كانت همسات الموسيقى وفرقعات الضحك المكتوم تُسمع على الطريق المظلم. تمد خطاك. تقف بجوار السور خلف ألواح الخشب التي تنفرج مثل شفتين جائعتين. عيناك تدوران ببطء في حديقة البيت. تثبت عند أحد المشاهد. تكتم أنفاسك العالية. تضع قبضتك على قلبك المضطرب. مثل أصدقائك ترهف السمع؛ ليكتمل المشهد. كم تمنيت أن تلج من البوابة الحديدية التي يقف وراءها غير بعيد من الداخل عملاقان! الأصدقاء يتناوبون الفُرجة؛ حتى يفرغوا من ثقل اللذة. يقول أحدهم بصوت هادئ: “بُص.. بُص”. تحملقون بمرح.. رجال فقدوا السيطرة على أنفسهم، يطاردون النساء في الحديقة. تمزقك الرغبة، بين الدخول والتجربة، والحنين إلى ماضٍ قريب، لما كان ذلك بيت جدك، ثم ضيعه أبوك، وأعمامك…
– كلاب!
يرميك أبوك في بيتكم الصغير بنظرة نارية. يسأل من دون أن تنفرج شفتاه البنيتان المتيبستين. تقول بارتباك:
– هؤلاء! فيما تشير إلى التليفزيون وهو يكرر مشاهد عن ضرب العراق. لا يصدق إجابتك؛ فكثيرًا ما تشاهدان أخبار احتلال الوطن الكبير من شرقه إلى غربه من دون أن تهتز لكما شعرة.
كثيرًا ما تتخلص من ثقل الحشرات التي تأكل ذاكرتك. في ظلام حجرتك تعيد الماضي طازجًا، تعيد مشاهده بتأن. يغلي دمك. أنت تحفظ السر جيدًا. دمك الفائر يصعد إلى رأسك، ويدفعك للانتقام. فلتذهب وحدك، وتحاول.
بيت جدك هذا قديم. حضر العجائز الذين يجلسون الآن طوال النهار في باحة الجامع بناء البيت. يحكون كثيرًا مضخمين المشهد بأياديهم المرتعشة عن سيارات النقل التي أتت، ورجت حوائطهم الطينية العائمة على سطح الأرض، وأفزعت صغار طيورهم وبهائمهم في الدوار. كانت تلقي بالطوب الأحمر، والرمل، والزلط، والأسمنت، والأخشاب التي سرعان ما تبتلعها حوائط البيت وهى تعلو شيئًا فشيئًا. أهل القرية يحلو لهم أن يقارنوا بيت جدك بالسرايا. حتى في النهاية التي آل إليها مالكو البنايتين.
كانت السرايا، أيضًا، مبنية في خلاء مثل بيت جدك. اقترب الناس بحوائطهم الطينية الواطئة منها قليلًا، بعد أن أغلقها الوريث الوحيد المهاجر خارج القُطْر. الباشا الراحل أرسل الأشباح من العالم الآخر؛ لتؤدبهم. انتشرت الحكايات المرعبة حول السرايا. نمت، وتوحشت مثل أشجاره العالية، وتدلت مثل زهوره المتوهجة الكبيرة بأشواكها خارج السور الحجري الأبيض. لا يستطيع الماشي قطفها، لا بل ينحني ليتفاداها. أما جدك، الذي رهن البيت، ثم ضاع من أولاده، فلم يرسل أي أشباح من العالم الآخر. ترك بيته مثل ما كان حيًا: مشرّع الأبواب. مَحْمِيًا بأمان العزلة. لم يقترب الناس بحوائطهم منه، ولا بأعمدتهم الخراسانية حين تطور البناء خوفًا، فقط، من مالكه الجديد عطا الله الغريب.
الغريب أنه في زمن الخناقات الكبرى بين الأعمام تم إخلاء البيت؛ تحسبًا لخيانة قد تحدث. كان الأعمام يستعينون بمالك الرهون المرابي عطا الله الغريب وأعوانه بدل أن يتكاتفوا لسد ديون أبيهم.
كان عطا الله الغريب مالك الرهون ثريًا. محبًا للفن مثل جدك؛ فهو صديق قديم له. لم يشوه أيا من منحوتاته الجميلة، أو لوحاته التي تملأ الطرق والحجرات حين استولى عليه.
في الصباح يغلق البيت عيونه الخشبية. ينشر عمال عطا الله الغريب الكراسي الخشبية لرواد المقهى. في الليل يسَّرِحُون بنظرتهم الغليظة، وإلحاحهم في طلب المال معظم رواد المقهى من أهل القرية. يتجهز البيت وقتها للسيارات القادمة من الخارج، والوجوه المتوارية خلف زجاج “الفاميه”. يطلق البيت لهم عطره المجنون.
أخيرًا استطعت أن تصادق أحد الحراس. رأى فيك المراهق الذي يستعد للتضحية بكل ما معه للدخول. كنت تجلس لمدة أسبوع كامل في المقهى صباحًا. تمنح العمال بقشيشًا مغريًا. صادقت الحارس. غيرت اسمك حين سألك عنه. تعرف أن أسماء عائلتك في دائرة حمراء في جيب الحراس القادمين من خارج القرية؛ كيلا تأخذهم رأفة بأحد منكم. صدَّق الغافل فقد أعماه مالك الذي دبرته بمشقة.
كانت الأضواء في الداخل حمراء خافتة، وبدت الأجساد العارية كما لو أنها تخطو في الحلم. ملابس ملقاة في الحديقة، والطرق الضيقة. أجساد ملتحمة في كل مكان. كومة من الأجساد الواقفة، والنائمة، والمتساندة على الحوائط. رائحة العرق المختلطة بالعطور تضغط على أنفك. كأنما يمارسون انتقامًا ما. تحتك أثناء مرورك بأثداء مترهلة وصلبة، صغيرة وكبيرة. لا يوقفك أحد، ولا يسألك. هل كنت تتوقع أن يحدث هذا الجنون الجماعي في بيت جدك الضائع؟!
جدك، أيضًا، كان يحب الرسومات العارية. اطلعت وأنت صغير على بعضها وهو يخبئها أسفل كومة من الأوراق في خزانته، لكن لم يصل فكره إلى تلك السخافة الجماعية. أنت الآن خائف، ومصدوم، ومنتش في الوقت نفسه، كأنك ابتلعت مخدرًا قويًا. ترى السحالي والديدان المنتصبة في صراعها المتناوب على الدخول والخروج في الشقوق الآدمية. لا تصدق كم يكون هذا الأمر مفزعًا وكريهًا بهذه الصورة. لا بد أنهم قد نالوا قسطًا وافرًا من مخدر قوى، ومن ظلام متكاثف، ورائحة خانقة؛ كي يتلاشى إحساسهم إلا باللذة. أنت المراهق الذي تحلم بأجساد النساء، ولم تطل إحداها، تبتعد الآن. يتمزق شعورك بين الرغبة، وإكمال المهمة. ترى اللوحات على الحوائط كما تركها جدك، ترنو إليك بعيون متحجرة، وتتوسل بألوانها الكثيفة أن تأخذها معك. حاولت الصعود إلى الحجرة العلوية؛ فقد نما لديك منذ قليل أن تعرف كل شيء. لماذا مات الرجل الثرى، جدك، مديونًا؟! أولاده الآن يكدحون في وظائفهم صغيرة الشأن، ويلعنون كر الأيام. قد ينقذك، وينقذهم ما تعرفه. ضبطت نفسك؛ كيلا تمزقك الإثارة التي تعلو عندك وتتراجع مثل ريح الخماسين.
كان جدك وهو شاب يعمل مع الإنجليز، يورد لهم الخضراوات والفواكه من مزرعته. قيل: إنه راح بلادهم، ثم بنى هذا البيت على طراز بيوتهم. كان البيت قد أقيم على مساحة كبيرة في أول المزرعة من ناحية القرية. ارتفع لثلاثة طوابق، تنتهي بحجرة مربعة الشكل، بها شبابيك زجاجية. زجاج الشبابيك نائم على ظهر القبة، يُفتح لأعلى بأذرع متشابكة من الحديد. بدرجات الرمل والسماء طلي جدك البيت، وسورَّه بألواح الخشب، والأشجار الصغيرة، وظلل شرفاته باللبلاب، وزقزقة العصافير. ثمار المانجو كانت تمد فمها للعابرين إلى غيطانهم والعائدين. نخلتان وقفتا على مقدمة السلم الرخامي من الناحيتين. أشجار الليمون مزهرة، والتوتة في الجانب البعيد. كانت جدتك تساعدك في صعود أفرعها القريبة بعد إلحاحك لتأكل، وتطل من قريب على أعشاش العصافير واليمام والصقور فوق شجر “الجازورينا”. تتضوع الحديقة بعطر الريحان والفل والجارونيا. في الليل تجذب العشاق. يراقبهم جدك بمرح، ولا يهشهم بعيدًا.
رحيق الذاكرة يحمي أنفك من الروائح المختلطة في أرجاء البيت الآن. تتفادى لزوجة عرق الأجساد، وأنفاسها المخمورة. كما تتخلص من إلحاح إحداهن وأنت تعبر بحذر إلى أعلى. وأنت صغير كان جدك يحتوي أصابعك بين كفه الضخمة، ويأخذك من ذلك الممر إلى الحجرة العلوية. يشغل لك التليفزيون المُلّون، ويعطيك حلوى؛ لأنك كررت على أذنيه بعض قصار السور التي حفظتها في الكتاب. يظل يكتب بقلم “الكوبيا”، ويحرق سجائر كثيرة في منفضة زجاجية.
– بتكتب إيه يا جدي؟
يضع سبابته على فمه حتى تصمت:
– هُسْ.
أحيانًا يتجاهلك وهو يصعد لأعلى بعد وفاة جدتك مع أصدقائه الذين يكثرون من السهر عنده. تسمع الضحكات التي ترن خافتة، ثم تعلو فجأة، وقد تخمد فجأة. تنام بين تنقل أبوك الضجر في الصالة وحجرته. كان جدك ممتلئًا، أبيض الوجه. تذكر هدوءه وهو يحفظ الأوراق التي كتبها في صندوق خشبي كبير.
جئت من أجله الآن. لعله أخفى بالصندوق أشياء أخرى. يقفله بقفل أسود، ويضع المفتاح في جيبه. كان يريك كل شيء بالترتيب. يرفع بلاطة الأرضية الكبيرة، ويضع الصندوق، ويضع البلاطة، ثم يسوي السجادة، يقول لك بصوت هادئ: “هُسْ” وهو يبتسم ابتسامته الحلوة. كأنما كان يقول لك: أنت الوحيد الذي سيحفظ هذا لما يحين الوقت.
كنت ترى المصحف الكبير المخطوط بين يده، يتأمله أكثر مما يقرأ فيه. تنظر للخطوط الجميلة، تشكل منها رسومات، وطيورا، وحيوانات منطلقة مثل تلك المنحوتة بالحجر الجيري والرخام في أرجاء الحديقة، وأسماك البورسلين الملونة في مكتبته الزجاجية. ضبطت ذات مرة صورًا عارية في درج مكتبه في مجلة ملونة ملساء لما غافلته. لم تكن تدرك تأثير هذه الصور. تشمئز منها، وتخجل. لقد بحثت فيما بعد عن ثقب يعبر منه خيالك النزق؛ لتذكر تفاصيل الصور، وتُشْبِعَ ما ليس متحققًا لك في الواقع.
الآن أنت تبحث كلما كبرت قليلًا عن إجابة السؤال الملح: كيف كان هو الفلاح ابن التربة السوداء حتى وإن تاجر مع الانجليز عاشقًا للفن؟! عرفت من أصدقائه عطا الله الغريب الذي لم يحبه أبوك أبدًا.
لم يفرط عطا الله الغريب في قطع البيت الفنية. كان يضع، حسب علم رواد المقهى الصباحي، أسعار الغرامات إذا ما خدش أحدهم منحوتات الحديقة. قيل: إنه يتاجر في الآثار المصرية القديمة، لكن الشرطة لا تستطيع الدخول دون بلاغات رسمية. كانت القرية لا تفعل ذلك؛ لأنها تكرهه، ولا تستطيع الاستغناء عنه أثناء اشتداد الحاجة للمال، أو الرغبة في إشباع الرغبات المكبوتة.
أنت نجحت في إخفاء شخصك. ساعدك عطا الله الغريب نفسه الذي لم يسع لمعرفة الأحفاد؛ حيث ظن أن لا خطورة لهم؛ فهم لم يعاصروا كثيرًا سنوات المجد الغابر فيدفعهم الحنين للانتقام. كنت قد رأيته مرة وأنت في المقهى، نحيل، محني الظهر كما يحق لرجل جاوز التسعين من العمر ببضع سنوات. يخطو ببطء في جلبابه البيج الفاتح بين الزوار الذين ينحنون له؛ ليجلس مع أحدهم في ركن بعيد. كان معظمهم مدينين له بقروض كبيرة.
أخفيت ملامحك في زجاجة الكوكاكولا؛ حتى لا يجذبه الشبه، خصوصًا وقد رأيت عينيه تحدقان بفضول في الوجوه، تعلوهما ابتسامة خبيثة. عيناه اللتان تشبهان هُوَّتين لامعتين تحت خيوط حاجبيه الأشيبين الطويلين. أما جلد وجهه فكان كالمومياء، طبقة رقيقة سمراء مشدودة فوق عظام بارزة. أنتابك الخوف؛ فقد كان الرجل لا يعمل حسابًا لأي شيء، قد يوصي كلابه بأن يمزقوك إربًا لو عرف هدفك، ووقعت في يده..
ما سر صداقته بجدك؟ قد يكون هو وجدك قد تعاملا مع الإنجليز في الزمن الغابر. تراجع جدك بعد أن كوَّن ثروة، لكن الآخر لم يتراجع. ها هو يتقدم بثبات؛ حتى يبتلع كل ما كونه أصدقاؤه القدامى حسب علمك. يتعامل مع أبنائهم بمنتهى القسوة. لماذا لم يهجر جدك تلك القرية النائية على أطراف الدلتا، ويعش في بلاد الانجليز؟ أ لأنه كان يحب أن يعيش حياة الراحة الطويلة؟ أم ليقال: الحاج راح. الحاج جه؟ أم انفلت منهم؛ ليبنيَ مسجدًا صغيرًا فيطهر ماله الذي راح الآن قبل أن تسوء سمعته؟
أهل القرية ساهموا فيما بعد في حل مشكلات الإخوة المالية باعتبار أنهم يدفعون ثمن المسجد؛ فلا تجوز، كما تناثر الهمس حديثًا، الصلاة في مسجد بناه رجل مدمن للقمار. فاسق. تعامل مع المحتلين في الزمن الغابر.
لقد أتت بعد موت جدك نسوة شهيات بأوراق صغيرة بخط يده لعقود زواج عرفي. طالبن أبوك باعتباره أكبر أولاده بحقهن في الميراث. أتت أكثر من واحدة بابن أو بنت لا يشبهون أحدًا من عائلتك، وادعت أنه ابن لجدك. يثور أبوك وأعمامك، ويدفعون صاغرين للمرأة بعض أموالهم؛ حتى تقلع، ولا تعود لذكر سيرتهم.
أنتم الصغار حرمتم وقتها من المشاركة، أو الكلام. حتى لأمهاتكم اللاتي يبدون دائمًا مهمومات وهن يتنقلن بحرص وراء الأبواب. ينصتن لما يقال. كنت تعرف أنكم عاجلًا أو آجلاً سوف تغادرون البيت، وقد كان.
كنت حريصًا أيامها حين ترككم عطا الله الغريب في بيت جدك ثلاثة أشهر قبل أن يتسلمه إلى أن تبنوا بيوتًا للسكنى أن تبدو هادئًا وأنت تصعد السلالم إلى حجرة جدك العلوية. تأخذ الصندوق الذي أوحى إليك جدك قديمًا أكثر من مرة أنه لك.
في الحجرة المغلقة كنت تسمع أصوات حذرة. تواريت خلف الباب. خرج أحد أعمامك الذي كان يلف حول كتفيه عباءة سوداء. عرفته من جسده الضخم وهو يخفى في جوف العباءة المدلاة بعض الأشياء. تنفست مرتاحًا؛ فالصندوق لم يكن ضمن ما أخذه عمك. رأيت كثيرين من أعمامك يدخلون، ويطيلون المكوث، ثم يخرجون ببعض الأشياء التي يخفونها بين أيديهم، ثم يغلقون باب الحجرة بالمفتاح. كان ذلك قبل أن يسلموه للمالك الجديد. تحسب أن الحجرة أُخْلِيت، لكن وكأنما أخذوا عهدًا أن يدخل كل منهم؛ ليأخذ ما ينفعه فقط، من دون أن يضر إخوته.
كان جدك يمكث طويلًا في تلك الحجرة العلوية بعد موت أمهاتهم جميعًا. قد يكون سجل عقودًا، أو وصايا، أو أشار لبعض نقود في أماكن أخرى. رحلوا، وتركوا المنحوتات. لم يكونوا في حاجة إليها. هم ذوو الدرجات الخامسة والرابعة والثالثة في وظائف مهمشة. باعوا التماثيل الصغيرة والكبيرة أيضا لـ عطا الله الغريب، وبنوا بيوتًا صغيرة في حارات متفرقة. يحمل كل منهم في رأسه المتكلسة بالعار بعض ذكريات من الأيام الجميلة. كان عطا الله الغريب قد أنبأهم أن البيت تحت إمرتهم حين يستطيعون شراءه مرة أخرى؛ حفاظًا على العهود القديمة مع الوالد. لم يوف بذلك أبدًا، بل أنه أراهم في الأيام التالية وجهًا كالحًا متخشبًا كارهًا حين فتح المقهى. كانت أسماء أفراد العائلة في جيب الحراس الذين أستقدمهم معه من خارج القرية. إذا تصادف مرة ودخل أحد أعمامك إلى المقهى يتلقى مضايقة وفتورًا في المعاملة حتى يخرج، ولا يعود مرة أخرى.
صعدت السلالم بحذر. رأيت امرأة تتخذ وضعًا مثيرًا على السلالم، وأحد الرجال يلتحم بها بعد أن يفلت نفسه من أخرى. تحس باشمئزاز، وإثارة في الوقت ذاته. كأنك تأكل قطعة شوكولاته في حمام عمومي. تتفادى امرأة تضربك بإليتها العارية وهي تضحك. روائح الحديقة لم تفلح في تغطية روائح الجثث المتحركة تلك. على باب الحجرة العلوية لما وصلت إليها يقف حارس. ينشغل هو الآخر بامرأة خمرية؛ الضوء الأحمر يسيل على جسدها مثل خيوط الدخان.
بحذر تدور من خلفه. تفتح الباب بالمفتاح الملقى على الأرض. المفتاح الفضي اللامع هو نفسه. ببطء تفتح. تنسل إلى الداخل، ثم تغلق الباب بهدوء. لم يكن معك وسيلة مساعدة؛ ففي الليل يأخذ حراس البوابة منك كل شيء: المطواة، وسلسلة المفاتيح، والهواتف المحمولة. تستردها حين تخرج.
من الزجاج يفرش البدر البازغ نوره على نقوش الأبواب اللامعة. سجاد الأرضية مختلف عما تركه جدك. لقد أعاد عطا الله الغريب ترميم البيت من الخارج والداخل من دون أن يمس أي شيء جوهري في بنائه. الدولاب الزجاجي تبدو أسماكه البورسلين في الضوء القمري كأنها تسبح في الأعماق. زحزحت المكتب بحرص؛ خوفا أن يصدر صوتًا يسمعه الحارس. لحسن حظك كان الحارس ثملًا بالمرأة التي معه. ترفع السجادة القطيفة لأعلى، وترى البلاطة الثالثة من الحائط كما رأيتها وأنت صغير، جوانبها مشبعة بالأسمنت الملون بالأزرق، كأن أحدًا لم يقترب منها. تأخذ خنجر الزينة، والولاعة الذهبية من فوق المكتب. تحز البلاطة من جوانبها المشبعة بالأسمنت. إنها الفرصة الأخيرة ربما. إذا أفرغ الحارس مبكرًا فيا ويلك. يدفعك الخوف إلى انجاز العمل بسرعة وبراعة إلى حد ما.
ترفع البلاطة لأعلى بسن الخنجر، ثم تمسكها بيدك، وتنحيها على السجادة. يفاجئك الصندوق ببهائه. ألم يعرف أحدهم مكانه؟! ينتابك الشك، حتى تثبت لك الحقيقة، حقيقة أن تفتحه، وترى ما به. ترفع الصندوق الثقيل. تراه في ضوء نار الولاعة التي تدخلها في جوف البلاطة متكئًا على حواف تحتها سلالم. أين تصل؟ يدهشك الاكتشاف الجديد. هل كان الجد يستخدمه؛ لمراقبة أولاده مثلا؟ أم أنه ربما يصل إلى مكان ما خارج البيت استخدمه لتهريب بعض الأشياء، أو إحضار بعض نسائه الذين شاهدنا منهم الكثير. كان يمارس حريته على أقصاها في بيته، من دون أن يدخل نفسه في سجال مع أولاده؟! لقد بيع البيت في الزمن الشحيح، وأنت أخفيت حقيقة تتأكد الآن أنك تعرفها وحدك دون بقية العائلة.
كان يمكن لهذه الحقيقة أن تنقذ وضع العائلة المالي، وتنهي عراك الأعمام المتواصل؛ ليتخلوا عن بيع المزرعة حتى آخر قيراط. كان يمكن أن تفعل ذلك. أنت الآن في اختبار. تضبط نفسك بقوة كيلا تقهرك الأصوات، والمشاهد التي رأيتها تقرر أن تمارس المغامرة إلى نهايتها. الصندوق مقفل. لم يفتح إلا بالقوة التي كلفتك مجهودًا مرعباً. تهبط السلالم. قدماك تغوصان في ظلامهما. تعود، وتفتح الصندوق بقوة أكبر. ينفتح قبل أن تتورط في مجهول صنعه جدك. قد يكون سبيل الإنقاذ، وقد يكون سبيل الوقوع في فخ إذا ما كان أحدهم قد كشف سره، وانتظر حتى يوقع بمن يعرف بسر الصندوق. صوت التحام الحارس بالمرأة يعلو. يثيرك ويطمئنك.
في الصندوق مسدس أعلى أوراق، وبعض تماثيل فرعونية صغيرة. تفر الأوراق بسرعة. كمبيالات ممضاة. صور كثيرة للرجال والنساء الذين يتوافدون هنا، وبعض أوضاعهم المخلة. بعضها أُخذ من دون علم أصحابها، لقد أوهموهم بالأمان جراء العتمة الخفيفة، والأقنعة التي يضعها بعضهم على وجهه. أعوان عطا الله الغريب المنتشرين في أرجاء البيت نجحوا في كشف هوياتهم بالصور.
يغزوك شك الآن في أن عطا الله الغريب قد يكون عرف شيئًا عن الصندوق، لا بل قد استبدله . يعلو الشك بعد أن تفر بعض الأوراق فلا تجد أي ورقة بخط جدك الذي تعرفه. تداهمك الآن اكتشافات كثيرة؛ فهو فتح المقهى – رغم احتقاره الظاهر لأهل القرية – خصيصاً ليشوه صورة جدك، وينشر الأكاذيب بعد رشوتهم بلذات مخفضة الثمن. قد يكون جدك مناضلًا مارس الشغل مع الانجليز؛ ليعرف خفاياهم، ويساند الوطنيين؟ وقد تكون خسارته لكل أمواله إبان السنوات الست لوقوع سيناء في أيدي إسرائيل قبل تحررها قد استنزفته؟ كان بعض الضباط يزاولون الحضور إلى البيت. يحكون كثيرًا، بعد استرداد آخر جزء من سيناء، عن كرم جدك وبطولته. تختلط الأخيلة والحقائق في رأسك الآن في لحظة ثقيلة، لا تتيح حتى ترف المقارنة. هل كان جدك عربيدًا مقامرًا صاحب مزاج، أم وطنيًا فدائيًا حتى وإن مات على سريره النحاسي بين عيون أولاده؟!
تندفع إلى السلالم، والمسدس في يدك اليمنى، والولاعة المشتعلة في يدك اليسرى، والرغبة تملأ صدرك في اكتشاف المجهول. تهبط لأسفل. ظلام يسلمك إلى ظلام، إلى همس يعلو شيئًا فشيئًا. لا بد أن أوراق جدك موجودة في مكان ما. أشخاص مثل عطا الله الغريب من تثار حولهم كل الشبهات. لا يمكن أن يتخلص من أي أوراق بها أقل فائدة. قد يحتاجها يوماً، للمساومة عليها.
تهبط السلالم إلى حجرة في الأسفل، مضاءة بلمبة كبيرة تتدلى من السقف في غطاء من الزنك إلى منتصف الحجرة. براميل الخمر الخشبية أمامهم، يملؤون منها الزجاجات. بعضهم يشحذون بعض الأسلحة البيضاء، وينظفون أسلحة نارية: إذا كان الرجل يملك كل هذه الأسلحة فلماذا يحتفظ بمسدس قديم أعلى الأوراق؟! يدور رأسك مرة أخرى. هو كصديق لجدك يدرك أنه لن يموت طامسًا كنزه الأهم من دون أن يكلف أحدا بالكشف عنه. ربما انتظر سنوات؛ حتى يسقط آخر من يعلم بمعلومة عن الكنز، وها قد وقعت يا شاطر! لم تكن،إذن، بطولة حين سهل لك الحارس الدخول من دون زملائك الذين يصارعون مراهقتهم خلف الأسوار، لا بل تغاضوا عن دخولك الحجرة. ربما كان رجال عطا الله الغريب على مداخل البيت، الذين لا تغفل عيونهم حتى عن الحارس الذي لم ينته بعد، قد أسهموا في الإيقاع بك. ربما نعم! ربما لا! تمسك بأمل أخير. لا تستخف بمهارتك التي خططت لها كثيرًا.
في البداية أردت دخول هذا العالم الساحر، وممارسة اللذة المحروم منها دون قيود، ثم استيقظ هدفك في لحظة لما اختزلت بؤسهم في السر الذي تعرفه. عليك أن تظل ممسكًا بخيط الإنقاذ حتى النهاية.
كانوا أربعة رجال وثلاث نساء، في الحجرة يتبادلون الضحك والمداعبات الجسدية، وهم يعملون. كان تنفسك عاليًا وأنت تراقبهم فيما تضبط نفسك. لم تستطع ضبط نفسك أكثر من ذلك. شعرت فجأة أن جسدك كله قد أصبح يرتجف باللذة، وعينيك تمسك بالمشاهد المتحركة من دون أن تفلتها، فخرجت منك آهة متوجعة مع تدفق منيك. سمعك أحدهم، وتحرك باتجاهك. انتبه الجميع وجاءوا في اتجاهك. تراجعت إلى الظلام مرة أخرى.
لا. لم يكن هناك خطة. قلت لنفسك: لقد خدعت الجميع فعلًا. عليك أن تكمل حتى النهاية. تشعر بالقرف والإعياء، والرغبة في المواجهة، مع احتياطات لازمة للفرار إذا لزم الأمر. وضعت الصندوق كحاجز، وغطيته بالبلاطة. كانت الطرقات على الصندوق من الأسفل ترج قلبك. تواريت جنب الدولاب. سمعت همسات متسرعة بجوار الباب. انفتح الباب. واجهت الحارس المحمر العينين بضربة من كعب المسدس على رأسه. ترنح، وسال دمه. جررته إلى خارج الحجرة. صرخت المرأة فجاء حراس آخرون. دفعت المكتب الخشبي خلف الباب. كسرت زجاج الشباك المائل على ظهر القبة. في الخارج نور القمر يملأ سماءً مضطربة. مشيت على الحواف السفلى للقبة. من الحديقة أطلت عيون، وبدأت أجساد تخرج من وراء الأشجار؛ لتراقب ما يحدث. أمامك شجرة التوت تستطيع أن تقفز عليها؛ لتنال أخف الضرر. قد تصرخ، لكن صراخك لطلب النجدة من أهل القرية لن يصل؛ فهم يغطون الآن في نوم عميق، والمسافة التي حافظ الناس بها على عزلة بيت جدك القديم لن تصل بالصوت إلى الساهرين في عشش الطرق الزراعية، وأسطح البيوت. ليس من وقت طويل أمامك للتفكير. باب الحجرة يرتج بقوة تحت ضربات الحراس، ويوشك أن ينخلع. ربما تتوقف حياتك على قرار واحد في لحظة. تتأكد أنه ما من سبيل للنجاة دون ثمن. لقد أخلى الحراس الحديقة أيضًا. أمروا من فيها بالمكوث في الداخل. أنت منحن على إطار النافذة مكسورة الزجاج. قفزة واحدة، وتكون أعلى شجرة التوت التي تمد لك أصابعها. خطوة واحدة تفكر فيها للحظة. المسدس قديم، به طلقة واحدة، وأنت لا تريد أن تساوم عليها. تطلقها بسرعة باتجاه البيوت، ولأعلى قليلًا متيقنًا أنها سوف توقظ القرية.