التحقيق
العدد 226 | 28 كانون الثاني 2018
فكري عمر


كان جسده متحفزًا لأيَّة صفعة مباغتة وهو يقف أمام المحقق، بينما يُمسك شفرة الموس تحت شفته، كما علمه اللص الذي حبسوه معه في زنزانة واحدة.

– ألا تعرف ما يمكن أن أفعله بك؟

قال المحقق، وكان الشاب قد سمع هذا الكلام من قبل لما كانوا يجتازون به مرحلة أبشع من التعذيب.

يجلس المحقق على كرسي عالٍ. أمامه طاولة خشبية. الضوء مُسلط باتجاهه، وخافت عند المحقق. نبرته تتراوح بين اللين، والعصبية. كذلك ضربات أصابعه على سطح المكتب الخشبي.

ابتلع الشاب خوفه، كما ابتلعه من قبل، حينما هدده بحمام السباحة. تحامل على نفسه وقَبِل التحدي. رأسه كانت مرفوعة بالكاد فوق الماء كريه الرائحة. فى غرفة ضيقة حوائطها الحديدية توشك أن تسقط. قرر وقتها أن يدس رأسه دقيقة واحدة تحت الماء؛ ليتخلص نهائياً من الألم. عصا المعاون التى أتت وقتها من مكان ما لسعت ظهره، فاستيقظت حواسه مرة أخرى. أدرك أنهم يريدونه حيًا، ليعرفوا منه المزيد؛ ليلصقوا بالآخرين ممن حوله تهمًا بأي دليل.

ما يزال البرد يسكن عظامه منذ كان طفلًا لا يشبعه ثدي متهدل أعجف، ولا تمنعه بطانية رقيقة يتقاسمها مع ثلاثة إخوة على سرير عالٍ ذي قوائم حديدية. ما يزال رغم نجاحه، وحصوله على ليسانس بأعجوبة. أما رأسه فتفور بها براكين لا تهدأ.. كيف يحرص البعض على التساوي فى صفوف الصلاة وهم يفترقون فى صفوف المكاسب؟! كيف ينادي آخرون بالحرية، والعدل وهم يخفون الديناصور فى صدورهم الثملة باللذات؟!

كان لسانه يضغط برفق فوق شفرة الموس. لو تُرك الموس حرًا فى فمه لمزق، كما أخبره اللص، جلده، ولسانه. مسكين هذا اللص! أدخلوه معه فى زنزانة واحدة لما لم يُجدِ الحبس الانفرادي مع الشاب فى توريط آخرين.

انطوى اللص لكلماته. لا شك أن بها سِحرًا نافذ المفعول، أو أن السحر فى إيمانه بما يقول، وإلَّا ما ترك اللص طرقه المتعددة فى الإيذاء وطلب منه أن يتعلم منه شيئًا نبيلًا. استعاد الشاب ثقته بنفسه حينما فكر في ذلك، ثم قال للص: “الشيء النبيل فى الحياة أن تعيش كما تريد، لا كما تدفعك الظروف، والآخرون له”.

حين كان الشاب نفسه يسمع تلك العبارات من قبل كان يظنها عبارات كليشيهية لا تُقدِّم، ولا تُؤخِّر. إنما تقال من باب أن الحكمة ما يزال لها مكان بين الناس.. إلى درجة أنه مرة قرأ عبارة شبيهة كتبها سائق ميكروباص على مسند كرسي القيادة. الآن يشعر بنور تلك العبارة.. إنها، كما يقول لنفسه، حقيقية وأكيدة مثلما هو إنسان حقيقي. يقف على قدميه. يرى. يسمع. يُحس، ويفكر.

كان الشاب نحيفًا طويلًا مفرود الكتفين، له عينا صقر، لكنهما غاصتا فى محجريهما طوال أيام التحقيق. دفع المحقق مسندي الكرسىيبكوعيه. رفع جسده إلى أعلى. جسد هائل برأس مخروطي أصلع كرأس دانه. خطا المحقق باتجاه الشاب خطوات هادئة. كعب حذائه رنّ بانتظام كريه فوق سيراميك الأرضية. كما كان سيل الماء الرفيع يرن طوال الليلة الماضية على أرضية الحجز الأسمنتية الباردة.

رأى الشاب وجه المحقق فى الضوء دقيقة. ضاعت الملامح في الوقت نفسه الذي تلقى فيه صفعة على قفاه. شعر بالغبن رغم توقع المباغتة. استدار سريعًا؛ ليدافع عن نفسه، لكن ضربة أخرى كانت تأتيه من الخلف دائمًا.. يَدٌ هائلة كيد القدر، الذى أسكنه هو وأسرةً كبيرة فى حجرتين، وحمام، ومعاش هزيل، تلك التي كانت تشرخ جدار رجولته كل مرة. بالتأكيد لم تكن يد المحقق فلا يحتاج أن يضربه، بل يأمر معاونيه الذين يملؤون الحجرة شبه المظلمة بإشارة متفق عليها.

تحول المحقق إلى بالون جلدي هائل ملأ جوانب الحجرة المرئية، وغير المرئية. أحس الشاب أنه يختنق. يختنق، ويتهاوى، لكن الأيدي المحيطة به أمسكته. وقف مرة أخرى مطمئنًا أنه لم يبتلع الموس الموجود تحت شفته بعد. قال المحقق بينما ابتسامته الساخرة ترج الجدران:

– لا أريد أن أجرب معك العروسة هذه المرة، ستندم.

شد الشاب الموس بسرعة ومهارة تدرب عليها، وأشهره أمامهم. تكلّم للمرة الأولى فى ذلك الوقت الذى ظنه مساءً:

– كنتم إذن تهددونني بالتعذيب؛ لإخافتي حتى الموت. لن تنجح وسائلكم؛ لأن الموت لم يعد يخيفني.

تراجع المحقق بجوار كرسيه الأسود المتحرك.. وانكمش فيه.

أحاطت بالشاب بعض الأيادي؛ حتى لا يقترب قدمًا واحدًا إلى الأمام.. قال المحقق:

– ولا هذا الجنان سيدخل علينا. ستتقيأ أمامي بكل الأسرار حين أريك الموت، فاهم؟

تقنفذ المحقق فى كرسيه. هل يستعد؛ لإطلاق روائحه الكريهة؟ ليس هذا مهمًا؛ فقد انجلى الخوف. قال الشاب لنفسه. من الخلف هبطت على رأسه يد أخرى كمطرقة. أمسك الوجع بخناق الروح. هبطت الرأس للحظة، ثم تحامل. رفعها بمحاذاة جسده. خرجت من فمه آهة كالرعد في مساء شتوي مخيف. آهة للكون الذى لا تُحل ألغازه، وللبشر الذين يقفون حوله متظاهرين بالقوة.. قال المحقق:

– رجعوا المجنون هذا إلى غرفته؛ حتى أريه الموت، فيتكلم. 

وجه الشاب كأرض بور لم تنبت فيها ابتسامة واحدة منذ أُلقيَّ القبض عليه فى منزله، لكنه أجبر شفتيه فى تلك اللحظة، فارتخت. اتسع فمه بابتسامة غريبة قبل أن يصرخ فى وجه المحقق وأياد الأخطبوط التي أحاطته من كل جانب مقربًا شفرة الموس من رسغه:

– لست خائنًا، أو جبانًا، ولن أكون.. من الآن حياتي، وموتي فى يدي.

*****

خاص بأوكسجين