الجوقة في رؤوسنا أو بيير باولو بازوليني
العدد 285 | 1-4-2024
جون برجر | ترجمة: أسامة منزلجي


إذا قلتُ إنه كان ملاكاً، فلا أتصور شيئاً أشدّ حماقة من هذا يُقال عنه. أيكون ملاكاً من رسم كوزيمو تورا[1]؟ كلا. تورا رسم القديس جورج وكان نسخة طِبق الأصل منه! لقد كان يمقت بشدة القديسين الرسميين والملائكة المُجمَّلين. إذن لماذا أقول هذا؟ لأنَّ حزنه الفِطري والهائل سمح له بتقاسُم النكات، ومظهر وجهه الحزين كان يوزِّع الضحك، لأنه كان يُخمِّن بدقّة مَنْ أشدّ مَنْ يحتاج إليه. وكلما كانت لمسته حميمة أكثر، ازدادت شفّافية! كان في استطاعته أنْ يتكلِّم مع الناس بهمس ناعم عن أسوأ ما يجري لهم وبصورة ما تقلّ مُعاناتهم، “… لأن اليأس لا ينتابنا من دون أنْ يقترن بقليل من الأمل” أو Disperazione senza un po’ di speranza” , حسب قول بيير باولو بازوليني (1922- 1975).

أعتقد أنه كان يرتاب في أشياء كثيرة حول نفسه، لكنه لم يشكّ قط في موهبته على التنبؤ التي كانت، ربما، الشيء الوحيد الذي ودَّ أنْ يرتاب منه. ومع ذلك، بما أنه كان مُلهَماً، فإنه يهبُّ إلى نجدتنا في حياتنا اليوم. وقد شاهدتُ تواً فيلماً صُنِعَ عام 1963. المُدهِش أنه لم يُعرَض على الجمهور قط. إنه يصلنا كرسالة مأثورة وُضِعَتْ داخل زجاجة ووصلت إلى شواطئنا بعد ذلك بأربعين عاماً.

 

في ذلك الزمن المُبكِّر، كان كثيرٌ من الناس يُتابعون أحداث العالم ليس من خلال مشاهدة نشرة الأخبار في التلفاز، بل الأخبار التي تُعرَض في دور السينما. وفي عام 1962، خطرتْ على بال ج. فيرانتي، وهو أحد مُنتجي تلك الأخبار، فكرة لامعة. سوف يسمح لبازوليني الذي كان قد أضحى مشهوراً حينئذٍ باستخدام أرشيفه من الأخبار بين عاميّ 1945 و1962، لكي يُجيب عن السؤال التالي: لماذا يسري في العالم أجمع خوفٌ من الحرب؟ وكان في استطاعته أنْ ينتقي ما يشاء من مواد ويكتب لها تعليقاً يُضاف إليها صوتياً. والفيلم الناتج الذي مدّته ساعة كان يؤمل في أنْ يدعم مكانة الشركة التي تبث الأخبار. كانت القضية “ساخنة” لأنَّ الخوف، حينئذٍ، من نشوب حربٍ عالمية أخرى واسع الانتشار. وفي شهر تشرين أول (أكتوبر) من عام 1962 تفجّرتْ أزمة الرؤوس النووية بين كوبا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.

قبِلَ بازوليني، الذي كان قد أنجز حتى ذلك الحين أفلام “”الأفّاق” و” ماما روما ” و”خثارة اللبن“، العرض لأسبابه الخاصة، لأنه كان عاشقاً للتاريخ وفي حالة حربٍ معه. وصنع الفيلم، وأطلقَ عليه ” الحنق“.

عندما شاهده المنتجون لم يتحمسوا له وأصرّوا على أنْ يصنع مخرج آخر، وهو صحافيّ يمينيّ متطرّف اسمه جيوفاني غواريشي، جزءاً ثانياً وعلى أنْ يُقدَّم الفيلمان معاً كفيلمٍ واحد. والنتيجة كانت أنّه لم يُعرَض أيٌ من الفيلمَين.

في رأيي أنَّ فيلم “الحنق” كان مُلهماً بحسٍ عنيفٍ بالجَلَد، وليس بالحنق. وبازوليني ينظر إلى ما يحدث في العالم ببصيرة لا يرفّ لها جفن. (هناك ملائكة رسمها رامبرانت لها التحديق نفسه) وهو يفعل ذلك لأنَّه ليس لدينا إلا الواقع لنحبه. ولا شيء آخر.

إنَّ رفضه لمظاهر النِفاق، وأنصاف الحقائق وحجج الطامعين والأقوياء، تامّ لأنها تولِّد الجهل وتعزّزه، وهذا شكل من أشكال العمى في وجه الواقع. أيضاً لأنها تضرّ بالذاكرة، بما فيها ذاكرة اللغة ذاتها، وهي إرثنا الأول.

لكنَّ الواقع الذي أحبّ ما كان يمكن أنْ يُقرّ هكذا ببساطة، لأنه في تلك اللحظة مثَّلَ إحباطاً تاريخياً عميقاً. والآمال القديمة التي كانت قد أزهرتْ وتفتّحتْ في عام 1945، بعد هزيمة الفاشية، تعرَّضَتْ للخيانة.

كان الاتحاد السوفييتي قد غزا هنغاريا، وباشرتْ فرنسا حربها الجبانة ضد الجزائر. وكان الاستقلال الآتي للمستعمرات الإفريقية مجرّد لغز رهيب. وتمّتْ تصفية لومومبا على أيدي عملاء وكالة الاستخبارات الأميركية؛ وباشرتْ الرأسمالية الجديدة تخطيطها لاكتساح العالم.

ولكن على الرغم من ذلك، كان الإرث نفيساً وثقيلاً إلى درجةٍ لا يمكن معها التخلّي عنه. أو، بعبارة أخرى، كان من المستحيل تجاهُل متطلبات الواقع الشاملة وغير المُعلنة. المطلَب في طريقة لبس الشال. في وجه الشاب. في شارعٍ مزدحم بأناسٍ يطلبون ظلماً أقلّ. في ضحك آمالهم وتهوُّر نكاتهم. من هنا نبع حنق جَلَده.

إنَّ جواب بازوليني على السؤال الأصلي كان بسيطاً: إنَّ الصراع الطبقي يُفسّر الحرب.

ينتهي الفيلم بحوارٍ إفراديّ مُتخيَّل يؤديه غاغارين، بعد أنْ شاهد كوكب الأرض من الفضاء الخارجي، وفيه يلاحظ أنَّ البشر جميعاً، المرئيين من تلك المسافة البعيدة، أخوة ينبغي أنْ يتبرؤوا من ممارسات الكوكب الدموية.

ولكن في الأساس، يدور الفيلم حول التجارب التي يتفاداها السؤال والجواب، وحول برودة الشتاء بالنسبة إلى المُشرّدين، والدفء الذي يُشيعه تذكُّر الأبطال الثوريين، وحول استحالة المُصالحة بين الحرية والكراهية، وحول النزعة الريفية لدى البابا يوحنا الثالث والعشرون الذي تبتسم عيناه كسُلحفاة، وحول أخطاء ستالين التي كانت أخطاءنا، وحول غواية الاعتقاد الشيطانية بأنَّ الصراع قد انتهى، وحول موت مارلين مونرو ومدى جمال كل ما تبقّى من حمق الماضي ووحشية المستقبل، وحول كيف أنَّ قِوى الطبيعة والثروة هما شيء واحد بالنسبة إلى الطبقات المالكة، وحول أمهاتنا ودموعهن الموروثة، وحول أولاد أولاد الأولاد، وحول الممارسات الجائرة التي تلي حتى انتصاراً نبيلاً، وحول الرعب القليل الذي يظهر في عينيّ صوفيا لورين عندما تشاهد يديّ صياد سمك تشقّان جوف سمكة إنكليس…

التعليق على الفيلم المصنوع بالأبيض والأسود يصدر عن صوتَين مجهولين لاثنين من أصدقائه: الرسّام ريناتو غوتوسو والكاتب جيورجيو باسّاني. أحدهما يُشبه صوت مُعلِّق لجوج، والآخر لشخص نصف مؤرِّخ ونصف شاعر، صوت عرّاف. ومن بين مواد الأخبار الرئيسة المذكورة الثورة الهنغارية في عام 1956، وخوض أيزنهاور السباق إلى رئاسة الجمهورية للمرة الثانية، وتنصيب الملكة إليزابيث، وانتصار كاسترو في كوبا.

الصوت الأول يُنبئنا والثاني يُذكّرنا. بماذا؟ ليس بالضبط بما نُسيَ (إنه أكثر براعة من أنْ يفعل ذلك)، بل بما اخترنا أنْ ننسى، وتلك الخيارات غالباً ما تبدأ في عهد الطفولة. إنَّ بازوليني لا ينسى شيئاً من عهد طفولته – وهكذا هو في حالة تعايُش مستمرة مع ما يسعى إليه من ألم ومرح. لقد دُفِعنا إلى الشعور بالخجل من نسياننا.

إنَّ الصوتين يعملان عمل الجوقة اليونانية. إنهما عاجزان عن التأثير على نتيجة ما يُعرَض علينا. وهما لا يُفسّران، بل يستفسران، يُصغيان، يُراقبان ومن ثم يجهران بما يمكن أنْ يشعر به المشاهد، دون أنْ يُعبِّر عنه صراحة.

وهما يُنجزان هذا لأنهما يُدركان أنَّ اللغة المُشتركة بين الممثلين، والجوقة، والمشاهد هي مخزن تجربة مشتركة طويلة الأمد. واللغة ذاتها متواطئة مع ردود أفعالنا. ولا يمكن غشّها. إنَّ الصوتين يجهران، ليس لكي يُجادلان، بل لأنَّ من العيب، نظراً إلى طول التجربة والألم الإنسانيين، ألا يُقال ما يجب أنْ يقولاه. فإذا لم يُقَلْ، فسوف ينال ذلك قليلاً من إنسانيتنا.

في اليونان القديمة لم تكن الجوقة تتألّف من الممثلين، بل من مواطنين ذكور، تمّ انتقاؤهم في ذلك العام من قِبَل قائد الجوقة، أو الـ choregus. كانوا يُمثّلون المدينة، ويأتون من الـ agora، أو الساحة العامة. ولكن كجوقة يُمثّلون أصوات أجيالٍ عديدة. وعندما يتكلمون عما يعرفه العامة أصلاً، يكونون الأجداد. وعندما يجهرون بما يشعر به العامة ولكن يعجزون عن الجهر به، يكونون مَنْ لم يُولدوا بعد.

هذا كله أنجزه بازوليني وحده مع صوتَين وهو يتنقَّلُ جيئة وذهاباً، حانقاً، بين العالم القديم، الذي سيختفي مع آخر فلاّح، وعالم المستقبل بحساباته الشرسة.

في مواقع متعددة يُذكّرنا الفيلم بحدود التفسير العقلاني، وبالسوقيّة المتواصلة لتعبيرات مثل تفاؤل وتشاؤم.

يُعلن، إنَّ أفضل عقول أوروبا وأميركا تفسِّر نظرياً معنى أنْ يموت المرء (وهو يُقاتل مع كاسترو) في كوبا. في حين أنَّ المعنى الحقيقيّ للموت في كوبا – أو نابولي أو اشبيليا – لا يمكن التصريح به إلا برثاء، على ضوء أغنية وعلى ضوء الدموع.

في لحظة أخرى يقترح أنَّنا جميعاً نحلم بحقّنا في أنْ نكون كما كان بعض أسلافنا ! ومن ثم يُضيف : وحدها الثورة تستطيع أنْ تنقذ الماضي.

إنَّ فيلم “”الحنق” هو فيلم عن الحب. لكنَّ شفافيته تشبه شفافية قول كافكا المأثور: “إنَّ الخير، بمعنى ما، لا يُريح”.

لهذا أقول إنَّ بازوليني أشبه بملاك.

الفيلم لا يدوم أكثر من ساعة، ساعة فُصِّلَتْ، وقيسَتْ، وأُعِدَّتْ قبل أربعين عاماً. وفي مثل ذلك التبايُن مع التعليقات على الأخبار نقوم بالمشاهدة والمعلومات التي تُقدَّم إلينا الآن، وتقول لنفسك، بعد انتهاء الساعة، إنه ليست فقط أنواع الحيوان والنبات تُدمَّر أو تُفنى اليوم، بل أيضاً مجموعات بعد مجموعات من الأولويات الإنسانية. وهذه الأخيرة تُرشّ بانتظام، ليس بالمُبيدات الحشرية، بل بمبيدات الأخلاق – وهي عوامل تقتل الأخلاق وبالتالي كل إشارة إلى التاريخ أو العدالة.

إنَّ المُستهدَف خاصة هو أولوياتنا التي نشأتْ من الحاجة الإنسانية إلى التشارُك، والتوريث، والمواساة، والحزن، والأمل. ومُبيدات الأخلاق تُرشها ليلاً ونهاراً وسائل الإعلام الجماهيرية الإخبارية.

لعلّ مُبيدات الأخلاق أقلّ فعالية، وسرعة، مما يأمل المتحكّمون، لكنها نجحتْ في دفن ومحو المساحة المُتخيِّلة التي تمثّلها أي ساحة عامة وتتطلّبها. (إنَّ ساحاتنا العامة موجودة في كل مكان لكنها الآن مُهمّشة) وعلى أرض الساحات العامة المحجوبة اليباب (التي تّذكّرنا بالأرضٍ اليباب التي اغتاله عليها الفاشستيون) ينضمُ بازوليني إلينا مع حنقه، وقدوته الدائمة حول كيفية حمل الجوقة في رؤوسنا.

_____________________________________

[1] – كوزيمو تورا (قبل 1431- 1495): رسام إيطالي. ضاع معظم إنتاجه.                   – المترجم

*****

خاص بأوكسجين