خارت العظام… وهنت القوى … تعرقت الرؤوس وابتلت القمصان تحت الصديري الواسع وارتعشت الأيدي وكفت الفؤوس… ترقرقت حبات العرق على الجبين… غافلت الأهداب وأغرقت الحدقات في شبر ماء..
تخاذلت السواقي وتمرغت البغال في التراب وعاث البق في شعور البهائم وتصاعد الزهد من ماء الترعة إلى عنان السماء.. بكى الرضع وجفت صدور الأمهات وتعاشرت أزواج الذباب على أجسام المرضى.
هكذا تسلل الكدر إلى قلوب النائمين _في آن واحد وعلى غفلة منهم_ وتسربلت الأشياء جميعها بحرارة الشمس مما دفع الخواجة للتخلي عن ثيابه وبقي بالسروال الداخلي تحت الماء مرسلا رأسه إلى حافة المغطس النحاسي وأضفت الموسيقى بعض إحساس بالنعاس.
بالكاد انتصبت الأجساد وانبعجت الحواجب وأحالت العيون شحوب الأجسام إلى ذرات تناثرت على سطح الماء البارد قبل أن يسرعوا مبللين إلى فضاء السواقي وتحت أشجار العنب والتوت على الحصير حول الجوزة وعدة الشاي ينتزعون النسيم من بين الاغصان وأنفاس المعسل من بوصة الجوزة وبعض الحياة من رشفات الشاي.
صخب الموسيقى قادم رأساً من سراي الخواجة عجوز مثله_الصخب_ تتلاعب به الأوراق ..تتمايل تجاريه وتتخذ منحنياته فيعبر على كفوف راحتها هادراً على آذان السابحين في سماء الظهيرة ومفاجئاً لدرجة جعلت أحدهم ينتفض فانحرفت البوصة عن فمه وكاد المنقد أن ينقلب في حجره عندها صاح آخر:
_هه…اتخضيت.
لم يقع أهل القرية تحت وطأة سحر الموسيقى بل انسحروا بمصدرها فكرسوا جزءا من فراغهم في معرفته عن كثب. دأبوا على سرد الحكايات وبسطها بين أيديهم عند اجتماعهم أو حتى بجانبهم على الوسائد عند نومهم.. تسلقوا أسوار السراي واختلسوا الأنظار حتى تسنى لهم وصفه كالآتي:
“عند مبدأه يبدو كأنبوب رفيع يتصل بشيء شبه مستطيل وينتهي بانتفاخ يشبه الأذن”
عندها صاح محمد أفندي _وهو من القاهريين الذين يأتون لزيارة القرية من حين لآخر:
جراموفون
_هه
_جرامووفوون
والحق أنه لم يكن ذلك الفضول الذي اتخذته القرية نصبها وليد الجراموفون وحده فحسب بل كل شيء يملأ فضاء عشرة فدادين يمتلكها الخواجة بلا شريك قد سطى على قلوب القوم فأشبع نصفها مهابة لذاته وعطش نصفها الآخر لتتبع أخباره منذ أن خلفت قدماً خادمه النوبي الغبار وراءها يحمل الشمسية في حين يمسك الخواجة جسده أن يقع من فوق ظهر الحمار .. يخفي ترهلاته في براح قميصه ويحفظ شيبه تحت قبعته وفي جيوبه يختزن الذكريات… يهتز خديه عند اندفاع الحمار وبعيني كلب وفي ينظر للأفق.
مااااااااااء…
تقاطع نشاذ بعض الخراف مع خيوط الموسيقى المتحلقة في جو القرية فاستحال المزيج إلى ذبابة تمارس “الزن” على الآذان.. تدور حول الرؤوس دورة كاملة كافية لايقاظهم بلفحة من نار القيظ..
فتح الخواجة عينيه فارتطمت بأشعة الشمس المتسللة خفية من بين أستار النوافذ وكانت سخونة الماء في المغطس قد حالت دون القيالة في حين تكاثفت شهوة الضأن في أرجاء عقله وتجسدت هالاتها أمام عينيه فأسرع مبتلا بارتداء ملابسه ونادى خادمه أن يلحق برعاة الخراف …
لطم سمعان ولده بعد أن ركله خارج الدار ثم لطمه أخرى وثانية وثالثة واستمر بلطمه وهو يصيح:
– بتسرقني يا ابن الحيوان … فوق يا ولد … فوووووووووق..
ولما كان الجميع يعرف أن سمعان دائم الشك في ولده لم يتدخل أحد للحيلولة دون وقوع مشاجرة بين الأب وابنه بل ظلا يتابعون المشهد وهم يعبثون بلحاهم.
استرعى ذلك المشهد الخواجة الذي هرول خلف خادمه.. بحلق في سمعان وابنه .. أمعن النظر في الحضور.. ظن أنه لم ير مشهدا أروع من ذلك حتى في أعظم مسارح روما فصاح مصفقاً بكل ما أوتي من عزم:
_excellent
ظل ذلك الامر محفوراً في ذاكرة القرية بالرغم من كونهم لا يدركون معناها حتى أنهم أخذوا يرددونها excellent في كل المناسبات
*****
خاص بأوكسجين