“الحياة ليست قصيرة، كل ما في الأمر أن ما نرغب بتذكره منها قليل جداً“
قال حكم هذه الحكمة و هو يجلس قرب أبيه في جلسة عزاء جارهم الشهيد، قال هذه الحكمة و صمت.
منذ فترة كان حكم يسير في الشارع حين كان شاهداً على موقف صادم، سائق سيارة أجرة يتجادل مع سائق آخر تسد سيارته الطريق، فقال له“العمى ضربك ما أجحشك” و من ثم مات، أصابته رصاصة في رأسه أردته قتيلا.. الرصاصة سقطت من الأعلى بما يسمى السقوط الحر.. إذ أن قافلة شهداء كانت تسير في شارع قريب، وأثناء إطلاق الرصاص في الهواء انطلقت رصاصة من ماسورة بندقية ما و وصلت إلى أعلى نقطة تستطيع قوة القذف أن توصلها إليه ومن ثم هبطت بفعل وزنها واستقرت في رأس سائق الأجرة فمات.
ما أثار هلع حكم هو ما يلي: إن آخر ما تفوه به القتيل هو عبارة “العمى ضربك ما أجحشك“
هل هذه جملة ينهي بها إنسان حياته، مهما كانت مجريات هذه الحياة رديئة.
شيئاً فشيئاً بدأ هوس يسيطر على حكم، هل يعقل أن يموت هو فجأة أيضاً دون أي تمهيد – طبعاً يعقل – لكن هل يعقل أن يكون آخر ما يتفوه به قبل المنية بهذه السخافة والدناءة البشرية؟
في الحقيقة حكم شاب عشريني يصنف نفسه من الطبقة المثقفة، قرأ ملخصات عن نيتشه وماركس وابن عربي، يعرف أشعاراً لعمر الخيام ومظفر النواب، محمد الماغوط، قرأ لمكسيك غوركي ودستويفكسي، باولو كويلهو وغابرييل غارسيا ماركيز، تشارلز ديكنز ويحفظ مختارات لمارك تواين وبرنارد شو وآخرين ليسوا كثر.
هكذا قرر حكم وقرر الالتزام بهذا القرار، عليه بالضرورة إلقاء حكمة ما في كل موقف يمر به ومن ثم يصمت، فلو فاجأه الموت..قذيفة، سيارة مفخخة، رصاصة قناص، رصاصة طائشة، تحت التعذيب، ذبحاً أو برأس مقطوع، سيضمن أنه على الأقل _حتى لو بينه وبين نفسه_ سيكون قد أنهى مشواره بمشهد يليق بحياته ومعتقداته ومبادئه وغيرها من الأمور، وربما هذه الحكمة التي سيلقي بها قبل موته المحتمل قد تسبب صدمة ثقافية غير متوقعة لهذا المجتمع ، وإن كان الحظ إلى جانبه قليلا ربما تعلق جملته الأخيرة في ذهن أحد ما، وربما يذهب هذا الشاهد فيقول “إن الشهيد حكم قبل موته بدقائق قال كذا“، و ربما يكتب عنه على الفيسبوك، وشيئاً فشيئاً ينتشر الخبر و تبدأ الجرائد المحلية وربما العالمية حتى تتناقل الخبر والحادثة الموئرة، ولم لا، هذه الأمور تحدث في أيامنا هذه.
حين اعترض أخاه الأصغر على أن وجبة الغداء مقرفة، ليس من المعقول أن يأكلوا المجدرة لثلاثة أيام متتالية.
قال حكم:”لو كان لحبات العدس قدرة على الكلام لقفزت من صحن المجدرة وصرخت أننا نحن، من قرفناكم أيها البشر“
حين كان يمشي هو و صديقه وراء صبية في الشارع وعيونهم معلقة بمؤخرتها المحشورة في بنطال الجينز الضيق.
قال حكم: “في إليتي المرأة و هي تمشي ترى العالم.. نصفا كرة لا يتلقيان، أحدهما يصعد و يهبط الآخر، و عند خط التماس تدعك الشعوب وتطحن“
في محل الأفلام حين طلب مراهق من صاحب المحل أفلاما إباحية.
قال حكم: “الجنس الصناعي كالرمال المتحركة“
حين بكت أمه لأن قذيفة سقطت على سطح الجيران.
و حين بكت أمه لأن الراتب لم يصرف بعد.
و حين بكت أمه لأنها اشتاقت أخوتها المحاصرين في حلب.
و حين بكت أمه و هي تحضر مسلسلاً تركياً على التلفاز.
قال حكم: “تتكلم الأمهات بدموعهن مقدار ألف كلمة للدمعة الواحدة“
حين نهره العسكري على الحاجز لأنه يتباطأ في إخراج الهوية.
قال حكم “أمرك ما تواخذنا“
و حين ابتعد قليلا عن الحاجز.
قال حكم: “السلاح قطعة معدن تصير فماً كبيراً جداً حين يمسك بها من كان صامتاً طوال حياته“
حين تعالت صرخات السنونو يتقاتل مع سنونو أخر.
قال حكم: “النزاع أساس الحياة“
حين قال صديق له يدعي الفسلفة: “كل شي صار غالي إلا الإنسان رخيص“
قال حكم: “قيم الأشياء تنبع من هوية مستخدمها“
حين خسر بايرين ميونخ مع ريال مدريد.
قال حكم: “الألمان منظمون كالآلات، لكن الإسبان حالمون“
حين رأى عجوزا أرملاً يشتري مقويات جنسية في الصيدلية.
قال حكم: “لا بد أن له قلباً قوياً ليتحمل الوحدة والآثار الجانبية للفياغرا“
حين غفا أحدهم على كتفه في طريق السفر.
قال حكم: “البشر حين ينامون يصيرون أشجاراً“
حين أنبه والده ووالدته وأخوته وأصدقائه وكثير من معارفه إلى أنهم ضاقوا ذرعا به وبحكمه.
قال حكم: “الكلمات هي منارة الغائبين“
حين دخل ليستحم واكتشف أن مصرف حوض الاستحمام مسدود بالشعر، انحنى و مد يده في المصرف و انتزع كتلة الشعر.
قال حكم:”كأني عايش مع قرود ما بشر“
تزحلق و ضرب رأسه بحافة حوض الاستحمام ومات وكتلة من الشعر في يده.
قال الله: “ها هو واحد من الحمقى يعود كابن ضال إلي“
حاشية:
أثناء كتابة هذا النص وعند جملة (حين بكت أمه لأن قذيفة سقطت على سطح الجيران.) بعد كتابة هذه الجملة بعدة ثوان ما حصل فعلاً أن قذيفة فعلا سقطت على سطح الجيران جعلتني أقفز من سريري الذي أكتب به كالمجنون، في الحي أطفال كانوا يزعقون وهم يلعبون وبعد سقوط القذيفة صاروا يزعقون من الرعب، ظننت أنني سأخرج لأرى جثث أطفال ممزقة، لكن القذيفة كانت بعيدة أمتاراً قليلة عنهم.خرج جار بقميصه الداخلي وصاح: “قلنالكم فوتو هالولاد عم يبعقوا من الضهر هلأ بيصير شي ما حدا رد“
من ثم نزل بهلع رجل وهو يحمل طفله بين يديه، كان الطفل يقف على الشرفة قرب السطح الذي أصابته القذيفة وأصابته شظايا، جاء بسرعة شابان يرتديان الملابس العسكرية ووضعوه على دراجة آلية و ذهبوا مسرعين إلى أقرب مشفى و لحق بهم أباه.
بعد عدة دقائق نزل جار لنا صار يتكلم بصوت عال: “لك هي القذيفة عنا.. هي الفتحة تبعها هون لك عنا طلعت” فضحك كل من في الشارع وقالوا له” لك هي قديمة الفتحة من شهور هون هي مو من هلأ” فعاد خجلاً إلى منزله.
في النهاية جاء رجل الأمن المسؤول عن الحاجز القريب ووقف في مكان نزول القذيفة وصار يصرخ بالناس: “كل مين عبيتو لا توقفوا هون.. مشانكن عم احكي بجوز تجي قذيفة تانية هلأ بنفس المحل“
_____________________________________
الصورة من معرض أقيم في لندن بعنوان “زمن لا دولتشي فيتا”
كاتب من سورية
*****
خاص بأوكسجين