تضامنت بلدتنا مع ثورة الحجارة في فلسطين المحتلة، فخصصت أياماً دراسية كمهرجانات للخطابة، كسرت فيها الحماسة ما تبقى من مقاعد سليمة على رأس اسرائيل، التي دُرسنا كرهها عليها، وعند عودة جمهور الخطابة للمنازل كان على النساء كرم الله وجودهن معالجة مخرجات المهرجان من العرق والإجهاد، بصبر وتحامل على الذات.
رغم عدم التكافؤ بين روحنا المعنوية العالية والإمكانات المنخفضة، إلا أن حكماء البلدة وهم: إمام الجامع والمأذون ورئيس الشرطة، رأوا ضرورة العمل على شيء يشعرون من خلاله بدورهم التاريخي حيال الصراع الفلسطيني الصهيوني، كان ضروريا أن نشعر نحن حتى وإن لم يشعر بنا أحد أو لم يعلم بوجودنا في الكوكب نفسه، بسكان فلسطين المحتلة، المنهمكون في قذف الحجارة طيلة اليوم.
الحقيقة لم نكن نملك الكثير لتوظيفه لهذا الهدف، عدا مدرسة ابتدائية مشتركة وجامع يدعو على الكيان الاسرائيلي بالبلاء كل وقت، والسوق الشعبي المليء بعفن الخضار وأكوام الصناديق الخشبية وبذاءات الكلم، والذي كان متيسراً الحصول منه على الدعم بالبذاءات أكثر من الحصول على شيء من الصناديق لتكسيرها، حيث حذر أصحابها بأن كل صندوق سيكون برأس من يكسره.
من ثم صار الاكتفاء بحرق قميص أحد الشبان، مطبوع عليه علم أمريكا وإطار جرار قديم، أيسر من الدخول في معركة الرؤوس، الواقع يحتم عدم فتح جبهات أخرى مالم نتخلص من إسرائيل.
ثم اهتدى رئيس الشعبية لفكرة إقامة مارثون، وهي نفسها بلدتنا في تحديثها الحكومي الرابع (أطلقت عليها من قبل ثلاثة أسماء) ومع التحديث الجديد اتضح الاختلاف الكبير في الحكومات، حيث جاءت من الأخير فكرة المارثون.
وما المارثون؟
هو حفلة جري شعبية باسم فلسطين، يشارك فيها الجميع وينقلها التلفزيون الرسمي في نشرة الأخبار. من أي سيأتي مصور يصور بينما نحن نجري، وسيجري بالطبع معنا وإلا فإنه لن يجد ما يصوره، عدا قطعان الماعز هنا وهناك، نعم إنها فرصتنا لايصال صورتنا للعالم (غالباً في النشرة يكتمون الأصوات المصاحبة).
نُظِّم المارثون بمشاركة جميع أنواع الملابس والنعال، لم يكن هناك معلم محدد له، كان كل شيء حر ومسموح بانخراطه في المارثون في أي من مراحله، حتى نطق اسم مارثون الذي لم يكن سهلاً، كان ممكناً قوله في صور أخرى فاحشة أو غريبة !
إضافة إلى كلابنا المحلية الأليفة وغيرها من المخلوقات القادرة على العدو في البلدة، سيارات الشرطة، سيارات النجدة، وأربع أنواع من سيارات فروع أمنية أخرى، ثم كيلا ننسى الميت الذي حملته سيارة إسعاف كانت تعبر القرية وتشق طريقها بصعوبة وسط الناس، بدا إنها تشارك بضوئها في التسجيل التلفزيوني، لكنها في الواقع كانت تسلك طريقها الوحيد نحو قرية المتوفى، لمواراته الثرى هناك.
لم يكن في نيتها فلسطين على الإطلاق كما بينتها نشرة الأخبار، على عكس سيارة فولكسفاغن بيتيل، التي لم تظهر في النشرة، وتحركت بعد سنوات من السبات وكانت فلسطين صلب حركتها.
كانت إحدى معالم شارعنا، تنتصب أمام بيت الجيران على أربع لبنات من الطوب يدفن التراب نصفها السفلي، نزعت إطاراتها وكراسيها و تركت أبوابها مفتوحة للأولاد كي يستمتعوا بأحلام القيادة، ما نجم عنه، نزع طوبتي بناء من أحد أسوار المنازل المشيدة بنظام الكاتينه، واستعمالهما كرسي قيادة، وبالتالي اتساع دائرة المشاركة في الأحلام.
يوم المارثون، اضطر عمي عقيله للحفر تحتها وإخراجها من الوأد وتركيب عجلاتها وتزويدها ببعض الوقود، كان مضطراً لفعل ذلك، ففلسطين محتلة وتستحق، وأولاده أيضاً اشتدت عليهم شمس الظهيرة وخاف عليهم من ضربتها، جرت العادة أن يجروا فقط عند هروب أحد كباش الحاج حمد وسماعه يستنجد بهم، ما يصنف عدواً لمسافات قصيرة وليس مارثوناً، إذ غالباً ما يفشل الكبش البائس في اجتياز مرتفعات القمامة ويقع مرتداً على مطارديه.
قالت زوجة العم عقيله: هل أجلب لك أحد الكراسي؟
أجابها مستعجلاً: كلا لا يوجد وقت لتركيبه، المارثون يكاد ينتهي وعلي اللحاق به، سأقودها بالطوب، لا توجد مشكلة، فقط ساعديني في دفعها وغطي وجهك.
بعد سنوات وكانت القبلي لا تزل رياح التغيير الوحيدة التي تهب على بلدتنا، صدرت عدة قرارات حكومية جذرية استثنته وأقرت المارثون.
حدثنا فيما حدثنا العم عقيله عن تجربته مع الفولكسفاغن التي دخل بها تاريخ الصراع السياسي العربي الإسرائيلي، وقد كان الوقود أحدث مافيها، وأنه لم يكن يملك الدافع لزحزحتها من مكانها بحق، لولا دفع زوجته له من أجل الأبناء، حيث من وجهة نظرها لا ينبغي أن يموت أولادها من العدو في القبلي والحر بعد أن قاموا بالواجب تجاه فلسطين وكسروا مقاعد المدرسة، فيما اسرائيل تقبع هناك بكامل الراحة، إنه منطق لا يرضي الله.
أما المنطق الذي يرضي الله من وجهة نظرها أيضاً، هو أن ينقلهم والدهم في الفولكسفاغن إلى ما قبل خط النهاية ليكملوا من ثم العدو، لكن هذا المنطق لم يرضِ بقية الأهالي ممن وجدهم يكبون أولادهم من سياراتهم في الشوارع القريبة وتضايقوا من العادم الأسود للفولكس ومن صوتها المليء بالحشرجة.
شهدت الأزقة القريبة من خط النهاية – وليس مصادفة أن يكون نهاية البلدة نفسها – بعض العراك الأهلي: افتح الطريق! تحرك يابغل! لا تقف هنا.. أنا جئت قبلك.. لا تزمر احترم “المتارون”.. أبعد عادم الفولكس عني أكاد أموت.. واااه اهربوا جاءتكم الفولكس. وغير ذلك من الشتائم التي نالت شرف الألمان المصنعين.
صمدت الفولكس بيتيل، حتى وإن انبعثت الحرارة من محركها الخلفي و اقتلعت بابها، نزل الجار هادئاً أطفأ الحريق بمساعدة بعض أصحاب المروءة، ثم قادها على غير هدى، فالانبعاث الأسود حجب الرؤية تماماً.
فعلياً كان ذلك أول مارثون للسيارات القديمة في بلدتنا، تسببت به فلسطين المحتلة وقادته الفولكسفاغن بشجاعة ونبل (سيارة أهل الفائزين الأول والثاني والثالث) ولم يتوقف الناس عن إحيائه منذ تلك الشرارة الثورية للمحركات، رغم أن ثورة الحجارة انتهت إلى كونها طريقة مثلى في نقل الحجارة من مكان لمكان، واسرائيل كما هي بنت كلب لم يتغير منها طوبة، ويتقاطر عليها الدعاء صباحاً مساءً من الجامع.
أما على المستوى التقني، فالفولكس بيتيل مازلت تدرب أجيالاً من الناشئين على حلم القيادة واجتياز المستحيل، فيما الشركة الألمانية المصنعة طورت غشها بشأن نظام الأمان البيئي.
أما نحن فقد رقتنا الحكومة في إحدى تحديثاتها، من مستوى كمونة إلى مستوى دولة.
*****
خاص بأوكسجين