لا يمكن أن يخلو شاعرٌ حقيقي من خفة النزق وحُمق التهوّر، لا يمكن أن يخلو شاعرٌ صادق من ذلك الصدام العميق مع الحياة وفيها، مع كل جمالها وقبحها، مع كل صوابها وأخطائها، وأن يعيش شاعرٌ حقيقي وصادق في مثل هذا الزمن (ما بعد 2011) يعني أن يرتطم طبيعياً، ويومياً، وفي كل لحظة، بكل القبح الذي قد يتمثل في الحرب، في الموت، في الزيف، في الوهم، وأن يرتطم كذلك بكل الجمال الذي هو الآخر حاضر بأبهى صوره، في الثورة، والحب، والنزاهة. يا للشعراء، أنتم محاصرون الآن.
أظن أن هذه المرحلة هي أصعب المراحل التي يمرّ بها الشعر والشعراء في العالم على مرّ الأزمنة، هذا عصر مختلف بكل ما فيه، بقيمه الصريحة والناهضة وقيمه المتهدمة والطللية، بمعارفه الدخانية التي تحيط بنا، وبجهله الغازي الذي يخنق الجميع، الشعراء يسبحون في فضاء هيولي لا جاذبية فيه، فضاء أبيض تماماً، لا علامات فيه ولا إشارات، لا شيء فيه يدلّ على معنى، ولا رمز فيه يشير إلى مفهوم، لكنهم مثقلين بكل ما في روح الشاعر من توق إلى (المثال)، من رغبة بل قل من شهوة إلى الجمال، ومن رفضٍ ومجالدة للقبح، وعليه وهو بهذا العبء أن يدرك طريقه، وأن يفسّر علاماته.
الشعراء مساكين هذا الزمن، في عالمنا العربي خصوصاً، الشعراء مساكين هذا الوقت الملعون، ممتلئون بالنقائض، حينما العالم يحتفي بالأحادية، جاهلون ومرتبكون وغير متيقنين، فيما تقام معابد وتهدم أخرى، وآلهة تعلو وتسقّط أخرى، عميان لا يبصرون غير نور خفيف من خلف قماشة الأسئلة، إذ الجميع يدّعون رؤية الحقيقة، وتلمسها، وتحسسها. من أكثر منهم نحساً، الشعراء، وهم يصارعون رغبة الموت، ورغبة الحياة، اللتين تقلبان أرواحهم الموجوعة، في زمنٍ ما عاد الموت فيه اختياراً، ولا الحياة خياراً.
في أزمان أخرى كان الشاعر حين يكتب شعراً فكأنه يتمشى في مدنٍ، لها شوارعها وطرقها، أزقتها وحاراتها، بيوتها ودكاكينها، وكان يستدل على طريقه بكل يسر عبر كل تلك الإشارات، كان إن أراد مكاناً يقدر على الوصول إليه، ولم تكن هناك قوانين تمنعه، ولا معرفة تحجزه، في أزمانٍ كانت الأفكار واضحة وصريحة، تدلّ وتؤكد على، تحلم وتعتقد بقدرتها، وما كان على الإنسان (الشاعر) إلا اتباع هذه الأحلام.
أما اليوم، فهو يمشي في صحراء بيضاء، كل شيء فيها متشابه، كل شيء فيها وهمي (أو هكذا يُصوّر ويتراءى)، إنه يسير على شفرة بين الموت والحياة، بين الجميل والقبيح، بين الحقيقي والوهمي، بين الحرب والحرية، ومع هذا فإنه محكوم بمعرفة كل شيء، بسقوط أشياء ونهوض أخرى، الشاعر وهو يطل على العالم اليوم، ويرى كل هذا الخراب، والدمار، الاستبداد، والعبودية، يعرف تماماً أن ملجأه الوحيد هو الجمال، لكن لا يمكنه أن يذهب إليه، إنه بعيد.. بعيد كالحلم، بعيد كالوهم.
مع سقوط (أو توهم سقوط) النظريات الثورية والإيديولوجيا (الجماعية) ونهوض نظريات أكثر فردانية، أكثر نفعية تتمثل في الليبرالية الجديدة والعولمة التي تضع الفرد داخل المجتمعات الحديثة في العالم في عزلة التشابه أي في بقاء الفرد معزولاً عن الآخرين بحكم انتفاء صفة الآخرية عن الآخرين أنفسهم، فكل فرد في هذا العالم صار تقريباً -أو يُراد له أن يصير- نسخة عَرَضية من مئات الملايين من النسخ من الكائن الجديد في هذا العصر، الكائن (المستهلك). مع هذا التحوّل وجد الشاعر نفسه أمام حلم كان يطمح إليه (العزلة الكاملة)، صار بإمكانه أن يكون ما يريده، كائناً منعزلاً يكتب قصيدته شديدة الذاتية، ويرتكز عليها في حياته الجديدة البسيطة. ساعده في ذلك عدد من المفاهيم التي رسّخت هذه العزلة ونظّرت لها، مثل البرناسية (الفن للفن) والذاتية وثقافة الحداثة البعدية، البنيوية والتفكيكية وغيرها، صار متحرراً من القصد أو المعنى، من الفكرة والغرض، لكن ذلك لم يساعده، لم يجعله حراً بالفعل، صار السؤال الأبرز لديه (هل الحرية في أن تفعل ما تريد؟ أو أن لا تفعل ما لا تريد؟) لقد كفّت هذه المقولات يد الشاعر عن الحلم، وماذا يتبقى لديه إذن؟
الآن في ما بعد 2011، يفيق الشاعر العربي (أو يفترض به أن يفيق) على سؤاله عن دوره، عن جدواه ومكانته، إنها لحظة اصطدامه الهائلة بكل مقولات النصف الثاني من القرن الماضي الفنية التي آمن بها، أو تلك التي كفر بها، الآن عليه أن يعيد ترتيب أولوياته، هل يظل مخلصاً للقصيدة، أو مخلصاً للحلم؟ للشاعر فيه أو لما يجعل الشاعر شاعراً؟ وهكذا يظل يسبح في هذا الماء الكوني اللزج، يجدّف مرة يميناً فينحرف نحو اليسار، أو يساراً فينحرف نحو اليمين.
وأنا أظن أن تلك الخفة وذلك النزق المفترض، هما ما يُراهن عليه في الشاعر الآن حقاً، إذ هل يمكن أن يرفض الشاعر كل هذه العزلة الممنوحة له؟ كل هذه الذاتية الرخوة والخصبة والمنتجة ليتجه نحو تأكيد وجوده ضمن مجموعة، لا ضمنها بمعنى متماشياً معها، بل الضمن بمعناه الأهم وهو المعدّل، ذلك (الجين) الذي يؤدي وظيفته ليطوّر ويحرف وينبه ويقوّم الجسد ككل؟ في ظني أن ذلك النزق هو ما سيعود بالشاعر باتجاه هذه الوظيفة الأساسية له، أن يكون (من الناس) وليس معزولاً عنهم كما ترّغبه في ذلك إيقاعات الزمن الراهن.
لشدّ ما نجحوا حقاً في إخضاعنا، نحن الحيوانات الهجينة، الكائنات البشرية ذوات الأرقام الاستهلاكية، كلما مررت بأحد مهما بدا لك واعياً وتحسسته بالسؤال عن حلمه يقول بيقين الببغاء (أريد أن أطور نفسي) لا أحد يحلم بدفع المساحة من حوله، لا أحد يؤمن بأنه قادر أو يستطيع، لشدّ ما نجحوا في جعلنا ملهاة أنفسنا. نحن التروس التي تدور بحدّة لتقضي على أي مستقبل كان يمكن أن يكون لنا. وما من أملٍ إلا في أن نعي جميعاً، وأولنا الشعراء أن لا حياة خارج كوننا أجزاء من المجتمعات البشرية، لذا فإن على الشاعر أن يساهم الآن، بعيداً عن كل أحلام العزلة الوهمية التي اصطفاها وعاشها خلال العقود الماضية أن يساهم في بناء مدينته، ليخرج من مشيمة الهيولى الوهمية إلى أفق ورحابة العيش في عالم حقيقي.
*****
خاص بأوكسجين