الزيارة العجيبة لبرج القاهرة
العدد 266 | 01 آب 2021
مروان عثمان


 لم أدرك مُسبقًا أن زيارة خاطفة لبرج القاهرة الموجود في الجزيرة الواقعة في وسط نهر النيل قد تحتاج لكل هذه الإجراءات الأمنية التي تُعادل إجراءات دخول بعض الدول الأخرى.

لكن ليس هذا بغريب على مصر التي قد تشهد ظهور فحوصات أمنية ضرورية لعبور إشارات المرور فيما بعد.

 الغريب حقًا في تلك الإجراءات أنها لم يخضع لها سواي.

  فقد سبقني في الدخول شاب وفتاة بديا في علاقة فيما بينهما من تلك العلاقات التي تتخطى الصداقة وتسبق الزواج، ولم يزعجهما أحد كما أُزعجت.

لعلهم امتلكوا بعض التفاهم الذي يدفعهم لعدم مضايقة المُحبين، أو ربما أقروا قاعدة ما بذلك في شرطة السياحة، ولم تصل إلينا بعد.

 ولن أشكو عدم معاملتي بالمثل بكل تأكيد، لأن لا شيء سيجعلني سعيدًا في رؤية وجهيهما مُكدرين!

 في البداية، ذهبت لشباك التذاكر وقلت للبائع وابتسامة تعلو وجهي:

-تذكرة من فضلك.

 لم يبادلني الابتسام، لعل خطبًا ما يضايقه، لعلهم حسموا مبلغًا من راتبه جعله متجهمًا بهذا الشكل، لا بأس.

 تساءل باستنكار:

-تذكرة واحدة؟

قلت بتأكيد:

-آه.

 ناولني التذكرة ونسى أن يتمنى لي وقتًا ممتعًا، لم ينس حتى مأساته الإغريقية ولو لثوان ليبتسم في وجهي ابتسامة أخيرة أتذكره بها، ابتسامة لن يلحظها أحد ممن يحاول فرض التوتر في علاقته معهم.

 توجهت إلى بوابة البرج، وأخرجت التذكرة لفرد الأمن الذي علق قائلًا عندما رآها:

-وحدك؟

-أجل.

-بطاقتك الشخصية لو سمحت.

 استغربت طلبه وكأني في كمين أمني ولستُ على بوابة منشأة سياحية، لكن سبقتني يدي إلى محفظتي قبل أن أعبر له عن استغرابي، وناولته البطاقة.

تفحصها مليًا، وقلبها على جهتها الأخرى، ثم عاد لوجهها، وحدّق بي بإمعان.

 نادى الضابط الواقف على مقربة مني ومنه:

-يا مهاب بيه..

تطلع إليه الضابط، فتابع موجهًا حديثه إليه:

-تعالى شوف دي كدا بعد إذنك.

وناوله البطاقة وهو يقول:

-مهندس.

نظر إليها الضابط مليًا، وقال موجهًا حديثه إليّ:

-انت جاي هنا لوحدك يا أحمد؟

نظرت حولي لأتأكد أنه يخاطبني، ثم هززت رأسي وقلت:

-آه.

أردف الضابط:

-وجاي تعمل ايه؟!

 رددت بتلعثم من يدافع عن نفسه محاولًا نفي تهمة ما أُلصقت به:

-مفيش حاجة، النهار ده يوم إجازتي والجو حلو، قلت فرصة أجي أشوف البرج، مجيتوش قبل كدا.

هز رأسه وكأنه توقع إجابتي مسبقًا، ونادى:

-يا عبد الرحيم.

فجاء عسكري مسرعًا يقول:

-تمام يا فندم.

 كنت في انتظار أوامره بإلقاء القبض عليّ ووضع الكلابشات في يديّ، وأغمضت عينيّ في انتظار مرور كل هذا بسرعة خاطفة، لكنه قال بكل بساطة:

-الباشمهندس جاي يتفسح في البرج، خليك معاه.

وقال الآخر وكأنه فهم تمامًا المهمة الموكلة إليه:

-تمام يا فندم.

 أما أنا بدوري فشعرت بغرابة تامة، وحتى لا أكذب، ببعض الأهمية المفاجئة، من كون أحد أفراد الأمن الرسميين يسير خلفي، وحاولت التظاهر بنسيان كل هذا عندما قال لي الضابط:

-تفضل، اصعد.

 وركبت المصعد ومن خلفي عبد الرحيم وكأني في مهمة دبلوماسية حساسة.

 واصل الجميع التحديق بي، حتى السياح في أعلى البرج استغربوا لهذا المنظر، تركوا القاهرة بجمالها وقبحها معًا، وأخذوا يحدقون إليّ بشكل مُلفت.

 كيف لا وعبد الرحيم يسير خلفي!

 لعل بعضهم جمح خياله وظنني محكومٌ عليه بالإعدام جاءوا به إلى هنا لتنفيذ طلبه الأخير بمشاهدة المدينة من علِ وتوجيه نظرة وداع أخيرة لائقة!

 لم تمر ساعة وأنهيت زيارتي للبرج، التي لم استمتع خلالها بلحظة واحدة! لعدة أسابيع لا أستطيع الوقوف عليها بشكل مناسب، أولها أني لم أستطع الاستمتاع بجمال النظر إلى القاهرة من هذا الارتفاع، وثانيها أني لم أملك جرأة طلب النظر في التليسكوب المثبت بسور البرج، حتى لا يحسبني الجندي جاسوسًا أحاول تدقيق النظر وحفظ المنظر جيدًا.

 وعدت أدراجي ألعن اللحظة التي فكرت فيها بزيارة البرج.

 لكني أخيرًا فهمت سبب كل تلك الإجراءات عندما كتبت هذا الموقف على صفحة فيسبوك خاصتي، وجاءتني تعليقات لآخرين فهمت من خلالها أنهم يتصرفون بهذه الطريقة منذ انتحار مهندس بالقفز من أعلى البرج منذ حوالي عام ونصف.

 ومنذ ذلك الحين وهم يرتابون بأي مهندس يهم بصعود البرج، خاصةً لو كان وحده دون رفيق أو صديق.

 ابتسمت وحمدت الله أن تلك الأفكار لم تراودني من قبل، وأني لم أفهم سبب كل ذلك، وإلا لأصابني الرعب.

 لكن بعد تصفح طويل لصفحات الانترنت، تعرفت من خلاله على قائمة أطول أبراج العالم التي يتصدرها برج خليفة الإماراتي، وتأتي في القائمة أبراج صينية وتايلاندية وأمريكية، وأخرى لم أسمع بها قبلًا كبرج الميلاد الإيراني، وبرج جوتشي الكوري الشمالي، بعد ذلك اكتشفت أنهم في صدد بناء برج جديد في العاصمة الإدارية الجديدة، ليكون الأطول في العالم.

 وتخيلت تكرار هذه الزيارة الجليلة مجددًا، مع مبالغاتٍ لكون البرج الجديد منشأة عالمية لن تتحمل أي نوع من الدعاية السلبية.

 فابتسمت، واستبعدت نهائيًا فكرة زيارة هذا البرج الجديد.

 

*****

خاص بأوكسجين

 


قاص ورائي من مصر. صدر له رواية بعنوان "حكاية سقطت من الزمن"" (2017)."