وصلتُ المدينة فجراً، كنتُ قد سمعتُ أنها هُنا، مكانٌ لا أعرفه، في زاويةٍ قريبةٍ جلسَ بشرٌ، اقتربتُ أسألهم، فتحوا أفواههم معاً، كانوا دون ألسِنة، أفواهٌ فارغةٌ ككهوف صيفية، حاولوا أن يحكوا، وأنا حاولتُ أن أسمع.. امرأةٌ ثلاثينية تُغطي نصف وجهِها أخذت يدي في يدها، وأشارت باصبعي باتجاه الشمال، هُناك إذاً يمكنُ أن أعثُر عليها.. مضيتُ في الطريق مُستغرباً، لماذا لم تُشر المرأةُ بيدِها!! الشمال شمالٌ بكل الأصابع..
كُنا قد اختلفنا على تفاصيل يومية، هي مُتمسكة برغبة أن تكون ملكة وتسيِّرَ الأمور بطريقتِها، مشاكل مُستمرة ورعب. كانت تُصّرُ على ربط الليمون بشرائط حمراء قبل وضعه في البراد، في الليل يجب أن يبقى مقصٌ مفتوحٌ مرمياً على السرير، وقبل أن نخرج ترمي نقوداً على أرضية الدار.. لسنوات طويلة كانت الحياة قلقاً مُطلقاً، وحرباً.. تقاتلنا، هي كانت أقوى، روضتني جيداً، كانت -كُلما غضبتْ عليّ- شقتْ ورقةً من كِتاب أحبُّه، مرةً انتقمتُ منها، سقيتُ وردتها الصفراء قهوةً، ماتت الوردة، في الفجر التالي استيقظتُ على دُخانٍ يملأُ البيت كُله، أحرقتْ كُل المكتبة..
لم أستطع البقاء، ولم أملك مكاناً آخر أذهبُ إليه، قررتُ، هي يجبُ أن تُغادر.. الحيلُ والدسائس، التآمر مع الأقرباء والجيران، ربما انهزمتْ، أو تَعِبتْ، غادرتْ في النهاية.. لاحقاً، حين جلستُ لسنةٍ على الكُرسي نفسه، عرفتُ إني هُزِمتُ أيضاً..
في المدينةِ الغريبة سِرتُ شمالاً، بلغتُ هضبةً تُطلُّ على الأرض كُلِّها، خلفي في البعيد أرى البشر الجالسين دون ألسِنة بينهم المرأةُ التي دلَّتني، أمامي في البعيد أرى البشر الجالسين دون ألسنة بينهم المرأة التي دلَّتني، كأنني صفحةُ المرآة، التفاصيل مُتطابقةٌ في الاتجاهين، وعليَّ أن أمضي أكثر، جئتُ باحثاً ولن أعود وحدي، أكملتُ السير.
حين كانت صغيرة دخلت قِطةٌ سوداء إلى منزلهم، قِطةٌ مُسلية وقريبةً من القلب، لم تعترض الأم ولم يبالِ الأب. ولأنهما وحيدتان تَآلفتا.. قِطة سوداء وفتاةٌ طويلة، في تلك الأيام لم يكن البشرُ يصادِقون الحيوانات، كان منظرُهما مُستقبلياً كفكرة القيامة، ربما أغرب قليلاً..
في مساء عادي، رأتها تحت الدرج مُضرجة، أحدهم قطع أُذني القطة، ماتت القِطة في نفس الليلة، ولأن اللعنة يجب أن تكتمل مات والدا الفتاة في الصباح التالي باستنشاق هواءٍ أصفرٍ ثقيل..
قابلتُها وهي تحملُ كُلَّ هذه الخسارات في دماغِها، ولم أفهم..
وصلتُ إلى نُسخةِ البشر الجالسين دون ألسنة، كل شيء في مكانه، المرأةُ الثلاثينية شدّت على أصابعي أكثر، ودلّتني إلى الشمال مُجدداً، حاولتُ أن أشرح: ذهبتُ وأعادني الطريق. لم تسمع.. ثمة رجاءٌ في عيونها يطلبُ مني أن أُكمِل، ثمّة خوف أيضاً، الخوف الموجود في كل رجاء.
لم أعمل بالنصيحة، عند أول مُفترقٍ انحرفتُ، “اليسار دائماً على خطأ” يُقولون.
المكانُ الذي وصلته عاديٌ ومكتظ ويصلح مكاناً لِلقاء.. كالعادة لم أعرف أحداً.
قطعَ طِفلٌ الشارع باتجاهي، من الرصيف إلى الرصيف، كان وسيماً ويربُط شريطاً أحمر على رقبته، ظننتُه يحمل سكاكر أو ألعاباً، لكنه باغتني بِلمعة سكينه، فكرتُ: سيقطع لِساني. ولم يفعل، رفع السكين عالياً ثم هوى، بدا واضِحاً إنه لا يُجيدُ الضرب بالسكين، شخصٌ ما أرسلهُ ليقتلني، لكن من ولماذا؟؟ في هذا المكان الغريب لا أعداء لي إلا الطيور التي بصقتُ عليها لأنها لم تكترث لمروري.
كان مساءً، لم ينتبه كُلُّ المارة لجسدي المُلقى على الأرض، رأيتُ الدم يسيل باتجاه مصرف مياه عَلِقتْ عليه قِطعتا نقود، لم أتألم، لكن الجرح كان يحكُني جداً، ولم أعرف مكانه..
حدث هذا منذُ زمنٍ بعيد، في الأيام التي كان الجنوب فيها أبردَ من الشمال، كُنتُ عجوزاً، أبحثُ عنكِ في مدينة غريبة، وقتلني طفلٌ يحملُ سكيناً تلمع..
________________________________________
كاتب من سورية
الصورة من أعمال الفنان التشكيلي السوري طلال معلّا
*****
خاص بأوكسجين