الطيني الصغير ومونيكا بيلوتشي
العدد 147 | 09 آذار 2014
حازم شحادة


     نفضت التراب عن جسدي ونهضت، لكن ما رأيته أوقعني أرضاً مرة ثانية، وأحسب أن رأسي ارتطم بحافة حجر رخامي، الأمر الذي تسبب لي بغيبوبة لم أفق منها إلا على وقع صوت قوي ينادي: انهض.. حازم انهض!

     تحسست مكان الضربة وأنا أنهض من جديد، الدماء غطت وجهي، برد، كنت عارياً تماماً، وملايين الناس من حولي كانوا عراة أيضاً، غيم أسود في الأفق وريح هوجاء، استغربت كيف  نستطيع الوقوف جميعنا رغم قوتها؟

   ألقيت نظرة على الرخام الذي ارتطم به رأسي “هنا يرقد الكاتب السوري حازم شحادة” لم يكن ذلك الحجر سوى قبري، ونظراً للبرد الشديد الذي شعرت به حسبت أنه كان دافئاً.

  جموع من ملايين البشر تقف وكأن الطير على رأسها. صراخ ونحيب، وجوم يلف الوجوه، أشجار عارية هي الأخرى تتوزع هنا وهناك. في البعيد غطى الضباب أشكال البشر، وكائنات خرافية بأجنحة عظيمة تحلق فوقنا كأنها تحصي أعدادنا للتأكد إن كان من أحد قد نسي “النهوض”.

في غير هذه المناسبة كان ليسعدني أن أرى هذا الكم من أجساد النساء العارية، لكن الطقس العام غير موات للتفكير بهذه الأمور الآن.

صرخ أحدهم باسمي بصوت اهتزت له الأرض ومادت، ثم قال: تقدّم! اللعنة إلى أين سأتقدم؟ أنا لا أرى نهاية لقطعة الأرض التي أقف عليها، وهذه الأجساد المتلاصقة لن تسمح لي بالمرور، لكن وبأعجوبة لم أشهد لها مثيلاً، ومن دون أي إرادة مني رحت أسير وأخترق الأجساد بسرعة لا تصدق.

  كم أنا صغير أمام هذا الكرسي الذي أمامي، لكني لا أرى من يجلس عليه،فظهر الكرسي هو ما كان باتجاهي وهذه المخلوقات العجيبة بأجنحة خرافية تحوم حوله وكأنها تنتظر أمراً ما. تكلم الجالس بصوت لا أستطيع وصفه لشدة نقائه وثباته وقال: ما الذي فعلته يا صغيري؟

توقعت لهول وعظمة المسافة بيني وبين أعلى الكرسي أن أحداً لن يسمع ما سأقوله فصرخت بأعلى صوتي: ماذا فعلت بماذا؟

ـ بحياتك.. ماذ ا فعلت بحياتك؟

في الحقيقة منذ اللحظة التي نهضت فيها من القبر لم تتح لي الفرصة كي أفكر بمثل هذا السؤال.. فقد كان المنظر الأولي لمليارات البشر مهيباً إلى حد كبير، والضربة على رأسي فعلت فعلها أيضاً، ماذا فعلت في حياتي؟ وكومضة مرت أمام عيني تلك الحياة فقلت: لقد فعلت أموراً عديدة! أتريدني أن أعدها بالتفصيل أم تكفي إطلالة عامة؟

ـ بالتفصيل الممل.. فأنا أعلم كل ما فعلته.

ـ طالما تعلم كل ما فعلته فلماذا تريدني أن أذكر لك بالتفصيل الممل ماذا فعلت؟

رفرفت المخلوقات الخرافية بأجنحتها فضربتني الريح العاتية المتأتية من الأجنحة. ربما طرت آلاف الكيلومترات ولأن لا قوانين للفيزياء في هذا المكان وجدت نفسي أني ما زلت واقفاً في نفس المكان. اقترب مني أحد هذه المخلوقات حتى استطعت أن أشم رائحته العطرة وقال: إياك أن تتذاكى أيها الأحمق.. ألا تعلم إلى من تتحدث؟

ـ لم أكن أتذاكى.. أجبت.  هو قال لي إنه يعلم كل شيء فعلته فلماذا يريدني أن أكرر ما يعلمه؟ ثم التفت خلفي ورحت أنظر يميناً وشمالاً على الجموع البشرية، وعلى الرغم من أن ملامح هذه المخلوقات لا تدل على أي من المشاعر التي نشعر بها نحن البشر إلا أنني حسبت هذا الكائن قد غضب جراء تلفتي ونهرني قائلاً: أأحدثك في أمر جلل وأنت تلتفت يميناً وشمالاً في حضرته! لا تمتحن صبري أيها الطيني الصغير؟

  أعجبني مصطلح “الطيني الصغير” فلطالما عبر عن عقدة النقص التي تشعر بها هذه الكائنات تجاهنا حيث لم يشفع لها النور الذي صنعت منه ففضلنا عليها وأمرها بالسجود لجدنا “عاشق التفاح” الأول، الرجل العظيم الذي تسبب في تقليعنا من فردوس الخالدين وترك أنهار الخمر واللبن والعسل من أجل تفاحة.. أرغب حقاً في رؤية هذه التفاحة التي شرشحت الجنس البشري عشرات الآلاف من السنين.

  طبعاً ألا أتكلم فهذا لا يعني أنه لا يعلم ما أفكر به، لكن على غير المتوقع، وبعد كل الأجواء المشحونة منذ عملية “النهوض” خيّل إلي أن ضحكاً صدر من هناك في الأعلى، فضحك الأتباع مباشرة من دون أي سؤال.

  اطمأنيت ورحت أتلفت يميناً وشمالاً ووراء ظهري، فعاد الكائن ذو الجناحين العظيمين وقال لي: أأنت متخلف عقلياً أيها الأحمق؟ إلام تنظر وأنت في هذه المعمعة التي ستحدد تاريخك القادم كله إن كان في النعيم أم في الجحيم؟ حتى أن زملاءه راحوا يتساءلون ذات التساؤل، وخلفي راحت تتعالى أصوات البشر مستنكرة طول فترة المحاكمة فقد أرهقها الانتظار.

تحدث الصوت العظيم وقال: قل لهم عما تبحث؟

قلت للكائن الأسطوري: فكرت إنها مناسبة طيبة أن أرى مونيكا بيللوتشي وهي عارية وجهاً لوجه، وأنا أتلفت يميناً وشمالأً علني أراها ضمن الجموع التي خلفي. فزمجر الكائن زمجرة ثقبت طبلة أذني وراح يتهدد ويتوعد.. كيف تسمح لنفسك أيها التافه أن تفكر بامرأة وأنت أمام مصيرك؟

قلت له: في الحقيقة يا صديقي المخلوق، لطالما كانت المرأة مصيري في حياتي، ولا أرى مانعأً أن تكون مصيري هنا، أراك قادراً على فعل أمور عديدة ألا تستطيع إحضارها إلى هنا قليلاً؟

ارتفع صوت الصراخ من قبل الجميع، ومليارات تنتظر. المشهد غير واضح تماماً، حتى أن الصوت العظيم ما عاد للحديث مجدداً. حدث هرج ومرج غريبين،راحت الجموع تتدافع كل يريد أن يحصل على حصته من الجنة، بينما كنت في ذلك الوقت قد دخلت بين هذه الجموع ورحت أتحسس أرداف النساء ما استطعت إليها سبيلاً، لكن صوتاً صارخاً عاد مجدداً يقول: حازم انهض.. انهض.

_____________________________

شاعر وكاتب سوري

الصورة لفنان الغرافيك الإيراني رضا عابديني

*****

خاص بأوكسجين