكبار للحديث معه. حينئذ، يتركنا نصرخ كأنما ليغطي عن أسماعنا حديث الزّائر، الذي لن يحتاج إلى أن يحني رأسه على أذن المعلم، حتى وإن كان يهمس له بسرّ، فصراخنا المستفزّ يجعل نفاذ أية كلمة من حوارهما إلى أسماعنا مستحيلا. وما إن يخرج الضّيف حتى نعرف تلقائياً أن فسحة الصّراخ قد أُغلقت وحان وقت الصّمت والاستماع.
نزل جدّي بعد أن وضع كتابه في المرفع الخشبي وصعدت لأضع القنديل بقربه. حين وطأت قدماه الأرض خطا فوق قنطرة الفلج، ثمّ استدار وغطس رجليه في الماء وشرع يتوضأ. سيصعد بعد ذلك درجات السلّم مرة أخرى ليؤذن للعشاء الأخير، ثمّ سيجلس منتظرا دخول مُصلّين. في أحيان كثيرة لا يحضر غيرنا. أتركه بعد الصّلاة ساعة ليقرأ وأعود إلى البيت.
وحين تنتهي جدّتي من إعداد العشاء، سأعود إلى المسجد لأحمل القنديل عنه. سننام بعد الطعام في باحة البيت، جدّي فوق سريره المرتفع ثلثَ متر عن الأرض، وأنا فوق فرشة مبسوطة على الأرض. تظلّ عيناي مفتوحتين في الظلام، ثمّ لا أشعر بشيء بعد ذلك إلا والصّباح قد ملأ المكان. لم يرَ جدّي ذلك الصّباح…
*****
خاص بأوكسجين