الشيخ والحاكم
العدد 277 | 25 نيسان 2023
طارق عباس زبارة


 

“يا للفضيحة! حتى في موتك تسبب لنا المشاكل! لماذا لم تختر مكاناً آخر لتموت فيه؟” فكر القنصل في نفسه عندما تلقى من الشرطة خبر موت الشيخ عبد الحميد الزرقاني.

كان الشيخ الزرقاني داعية مشهورا، ذا نفوذ قوي في البلاد، ليس فقط في المساجد؛ بل وعبر حزبه الذي كان يرأسه منذ تأسيسه في الثمانينات. حاكم البلاد يكره الزرقاني، القنصل يعرف هذا جيدًا، يعرف أيضاً أن الحاكم يتمنى أن يتخلص من الزرقاني أو يقلل من نفوذه، لكنه لم ينجح في ذلك؛ على العكس: اضطر الحاكم مرارًا أن يلجأ إلى الداعية وحزبه ليتخلص من التيارات السياسية الأخرى، حتى لم تبق في البلد من معارضة غير الزرقاني وجماعته.

فكَّر القنصل؛ كيف سيستقبلون في وزارة الخارجية خبر موت عدو الحاكم اللدود، وقد مات في ذلك المكان المحرج، حتماً سيشن الحاكم حملة إعلامية قاصفة على سمعة الشيخ ومن ثم يضعف نفوذ حزبه، لكنه عندما نقل الخبر للسفير لاحظ توترا شديدا في صوته. أمر السفير القنصل أن يكتم الحدث تماماً، قال له إنه يعرض نفسه والبلاد للخطر إذا عرفوا أنه هو من نشر الخبر.

قال له: “يبدو أنك نسيت حقيقة البلاد! هذا حزب قوي، وأكثر من نصف سكان البلاد مستعدون للقتال من أجل الزرقاني، سيتهمونك بالكفر والإلحاد، سيحلون دمك، سيقولون إنك أنت من قتله بأمر من الحاكم ولفقت له هذه التهمة الأخلاقية كي تشوه سمعته”.

ثم أضاف:” هل نسيت كم من ناس ماتوا في البلاد بعد أن كفرهم الزرقاني وحزبه؟!عشرات من رجال الدين على المذاهب الأخرى، ما بالك بالكُتاب والمثقفين، أنصحك بأن تبتعد عن الشر وتغني له، لا تتعب نفسك؛ سأتولى أنا الأمر بنفسي وسأبلغ الجهات المختصة، ما عليك إلا أن تتأكد من ألا يتسرب الخبر لأحد؛ لا في القنصلية عندك، ولا عبر الجالية من مواطنينا، سأسافر فورًا إليك.”

لم يكن القنصل قلقًا كثيرًا من تسرب الخبر إلى الصحافة المحلية؛ فلا أحد يعرف الشيخ الزرقاني هنا ولا صحفي سيكتب عنه، لكن الخطر يكمن في احتمال تسرب الخبر إن كان أحد من أبناء البلد قد شهدوا موته، في هذه الحالة سينتشر الخبر على أرض الوطن كالنار في الهشيم. استبعد القنصل هذا الاحتمال، فمن المستحيل أن يغامر الشيخ الديني هكذا ويذهب إلى ذاك المكان برفقة أحد، خاصة من أبناء بلده.

اتصل فورًا بالشرطة كي يخبرهم أن السفير شخصياً سيتولى القضية، كان رجل الشرطة على الهاتف يعرف القنصل جيدًا، قال له بسخرية: “لماذا لا ترفعون علم بلادكم على (كيتي كلوب) من كثرة زيارات مواطنيكم له؟ لهذه الدرجة أنتم مهووسون بنسائنا؟!”

لم يعجب القنصلَ تعليقُ ضابط الشرطة، أحس بالإهانة، لكنه لم يعرف بماذا يرد؛ فالكثير من مواطني البلاد يزورون هذا النادي الليلي المشهور ليجدوا هناك الجنس الذي لا يحصلون عليه على أرض الوطن. كم من مرة استُدعي القنصل بسبب إشكالات سببها المواطنون ذوو الجوازات الدبلوماسية أو الرسمية في هذا النادي الليلي.

ومع أن السفير طلب منه ألا يحرك ساكناً؛ إلا أن القنصل أراد أن يظهر حماسه الوظيفي، فقرر أن يذهب إلى المشرحة ليرى الجثمان.

***

رفع طبيب المشرحة الغطاء عن الجثة، لم يصدق القنصل ما رآه أمام عينيه؛ كانت الجثة تشبه الحاكم تماماً. نظر إلى الضابط وقال له: “هذا ليس الزرقاني.”

أجابه الضابط دون مبالاة: “حسب جوازه الدبلوماسي هو الزرقاني، وإن كنت تبحث عن اللحية فهي في كيس مع أغراضه الأخرى.”

“أتريد أن تقول إن الزرقاني كان يركّب لحية؟” سأل القنصل.

“نعم، انزاحت عندما حاولوا إنعاشه إثر نوبته القلبية.”

” إذًا الموت لم يسبقه عنف؟” سأل القنصل.

“لا، يبدو أنه مات بسبب نوبة قلبية أدت إلى سكتة.” أجابه الضابط ببرود.

“وهل كان وحده في النادي؟” سأل القنصل،” نعم، حسب أقوال عمال النادي كان يأتي دائماً لوحده ويستأجر إحدى الغرف المنفصلة ليخلو مع الفتيات هناك، كان يدفع مبالغ ضخمة، لذلك كان زبونا مفضلا عندهم” أردف الضابط مبتسماً.

“ومن يعرف عن موت الرجل؟” سأل القنصل.

“كل (كيتي كلوب)” قال الضابط، ثم سأل: “وهل هذا الكهل شخصية مهمة في بلادكم؟”

أجابه القنصل متهرباً: “نحن لا نريد أن تعرف أسرته أين مات، هذا كل ما في الأمر.”

هز الضابط رأسه متفهماً وقال: “لا تقلق، لا أحد مِمَّن يشتغلون في (كيتي كلوب) يهتم كثيراً بهويات الزائرين، يمكنكم أن تستلموا مواطنكم غداً في المساء بعد أن ننهي بعض الإجراءات.”

هز القنصل رأسه وانصرف ليعود الى القنصلية.

عندما وصل القنصل إلى مكتبه، كان السفير في انتظاره. لم يتوقع وصوله بهذه السرعة، أخبره السفير أنه صرح لجميع الموظفين أن يأخذوا إجازة لبقية اليوم. سأل السفير القنصل عن سبب تغيبه، أجاب القنصل أنه ذهب إلى المشرحة لاستعجال الإجراءات.

لم يكد يكمل كلامه حتى احمر وجه السفير من الغضب؛ صرخ في وجه القنصل قائلًا: “يا ابن الكلب يا حمار، ألم أقل لك ألا تحشر أنفك فيما لا يعنيك!!!”

اندهش القنصل من نوبة غضب مديره المفاجئة. نهض السفير وطلب من القنصل أن يتبعه الى غرفة الاجتماعات، تبع القنصل السفير وقد غلبه التوتر، لم يجرؤ أن ينبس بكلمه.

بعد أن دخلا إلى الغرفة، أغلقها السفير من الداخل بإحكام، سأل السفير: “هل رأيت الجثمان؟”. هز القنصل رأسه مجيبا بنعم. “وماذا رأيت؟” أضاف السفير بنبرة حادة.

حاول القنصل أن ينتقي كلماته كي لا يزيد من غضب مديره، تأتأ في الإجابة، قال: “كان الزرقاني يشبه……”.

“الحاكم!” تمم السفير الجملة، هز القنصل رأسه مرة أخرى مؤيدًا، نظر إليه السفير نظرة ساخرة، أخذ شهيقا وأطلق زفيرا ثم قال: “ألم أقل لك ألا تتدخل! لولا مكانة أسرتك في البلاد لما أرسلناك إلى هنا كقنصل ولا حتى كسائق، صدقني، أنت آخر من يستحق أن يعرف، لكننا الآن وصلنا إلى نقطة لا عودة منها فقد رأيت ما رأيت. ثم استقام في جلسته ونظر إلى القنصل بنظرة ثاقبة وأكمل: “الشيخ الزرقاني لا يشبه الحاكم فقط، بل هما نفس الشخص.”

نظر القنصل إلى السفير بعينين واسعتين وفم مفتوح، أراد أن يطرح عدة أسئلة على السفير، ولكن لم يخرج من فمه سوى كلمة: “كيف؟”

أطلق السفير زفيراً طويلاً ثم قال: “بلادنا وجيرانها في المنطقة يحكمها الثالوث المقدس: الله، الوطن، الحاكم. تختلف الصيغة طبعاً حسب نوع الحاكم: فالحكم الملكي يفضل كلمة الملك، والجمهوريون يفضلون الثورة أو الحزب أو شيئا من هذا القبيل كمحتوى في الشعار الثالث، لكن لا شيء خارج هذا الثالوث، الشعب يجب عليه أن يخاف: إما من الله أو من الحاكم أو من تهمة خيانة الوطن، الهيبة فقط هي التي قادتنا عبر القرون وستقودنا دائماً إلى الأمام.”

أخذ السفير رشفة من الماء أمامه ثم استطرد: “لذلك كان لا بد من أن يُسد الفراغ الذي تركته المعارضة بعد أن أنهاها الحاكم بحنكته السياسية، كان يجب أن نجد بديلا مقبولا من الشعب لهؤلاء السذج الذين ظنوا أن التمركز حول حقوق الفرد وحرية الفكر ستفيد البلاد، والزرقاني وحزبه هم المعارضة التي يستطيع الحاكم السيطرة عليها دون أن تخرج من إطار ما يمكن أن يتحكم فيه.”

استمع القنصل إلى ما قاله السفير، لم يسمع أحداً من قبل يتكلم بهذه الصراحة، دون أن يزين كلماته بشعارات وطنية أو دينية، سأل القنصل: “ولكن ماذا سنفعل الآن؟ فقد مات الحاكم، من سيتولى محله؟”.

نظر إليه السفير بنظرة فوقية ثم أجابه: “من قال لك إن الحاكم مات؟ لقد ماتت نسخة منه لا غير.”

 بعد بضعة أيام سيقوم ابنه باستلام الحكم وسيتبع خطى والده، قد يغير أثاث القصر وبعض الوزراء، لكن النظام لن يمس أبداً” أجاب السفير.

“وكيف سيقبل الشعب موت الزرقاني والحاكم في نفس اللحظة؟” استفسر القنصل.

“لن يعرف الشعب إلا ما سيقدم له الحاكم من حكاية، الأرجح أن الحاكم الجديد سيتهم الزرقاني بقتل الحاكم السابق ويعلن هروب الزرقاني إلى كهوف تورا بورا أو إلى أدغال البرازيل، قد يساعدنا الأمريكان في القضاء على حزب الزرقاني، أو قد يوافق الحاكم الجديد أن يربي لحية ويرأس الحزب علناً ويعلن الدولة دينية، إن كان هذا هو الأنسب، أو قد ينشرون خبر موت الزرقاني في نادٍ ليلي بينما ينشرون خبر موت الحاكم في وقت آخر. ليس في نادٍ ليلي بالطبع، لكن وهو يضع حجر الأساس لدار أيتام، سد، مشروع تنموي، أو خراء آخر يرضي الجماهير، كل هذه الاحتمالات يجب أن تدرس بإتقان من المخابرات، كي يتم بعد ذلك اختيار الأفضل.”

“وماذا علينا الآن أن نفعل؟” سأل القنصل بحماس.

 “اذهب إلى الخزانة هذه وأحضر منها ورقا، لنكتب محضرا بما حدث، الباقي ستتولاه المخابرات”. نهض القنصل فوراً متجهاً إلى الخزانة، لم يلحظ أن السفير قد أخرج من حقيبته مسدساً مزوداً بكاتم صوت، وبعد طلقتين في ظهره وقع القنصل على الأرض ميتاً. وضع السفير المسدس في الحقيبة وأخرج منها قلما وأوراقا وبدأ يفكر فيما سينقله من بيان إلى العاصمة.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من اليمن مقيم في ألمانيا.