الخونة يفضلون الزيارة أثناء كوابيس الحُمى
العدد 215 | 04 تموز 2017
محمود عبد الدايم


كان سخيفاً.. بل أشد سخفاً من المرات السابقة، ضربني من الخلف، غضبي يتجاوز معدلاته الطبيعية عندما تأتي الضربة من ورائي.. خائن كان هذه المرة.. اعتدته يأتي من الأمام، يواجهني، فأغلبه، وأكون دائماً أنا الرابح.. لكنه هذه المرة أتقن فنون الحرب.. وجاء من ورائي..  قائمة الخونة قاربت على الامتلاء، أمي.. ذهبت للقاء ربها، فامتد بهما اللقاء ولم تأت حتى الآن، أبي الذي تركني لجدتي – أم أمي- تتولى تربيتي وتهذيبي وتعويضي غياب المرأة التي ذهبت إلى هناك، أشقائي.. إخوة يوسف الذين اتفقوا مع أبي بأنني لا أصلح إلا للبقاء فى حِجر الجدة.. الجدة هي الأخرى كانت خائنة، قبلت مهمة تربية الولد اليتيم لأنها ترى في عيونه العسلية الناعسة انعكاس صورة ابنتها الراحلة..هكذا أنا موعود بالأحبة الخونة.

الصداع.. كان أقوى هذه المرة، ضرب الرأس من الخلف، فى أيامنا الأولى سويا كنت أكتفي بتمرير يدي على مكان الألم، وأتجاهله دقائق عدة، فيجمع أشياءه ويرحل مخلفا وراءه خسائر لا تستحق أن تذكر، تزايدت دقائق تواجده فى الأيام الأخيرة، يبدو أن تمريرة اليد المعروقة لم تعد كافية، بدأت أشق طريقي إلى “مسكنات الألم”، أكرهها، لكن ضرباته الرتيبة الموجعة، جعلتني أتقبلها، ما هي إلا أسابيع عدة، وأصبحت لا أطيق الوجع، الضربات تزايدت حدتها، المسكنات رفعت راية الاستسلام، وارتضت بتجاهلي إياها، فهزمني الصداع.

قائمة الخونة.. أفلحت أخيراً في أن تكون مسكناً جيداً يصلح لتخفيف الألم، جاءت  أمي.. أخبرتها بالألم المستمر، حدثتها عن ساعات الليل المتأخرة التى أحصي دقائقها واحدة تلو الآخرى، بعدما أفشل في إغماض عيني، حدثتها عن الكوابيس المستمرة التي تلازمني، عن الأخطبوط الذي يجذبني إليه، أخبرتها أنه يحبني، أذرعه الثمانية تحتضني ولا توجعني، حدثتها عن السمكة الذهبية التي ترقد فوق رأسه ساكنة بلا حراك.. حدثتها عن كل أنواع الأسماك التى تطاردني أنا وأخطبوطي الحنون، وسمكتي الصامتة.

كساحرة القصص الخيالية.. كانت أمي جالسة جواري، لكنها ساحرة بلا عصا سحرية، أو نجوم تسقط من حولها، لامعة.. بل لذيذة اللمعان، بلا هالة نور تحيط بها، لكنها أمي، فلا حاجة لنجوم تلمع، أو أنوار تتلألأ، يكفي أنها هنا، حدثتني عن أيامها الأخيرة، عن “وجع الرأس”، الذى ألمّ بها في الأسابيع الأخيرة، عن كل الكوابيس التى تلاحقها.. رأيتها تبكي من الوجع.. انتحبت كثيراً، سرحت فى دموع أمي، أمسكت مؤخرة رأسي.. لكنني لم أبكِ.

التقطت أنفاسها.. وبلا مقدمات تذكر، وضعت كلتا يديها على رأسي، لم تمس أصابع أمي منطقة الوجع، لم تنظر أمي فى عيني، لكنها قالت: وجعك يوجعني.. تخلص من الألم يا بُني .. وجعك يوجعني.. وجعك يوجعنـــ… وجعك يوجعـ.. وجعك يوجـ.. وجعك .. يو.. وجعك

وجعك.. الكلمة الأخيرة التى أنهت بها أمي مقابلتنا الأخيرة، وذهبت.. العرق الغزيز الذي ينز من كل مسام في جسدي، أكد لي أنها الحمى، تحاملت على نفسي، استندت على كل ما يمكن أن استند عليه، لعلني أتمكن من الوقوف، لكننى فشلت، فعدت للغرق في بحر الحمى الذى ألقاني فيه “صداعي المزمن” لعل أمي تراجع نفسي، ويسمح ربها بموعد ثانٍ يجمعنا.. سأحدثها عن أبي.. إخوتي.. جدتي.. سأحدثها عن كل الأمور التي ستسعدها، لكنني لن أجعلها تنظر في عيني، حتى لا تعاودها أوجاع الصداع الخائن.

ربها.. لم يكن كريما معي، لم يتركها تأتي، ومن الممكن أنها هي التي لم تطلب أن تعود.. لا يهم، فأبي لا يزال يقف في الزاوية هناك، لمحته في المرة الأولى، لكن أمي كانت سيدة المشهد، فتركته يكمل سيجارته الثالثة، يرسم بخيوط الدخان التي يطلقها من فمه طائرات ورقية، صور متعددة لأشقائي.. لمحته يرسم صورة أمي، وعندما بدأت ملامحي تتشكل فى زفرة دخان أخيرة، نفضها بيديه، وركز نظرته على موضع اختاره ألقى فيه سيجارته المحترقة.. وضغط عليها بحذائه.

فى المرة الثانية، دنا مني قليلا.. توقف ، صرخت فيه بعدما بدأت ملامحه تتضح لعيني المتعبة، طالبته ألا  يتقدم خطوة تجاهي، رأيت جسده يسقط جزءاً تلو جزء.. في خطوته الأولى.. أصابع يده اليمنى سقطت، فى الثانية.. ذراعه الأيمن تعلق بوتر أخير.. وسرعان ما ارتطم بقوة وتدحرج على الأرض بعيدا عن الأصابع التى سبقته في السقوط.. يتقدم أبي خطوة.. فتتوالى أجزاؤه فى السقوط، عين أبي كادت أن تسقط.. سيصبح أبي أعمى لو سقط.. أفقت من غيبوبتي.. بل أجبرت روحي على النهوض.. كي لا أكون ولدا سيئا ترك أبوه بلا عينين.

فى لحظات الإفاقة تلك، أدركت أنها الثالثة صباحا.. تذكرتك.. وضعت يدك على فمي، عندما هممت بالحديث، أزحت يدك بغضب، تحدثت .. كلماتي خرجت بلا صوت.. ميتة كانت أحرفي.. يبدو وكأنها تسقط فى بئر عميقة قبل أن يحملها الهواء إليك.. استعنت على كلماتي المختنقة تلك، حركتي ذراعي الأيمن.. لم تفهمي.. بقيت على صورتك الأولى.. ترفعين يدك تحاولين اسكاتي.. أزحت يدك مرة ثانية، وأدخلت يدي اليسري فى معركة “الكلام الميت”، لكنني لم أحرز أى نصر يذكر، لا تزالين تحاولين اسكاتي، ولا أزال أصارع صمتي.. أخبرتك أننى استوحشك كثيرا.. كشفت لك رأسي.. أزلت شعر رأسي بسهولة، لم أشعر بأي ألم، ثم قطعت طبقة الجلد التى تغطي جمجمتي.. أشرت لك على موضع ألمي.. لم تأخذك المفاجأة، بقيت صامتة.. كلما هممت لأمسك أصابعك ووضعها على مكان الألم، تتلاشى، كررت محاولات التمسك بك، مرة تلو الآخرى.. لكنك كنت يا صديقتي إحدى صور أبي التي رسمها بدخان سيجارته الأخيرة.. وأنا بغبائي ولهفتي جعلتك تتلاشين، لأعود غريقاً فى بحر “عرق الحمى”.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وصحافي من مصر.