1
لا تتساءلي، ولا تمنحي غيرك حق المعرفة. كلُّ الحكاية مجرَّد ادّعاء. كأن يخرجَ أحدهم صباحاً ليشتري جريدة فيقع في حبِّ دبابة وسط الشارع. لا أحدَ يعرف ما ينتظرهُ وراء الجدار، النوافذ منذ الشتاء الماضي مغلقة والأبوابُ بلا عيون سحرية لتمنحَ الخارجَ إلى حربٍ مجهولة حق العودة. الأمور محسومة سلفاً ولا وجود لما يسمى شعرياً بحالة حصار. ثمَّ لماذا أنتِ شاحبة هكذا ولا تحاولين الاتكاء على كلمة طائشة مما أقولُ كي تزيحي هذا اللبسَ الذي اعتلى وجهك الصباحي الجميل. صحيح لم نشرب قهوتنا بعد، رغم أن البنَّ المتبقي فقد رائحته الزكية وحتى السجائر أصابها الضرر من هواء الغرفة وثقل الهواجس.
أذكر كيف كنتِ تطاردينني بالأزهار مثل بطلة فيلم “الساعات” مسزدالوي وأهرب إلى النافذة العالية مدفوعاً برغبة الانتحار المتأصلة في الشعراء. أتماطلُ في ارتداء بذلة سوداء بربطة عنق نحيلة وأنا كالطفل المتردد، أرفض الذهاب إلى الحفل. وأتخيلُ جسدي المنهك يدخل مدرسة الحياة لأول مرة. يتعلم أبجدية المصافحة والابتسام والمجاملة بالعيون وتقطيب الحاجبين .. وكيف يقولُ شكراً بالأجنبية دون أن تتحرك الشفتان أو يخرج اللسانُ كاشفاً أسنانَ سنوات طويلة من الشرب والتدخين والكتابة.
أذكرُ كيف أوقعتك في فخِّ الكتابة. وصارَ شعركِ القصيرُ أحجية أستعيدها كل مساء، كفُّكِ اليمنى حظي الذي لم أعثر عليه خارجَ تلك الخطوط الوردية. عيناك بحري الذي غطيتُه بأوراق النعناع وحرمتُه من زرقةٍ غادرت قصائدي إلى حين. جبينكِ طريقي المزعوم إلى الله. شفتاك مآل جحيم اصطناعي، تفتحان أبواب جنة ما، بابتسامةٍ صارت هي الأخرى فراشي وكفني. أذكرُ هنا، أنَّ هذا الوصف لم يعجبكِ ولما كان مكتوباً بطبشور أبيض سهل مسحه ونفض الغبار بعيداً في العراء.
أستعيدُ الشاعر اليوم، لأرتكب ما استطعت من الحماقات. ولأثبت أنَّ هذا السقف الهشَّ الآيل للسقوط في أي لحظةٍ، أقوى مما يحتملُ رجلٌ وامرأة جمعهما ألبوم صور ودفتر عائلي. بينما مزقت أيامهما العائلة، والقصائد ونشرات الأخبار. صحيح هذا حديث سرِّي للغاية. ولا يليقُ بنصٍّ أدبي يكتبُ بالطبشور على سبورة تحتل ركناً من الغرفة. حسناً ربما الممسحة ما يمنحني هذه الرغبة في الكلام. وفكرة الغبار المحلق تمنحني شيئاً من الاطمئنان، عندما أعرف أنَّ ما أكتبه سيذهب أدراج الريح. ولا يتبقى منه غير القليل مما تحفظُ الذاكرة.
2
أستعيدُ جسدي الذي لا يعرف المجاملة حين يجمعنا عريٌ. أستعيد جسدكِ الذي يتقنُ الإيديولوجية حين يتعلق الأمر بصراع الرغبات، لا شيء يضفي على العالم صفةَ الجمال غير مضاجعة عنيفة بالقرب من حاوية القمامة، حيث يميلُ ضوء عمود كهربائي ليكشف مصدر مواءٍ يشبه الأنين. في مشهدٍ آخر، لمسافة مائة وعشرين متراً من باب المقبرة تمضي المرأة العجوز يرافقها ظلٌّ عادة ما يُرى متكئاً أيام الجمعة على جذع زيتونة، كأنه ينتظر مرورها بعد الظهيرة، ليؤنسَ وحدتها القديمة. أتساءلُ ما نفعُ الكلماتِ التي نجمِّعُها في صناديق ورقية ولا تصلح للحظةٍ كهذه.
ربما وحدكِ تدركين ألاعيبي في تعريف الحياة، الموت، الكتابة، أصدقاء المقهى، الشعراء .. لن أكرِّرَ ما قلتُ سابقاً عن إله أصابه الضجر، فاخترع الحروب والمسرحيات. هناك دائماً أبطال ترافقهم الجماهير، بالتصفيق أو الشتمِ أو القتل وطبعاً الموت. دعيني أزيحُ عن عينيك الناعستين خصلة الشعر هذه، انظري جيداً في عينيَّ، ماذا ترين؟ لن أغضب، تكلمي بكل حريةٍ .. ويسعدني أن أسمعك تتمتمينَ: أرى جرذاناً مذعورة تجري في كل الاتجاهات، يطاردُها أناس جائعون. أرى ضفادع مفقوءة الأعين تقفز في النار، ثم تُلتهم دفعة واحدة. أرى أشجاراً تحترق وتبحث عن الإيقاع لترقص رقصتها الأخيرة. أرى حناجر متعفنة وأصواتاً مبحوحة تبحث عن صداها الأول. أرى طرقاً تتلوى، مصابيحَ تنطفئ تباعاً، وشموعاً تحتضر. أرى ما لا عينُ غزالةٍ ترتدي قميص نومٍ رأت، وما خطر على بال شاعر.
أما أنا، فتشغلني فكرة أخرى، بعيداً عن لوحاتكِ الجميلة المحشورة بموهبة رسامة محترفة في بؤبؤي عينيَّ، كم خصب ونديٌّ خيالك لكنني مضطرٌّ لأن أقطع حبل المودة بيننا، وأعلنَ عدائي لكل ما يصدر عنك من تصرفاتٍ أنثوية. أريدكِ أن تستعيني بكامل الحقد الموجود في العالم لتغرسي أصابعك العشر في صدري، هناك حيوانٌ أليف أريدُ أن أتركه كهدية أخيرة لك. ضعيه في قفص حديدي، داخل أكواريوم، على رفٍّ صغير، في الثلاجة، أو في درج خزانة غرفة النوم.. أنّى شئتِ، المهم ألا تبقيه من حيث اجتثتهُ يداك الناعمتان. هكذا سأصيرُ خفيفاً، عدائياً بما فيه الكفاية لأكتب نصاً طويلاً أفتحُ فيه النار على كل شيء. حتى عنكِ جميلتي وعنيِّ.
لا تأبهي بمأكله ومشربه. تكفيه بقايا الأشياء. تسعده أعقاب السجائر التي خلَّفتها شفتاك بعد ليلة حمراء. رغوة الخمرِ في كؤوس السهرة وما تجمَّع في قاع الفناجين من قهوة صباحية. يحبُّ فتات الكلام والهمس آخر الليل. تنعشه الذكرياتُ حين يرتفعُ صوتُ المذياع فجأة، وتصله بحةُ صاحبه في نشرة الأخبار. يستعينُ كي ينام بصراخِ ابن الجيران وصخب التلفزيون وما يصدر عن كعبك العالي من طقطقات في الرواق المظلم. لا يزعجهُ أن يصدر جسدك تأوُّهاتٍ ليلية يُصاحبها نباحُ كلابٍ عابرة في الشارع ومقطوعة صوفية تأتي من مكان مجهول. فقط لا تسمعيهِ موسيقى تصويرية على خلفيةِ “لقطة نقية جداً” بعد أن تأخذيه “إلى السينما” مع لميس سعيدي وتقرأي له بصوتٍ دافئ مقاطع من “مشهد الأفلام الرديئة” .. لأن في ارتعاشِ جدرانه الهشة، وهو الحيوانُ الأليف الذي لا شكل له، إثارةٌ للمشاعر الدفينةِ، تلكَ التي نهربُ منها كي يُقالَ عنا أنتم شعراء حداثيون.
تسألينَ بخبثِ امرأة خرجت للتو من حلمٍ غارقٍ في الوحل: عن أي فكرةٍ تتحدث؟
3
لنروي قصصنا الساذجة هنا، نضيفُ لها خيبةَ يومٍ واحد في هذه المدينة الاسمنتية، القليل من الثقوب التي تزيِّنُ أرواحنا الضالة وشيئاً من الأكاذيب. كأن نقولَ مثلاً: التقينا في يوم ماطرٍ وكانت السماءُ قريبةً لنقطف غيوماً خضراء وأحاديث سرِّية لملائكةٍ تناولوا قهوتهم باكراً ودخَّنوا الكثير من السجائر في انتظارِ أن تتقاطع نظراتُنا ويهمسَ أحدنا للآخر: ها أنت..
“صباحُ الخير” كانت كافية لنُلحِق كلَّ هذا الأذى بالعالم. ونتحول إلى كائناتٍ تحترفُ الألم، تحشوهُ في قصائدَ لا يقرأها أحد. أو تطليهِ على الجدرانِ وترمي بسهامه السقفَ الأعزل في غرفةٍ تزوجنا فيها لنُكمل مشهداً إضافياً لمسرحية: الحياة خرقة بالية.. تحتاجُ إلى أشياء أخرى لا علاقة لها بالشعر كي تصيرَ: بساط الريح السحري .. وها نحن، ينقصنا بابٌ موارب، نافذةٌ مفتوحة قليلاً وضوء خافت لتنطلي حيلتنا المشتركة على من ينصِت بإمعانٍ لهذا الهذيان.. صحيح لم أخبرك ولعلك تدركين ذلك أنَّ الفضول يتملَّك عامة الناس، حين يتعلق الأمر بشجارٍ عنيف بين رجلٍ وامرأة، ترميه فيه بمنفضة السجائر، وزجاجة البيرة الفارغة، وحذائها الأرجواني، ومزهريةٍ مقلَّدة وتمثال بوذا صغير وكتاب الأعمال الكاملة لوديع سعادة وما يقعُ في يدها اليمنى من أدواتٍ للزينة كمشطها العاجيَ ومرآتها الفضية وأحمر الشفاه، أصدها كلّها بذراعيَّ وأصابع يديَّ مجتمعةً، لا خوفاً من خدشٍ أو جرحٍ أو كدمةٍ أو ندبة أعلى الجبين.. إنَّما لأداري فرحاً غامضاً وأنا أحترق بحمى بركانٍ لا أدري كم صليتُ في السرِّ كي ينفجر.
لا أذكُر سبب الشجار الدامي ليلتها، وقد حدثتُكِ بإسهاب عن إعجابي بأفلام “غونزاليس ايناريتو” القليلة، خاصةً “21 غرام” وتكرار المشاهد بشكلٍ استباقي، كما لو أنَّ الحياة ذاكرةٌ مستعادة. والكاميرا التي تتحرك بلا هوادة كأنَّ الكتف التي تحملها أرهقها تصدع أبطال الفيلم. أو لنقل كي نجمع اللقطات المتلاحقة في لوحة كولاج متسقة مع أسطورة الغرامات الواحدة والعشرين تلك. حدثتك لساعاتٍ ولم أذكر أنني كتبتُ نصاً يحملُ نفس العنوان وحذفته من مجموعتي الثانية بعد أن جعلتُ منه محاولة فاشلة لتركيب مشاهد محذوفة. نعم، المجموعة التي ستقرأين فيها أشياءَ أخرى قد لا تعجبكِ وقد نتشاجر لأجلها مرة ثالثة ورابعة وخامسة .. حتى يأتيَ هذا البركان الخامدُ الذي أشتهيه الآن عليَّ وعلى كلِّ شيء من حولي.
لا أدري كم مرَّة رجوتكِ أن تخبريني بماذا أرميكِ حين أغضب؟ بماذا تحبين أن تُضربيِ ويسيلَ دمكِ ساخناً من شدة الألمِ والصراخ، وهل تفضلينَ لعبة شدِّ الشعر وتمزيق الجلد بالأظافر والأسنان؟ أم يعجبكِ سماع تكسير العظامِ باليدين الهائجتين وما تخلفه القدمان من بقع زرقاء وبنفسجية على جسدكِ القمحي؟ في الحقيقة أراها طرقاً مستهلكةً وربما سبقني إليها غيري من الرجال والشعراء وحتى الرسامين الذين أحنُّ إليهم.. لذلك سأعمل بنصيحة جدتي المقعدة وأكشفَ أسرارَ عشرتنا القصيرة وما سربتُ منها إلى هنا، في شكلِ أنفاسٍ متقطعة وقُبلٍ طازجة ودموعٍ مُباغتة وسعالٍ مألوف ومواءٍ غريب وهمسٍ منحدر من أعلى الشهوة وضحكاتٍ وشتائم وأحذية وملابس داخلية وبقايا قصائد تستندُ إلى لسانٍ رخو.
أعترفُ أنَّكِ تمتلكينَ قدرة رهيبة لأسري بين أشيائك الساذجة، بينما تتجمعُ الخيبةُ تلوَ الأخرى في الخارجِ لتمنعَ عنّي الرؤيةَ والنظر والتطلعَ إلى ما بعد هذه النافذة المزيَّنة بستائر موعودة بأطيافِ من رحلوا .. وما أكثرهم هذا العام. تضيقُ الظهيرةُ حتى لا تسعَ سوانا وفنجان قهوةٍ وسيجارتين وبعض الفقراتِ ذات الريتمِ السريع من رواية سمير قسيمي “يوم رائع للموت” وذكريات وصية قديمة بيننا..
وها أنا ..
تافهٌ في سرّي
تائهٌ أكثر
أجرُّ أحلامَ العمر كعربةٍ سحرية
أنا حمارُها الذَّهبي
أجزمُ أنها خاتمة حمقاء لمغامرةٍ أردتها أطول من انتظاري ومن رجليك حين تطوِّقان جسدي النحيل وتتلاعبُ قدماك الحافيتان بهواءِ الغرفة الثَّمل.
حانَ دوريَ الآن لأسأل: ما الذي جعلني أعودُ من القبرِ بعد موتي الأخير؟
*****
خاص بأوكسجين