الحــياة اللّيلية لأدوات مـــنزل
العدد 224 | 27 كانون الأول 2017
مي سليمان


“لقد ناموا”.

تبدو العبارةُ أعلاه كحصاةٍ ألقيت في بحيرةٍ ساكنة، بقيت دوائرُ صداها تتردّد وتتّسع في الصمتِ البارد لمطبخٍ منزليٍ مظلمٍ أو يكاد.. باستثناء أضواءٍ خافتة مبعثرة في زوايا المكان.

“لقد ناموا “

العبارةُ التي انطلقت من مصدرٍ مجهول في تمامِ الساعةِ الثانية صباحاً، كما تشيرُ ساعةُ حائط ذاتُ عقاربٍ فسفورية مشعّة، تبدو وكأنها تستوجب ردّاً ما، لكن ما من إجابة سوى دوائر الصدى تتّسع للحظات لتعود وتتلاشى تلقائياً ليعودَ الصمتُ إلى سكونهِ الانسيابي.

مع انتصاف الساعة الثانية انطلقَ صوتٌ زاعق:

– الآن يمكنك القول أنّهم ناموا بكل تأكيد..

دبّت حرارةٌ مفاجئة في مجمّعِ الأشياءِ الساكنة المتناثرة تحتَ سقف المطبخ. آلاتٌ يدوية، أجهزةٌ كهربائية، كراسٍ، وخزائن.. الجميع يتكلّم في آنٍ معاً بحماسةٍ مدهشة.

-أعتقد أن إعلان نوم أفراد هذا المنزل ضمن قائمة المسؤوليات التي أوكلت إليّ منذ الأزل.

يتكلّم برّادٌ مُسنٌّ بعمرِ عشرةِ أعوام، يعلو فوق جبينِ بابهِ الأبيض المائل للاصفرار مجموعةٌ من الصور الفوتوغرافية، قصاصاتٌ ورقية، أشكالٌ مغناطيسية مبهمة المعالم.

– أعتقد أنّك قد بدأت تنسى عدد المرّات التي كدت أن تتسبّب لنا فيها بمشكلة! أنت أصم تماماً!

 تُجيبُ غسالةٌ أوتوماتيكية تُرك بابها الزجاجي مفتوحاً ليجفًّ بطنها المعدني مما جعل غطاء النايلون الملوّن المُلقى فوقها يُصدر ضجيجاً مزعجاً مع كلّ محاولةٍ لها في الكلام. تستأنف حديثها بثقة العارف:

– أفراد هذه الأسرة يغطّون في نومهم بعد الثانية على أقلّ تقدير…

يتنحنح البرّاد بثقلِ من ضَجر حديثٍ مكرور مئات المرات. يجيب بصوت من نفد صبره:

– حسناً. أغلق باب فمك.

يُصغي البوتاجاز بصمتٍ حزين إلى الملاسنة الكلامية. كانت كمية من الأوساخ الدّهنية غَفِلوا عن تنظيفها تشغلُ تفكيره وتحول دون انخراطه في الحديث. شعرَ بكدرٍ عميق. نظرَ بعيونه الأربعة المتّسخة نحو عددٍ من الكؤوس الزجاجية الموضوعة رأساً على عقب فوق منشفة بيضاء بجواره. كان التماعها البرّاق يمزّق قلبهُ ألماً

أسرّ لنفسه بأسوأ أفكاره:

–  يوماً ما.. سأسمح للغاز بالتسرّب من أسطوانتي لأقتل أفراد هذه الأسرة جميعاً، حينها فقط سيدركون معنى أن يعلو رأس المرء بقايا عشاء.

يقطع سيل أفكار البوتاجاز المسكين قهقهات بدأت تعلو بالقرب منه. مجموعةٌ من الفطائر المحشوة بالجبن تستلقي على طاولة المطبخ الخشبية في زورقٍ زجاجيٍ شفاف يكشف عن ثنايا جسدها الذهبي المقرمش. تضحك بوقاحة سافرة وتتحرّك بطريقة لا تخلو من الإغراء الرخيص أمام عبوة مياه بلاستيكية.

– هل تعتقد أنّنا وُضعنا هنا سهواً؟

– أقسم بالجبنة التي تذوب في أحشائي أنّها ستستيقظ بعد ساعة بذريعة شرب المياه، لكنّ يدها لن تمتد إلّا إلينا.

أنهت الشطيرة عبارتها بإيماءة ذات معنى.

– هل تسمحون لي أن أُشير إلى أمر مهم!؟

تكلّمت عبوة المياه باستحياء واضح:

– لقد وصلتني أخبار موثوقة هذهِ المرّة بأن الأنسة ميّ قد أعلنت قبل أسبوع المباشرة في نظامٍ صحّي قاسٍ وسوف لن تمتد يدها إلى أيّ طعام بعد الساعة السابعة مساءً.

أطلَقت الشطائر على أثر هذا ضحكةً مدوية اهتزّ لها الزورق الزجاجي. أكياس من المكسرات وُضِعت على رفٍ خشبي كادت تنزلق لضحكتها الهستيرية والتي انفتح على أثرِها باب البرّاد المسن ليطلَّ من داخله وعاء زجاجي عميق.

انعكس نور البرّاد البرتقالي الخافت ليتّضح ما بداخل الوعاء: أصابع من ورق العنب تلتمع كأجساد مدهونة بالزيت أطلقت صيحة خبيثة: نعم نعم..  لقد بدأت نظاماً صحيّاً قاسياً. هه انظروا.. لقد كان عددنا اليوم لحظة إزالة غطاءِ القدر عنّا ثمانون لُفافة، تناولت الأنسة وقوفاً ما يقارب نصفنا، وكادت أن تأتي علينا لولا أنّ حياءها منعها.

اهتزّت الشطائر كما لو أنّها تؤكّد صحّة ما قيل، همهمت عبوة المياه بدورِها كلماتٍ غير مفهومة.

أمّا البراد فقد حاول جاهداً أن يغلق بابه بنفسه لكن حوافه المطّاطية المتآكلة لقِدمها لم تستطع القيام بالمهمة.

بقيَّ الضوء البرتقالي الخافت يتسرّب كشقٍّ طولاني يُنير عتمة إحدى الزوايا حيث كانت مجموعةٌ من الرفوف الخشبية التي تنتمي باللون فقط إلى بقية خزائن المطبخ تقبع وحيدة تحت وطأةِ صمتٍ موحش.

كُتب بأغلفة مهترئة كانت تعلو الرفّ المكسو بمناديل مطرّزة. في الأسفل رفٌّ آخر وُضعَ عليه مشغّلُ أسطواناتٍ رماديُّ اللون، يومضُ بضوءٍ أزرق خافت يكاد لا يرى:

– أنا لا أنتمي إلى هذا المكان.. لم ولن أنتمي إلى مجمّع النفايات هذا. يزفر المسجّل بحسرة.

يتنهد كتاب مُلقى على بطنه فوق مجموعة الكتب الواقفة كرتل عسكري، يحاول أن ينهض بثقل…

– لست بأفضل حالاً منك. هل سمعت عن كتابٍ يُلقى في مطبخ!

يتغير الوميض الأزرق في مسجل الأسطوانة ليصبح أحمر اللون، يدور القرص المُدمج بسرعة لتنطلق منه موسيقى هادئة.

– هذه الموسيقى ستشعرك ببعض الراحة. حسناً لقد سمعتُ ذات مرّة عن مكتبةٍ كبيرة، هناك في الجهة الشرقية من المنزل، لعلّهم يرسلونك إلى هناك قريباً.

يتكلم المسجّل برقّة واضحة.

– أخشى أن العمر قد تقدّم بي ويبدو أنّ أوراقي ستنتهي لتنظيف بقايا قاذورات وجبة سريعة قبل أن أقابل تلك المكتبة.

يتنهد المسجّل ليكمل بوحه مع الموسيقى المسترسلة:

– عندما غادرت المتجر بعد أن تمّ ابتياعي، كان مستقرّي في غرفة الآنسة الصغيرة التي اعتادت أن تعبث في أجزائي بعنف مخيف كاد أن يفقدني أعصابي. لاحقاً حين اخترعوا تلك الأشياء المجنونة الضئيلة الحجم، والتي تحتفظُ في جوفها بكمياتٍ هائلة من الأغاني المضغوطة، ضجرت منّي فانتقلت إلى غرفة الآنسة الكبيرة. لم تكن أفضل حالاً بالطبع.  فتاة مزاجية، ركلتني ذات مرة في بطني متسبّبة بخلع فكّي إثر مشادة هاتفية دارت مع صديقها، لأنتقل في النهاية إلى غرفة الأم.. وهناك كانت أجمل أيّام حياتي. كانت تمتلك أصابع مُدهشة! حانية بصورة لا تصدق.. اعتادت أن تداعبني بتلك الأصابع لحظة استيقاظها الأولى. تستمع للأخبار أوّلاً، لاحقاً تُدير محطّات الراديو بحثاً عن فيروز لتحتسي في ظلّ صوتها قهوة الصباح. في الظهيرة تشعلني بهجةً بأقراص مدمجة لموسيقى العزف المنفرد لآلاتها الوترية المفضّلة العود والقانون. أمّا المساء فقد كانت الموسيقى الكلاسيكية المنطلقة منّي سبباً في غسلِ تعب النهار عنها وإرسالها في نومٍ عميق.

في تلك اللحظة، ينطلق صوت أجشّ مزعج:

– فلتذهبوا إلى الجحيم

تُعلن هذا طنجرةُ ضغطٍ عملاقة في خزانة ما كانت قد ضَجرت من حديثهم.

يعلو ضحك سافر من جوقة أدوات المائدة الموضوعة في قعر درج عميق. ملاعق، أشواك وسكاكين تراقصت ببهجة، في حين انثنت شوكة بأسنانها كما لو أنّها تعزف على كمان، مُقلّدةً صوت مسجّل الأسطوانات الحزين بتهكّم:

– آه.. لقد كانت أجمل أيّام حياتي.

تغرق كائنات المطبخ على أثرِ تلك الجملة في نوبةِ ضحكٍ هستيرية تنتهي حين يُنار ضوء المطبخ فجأةً!

كما السائر في نومه، تدخل فتاة بشعر أسود رُفِع على شكل كعكةٍ أعلى رأسها، ترتدي بيجاما مقلّمة. تتجه إلى المنضدة الخشبية وسطَ المطبخ، تتّلمس سطحها بطريقة آلية لتجد ضالتها في النهاية: زورق زجاجي يحوي شطائر جبنة، تتناول وقوفاً خمساً منها.  تتّجه بثبات نحو مجموعةٍ من الأدراج في زاوية المطبخ، تسحبُ أحدها بتلقائيةِ من اعتاد على فعل ذلك مرّاتٍ عدّة. تُخرج لوحاً من الشوكولا، تزيلُ غلافه بحركةٍ آلية، ليدوي صوت انكساره بين أسنانها في مجمّع الأشياء الساكنة، تشرب ما تبقى من مياه في عبوةٍ بلاستيكية، تلقي بها إلى سلّة المهملات، تطفئ النور..

وتخرج..

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: