الأَلواحُ الشرقيّة
العدد 281 | 29 كانون الأول 2023
نوري الجراح


I 

رباعية هيلن

I

المركب الطروادي

في البحر السوري

من منكما كانتْ في اسبارطة؟

أنتِ أم شبيهتكِ،

وتلك المراهقةُ التي ظهرتْ على سلَّم من الغيمِ في بيتِ مينلاوس

أيُّ امرأةٍ كانتْ لتقولَ لبارس: أنا أحقُّ بالتفاحةِ؟

***

ولو الواحدة منكما وقفتْ في جوارِ الأُخرى

هنا أو هناكَ

في مصرَ، أو في صيدون،

وحتى في اسبارطة المنكَّسة البيارق حيثُ وقعتِ الواقعةُ،

كيفَ يمكنُ لشبيهةٍ بكِ أنْ تكون؟

***

من منكما أَهْدَتْ ظلَّها لرخامِ الردهةِ

وفي نورِ التفاتتها، في نظرةِ العينِ مستطلعةً الخطوةَ

ومنتظرةً تفاحةَ العاشقِ،

تأَلَّق الشَّغَفُ، وهامت الشغافُ؟

***

وعندما هَبَّتْ الرّيحُ، ونُشِرتْ القلوعُ، وتوارى السَّاحلُ الإغريقيُّ وراء السّاحلِ السُّوري،

بَعْدَ ليلٍ أُخرِجَ مِن ليلٍ، ونهارٍ مبهورٍ راحَ يَتمرأى في طلعةِ نهارٍ،

من رأَى الشّعرى اليمانية تباري القرين بوهج لآلئها،

وتسلسُ الموجَ للربانِ الطرواديّ ومركبِهِ المحفوفِ بأنوارِ الشقيقاتِ السَّبعِ..

كنتِ مغمضةً على ذراعِ المراهقِ تحتَ نجمةِ الصبحِ.

***

من منكما، قطَّرتْ في نحرها طيباً،

ظفارياً

ورفلتْ في أرجوانٍ دمشقيٍّ،

ولم تعبأ بالأمواجِ العاتيةِ ولا بصرخاتِ البحارةِ

وهي تتكىءُ بمرفقها على الدِّمَقْسِ

بدلالٍ

لتضيءَ رحلةَ المركبِ الطرواديِّ في البحرِ السوري.

***

وفي العاصفةِ تصفعُ الأشرعةَ وتحملُ البحارةَ على الهذيانِ

من منكما تضرَّعتْ لبوصيدون،

وعندما وطأتْ بقدمها اللطيفةِ أرضَ الميناءِ

من منكما تنزهتْ على الشاطىءِ وهتفتْ: يا لها من مدينةٍ!

***

من منكما، من منكما أعطتْ مرفقها لذراعِ العاشقِ

وتخطَّرَتْ في أسواقِ صيدا،

وفي بستانِ بعل شْمون

تمنَّتْ

وهي تنظرُ كرسيّ عشتار،

مبهورةَ الأنفاسِ،

من الحبِّ

لو أنَّ أبولو لم يبصر النورَ في الأولمبِ،

ولكن هنا، على صفحةِ هذا الماءِ المتلألىءِ المسبِّحِ باسم بوصيدون،

فلا تبقى أفروديت وحيدةً في عسقلان!

***

من منكما كانت هيلن، عندما لم تكن الأُخرى سوى وهمِ صورةٍ،

آيةٍ من جمالٍ مراهقٍ

لاحَ في خيالِ ربَّةٍ ضجرةٍ

اتكأتْ هي الأخرى على أريكةٍ تحتَ كوكبِ الزهرةِ،

ولم يكن لها نظيرٌ بين ساكناتِ الأولمبِ،

وقالتْ لنفسها: لنجرِّب هذه اللعبة.

***

والآن، ومن ورائكِ النيلُ، والهلالُ يرمقكِ، حزينةً تقفينَ في المرآةِ،

 وتهمسينَ للأُخرى:

هل أنتِ أنا وأنا لا أحد؟

***

لم يكن سواكِ هناكَ،

لم يكن هناكَ

في مصرَ

سواكِ

ومعصمكِ المراهقُ يبهرُ ديباجَ الأريكةِ

لأن ما من قادرٍ على خلقِ جَمالٍ آخر يشبهُ جَمالكِ،

سوى ذلك المنشد الأَعمى

وجمالكِ الضوءُ.

II

دموع إيفجينيا

لمَّا سَكَنَ الهواءُ، وتهدَّلت الأَشرعةُ،

شَعَرَ القباطنةُ بالقلقِ،

وفي مضيقِ أوليس تلفَّتَ الجميعُ جهةَ الجبلِ،

في

انتظارِ

الإشارةِ..

إذْ ذاكَ ظهرتْ إفجينيا

وقدمُها العذراء

غافلةً

عما كانوا يترقَّبون..

 

وعندما سمعَ المنشدونَ العميُ المصطفونَ على الشاطىء

كلماتٍ غامضةٍ تلعنُ الجمالَ الطاغي..

رأتْ كلوتمينسترا في محاجرهم الغائرة دموعاً لا مرئيَّة

وسمعتْ همسَ فتياتٍ صغيراتٍ

يتساءلنَ:

لم ينبغي على إيفجينيا أن تتقدَّمَ على الجُرفِ، ولِم على المراكب الألف أن تبحر؟

***

الحماسيونَ المتجمهرونَ،

لمْ يَتَساءَلوا

لماذا ينبغي أن تحتشدَ في هذا المضيقِ كلُّ هذهِ السفن، وتُرفع الأَشرعة..

ولأجلِ أيّ أمرٍ خطيرٍ تقاطرَ كلُّ هؤلاءِ الرجالِ بالسيوفِ والدروعِ وآلاتِ الحصارِ؟

ولمَ يتوجَّبُ على كلِّ هذه المراكب، أَصلاً، أنْ تغادرَ هذا المضيق؟

لم يُتْرَك لأحدٍ أن يفكِّرَ بمَ سيرجعُ الرُّسُلُ غداً من أرضِ المعركةِ،

لأنَّ الكرامةَ، كما قالَ الخُطباءُ،

تقتضي

أنْ يُلَقِّنَ الإغريقُ الطرواديينَ الدَّرْسَ الذي يستحقون.

***

الصيادونَ والمزارعونَ والرياضيونَ ومعلمو الصبيةِ الرزينونَ الذينَ تركوا أعمالهم وهُرعوا إلى المراكبِ، قالوا إنّ العارَ سيغمرُ الإغريقَ، لأنَّ رجلاً من طروادةَ أَغوى امرأةَ رجلٍ من اسبرطةَ.

استبدلوا الشباكَ والمناجلَ والمطارقَ وألواحَ الكتابةِ بالأقواسِ والسهامِ،

والنساءَ المفجوعاتِ بأحلامِ البطولةِ…

كيفَ أَمْكَنَ لامرأةٍ صغيرةٍ

امرأةٍ جَنَّنَها قَلْبُها أنْ تُضرمَ النارَ في شرايينِ كلِّ هؤلاءِ الرجال؟

أَنْ تَجْمَعَ الصناديدَ من كلِّ مملكةٍ وجزيرةٍ

وتحشرهم في هذا الخليجِ الضَيِّقِ؟

حتى لكأنَّ الإغريقَ جميعهمُ ناموا في ليلةٍ،

واستيقظوا،

ورأوا في قَدَمِ امرأةٍ طائشةٍ

الأرضَ والسماءَ والحدائقَ المعلّقة.

المراكبُ تنتظرُ، دماءُ الأبطالِ تَفُورُ..

والغسقُ يرمقُ الراياتِ..

ولا هواءَ..

لا هواء..

ولمَّا طالَ الوقتُ،

سألت الجوقةُ ما إذا كانتِ الآلهةُ راضيةً، حقاً، عن كلِّ هذهِ القصة،

أَمْ أنَّها لنْ ترسلِ الرِّيحَ إلى الأشرعةِ،

قبلَ أنْ تقبضَ لقاءَ كلِّ قطرةٍ ستهرقُ منْ دماءِ الأبطالِ

تحتَ أسوارِ طروادةَ:

دمَ

عذراءٍ

في

جرَّةٍ!

كلُّ من سَمِعَ كلوتمنسترا، وهي تلعنُ جمالَ هيلين،

هاتفةً بأجاممنون: لنْ أَسْمَحَ لكَ بهذا.. لنْ أَسْمَحَ لكَ!

عَرَفَ أَنَّ الدَّمَ سيُهرقَ، والرِّيحَ ستهبُّ، والمراكبَ ستبحرُ

قاصدةً

طروادةَ

لأَنَّ الحُبَّ والحَرْبَ مراهقانِ دمويانِ.

أُمِّي،

أُمِّي

خُذْي دُموعيَ واذْرُفيها عَلَيَّ

لأَن لَيسَ مُقَدِّراً لِيَ أَنْ أَبْكي نَفْسي.

 III

هيلن في كرسي عشتار

هلْ يليقُ بأُخرى غيريَ، هذا الكُرسي المُجَنَّحُ،

أنا ابْنَةُ ليدا المتحدِّرةُ من سلالةِ إغريقيينَ سَرَتْ في دمائِهمُ كواكبُ الشَّرقِ!

هلْ يليقُ بواحدةٍ أُخرى غيريَ، أَنْ تُبْهِرَ الناظرينَ بجلستها التَّرِفَةِ

حيثُ جلستْ عشتار؟

 

ولدتُ تحتَ بُرْجِ الحَيْرةِ، في ضوءِ كوكبةِ العَذراءِ،

وبعينيَّ الهائمتينِ رَمَقْتُ الجَمال وسمعتُ خَبْطَ أَجْنِحَةٍ

ولمّا تساقطت النجومُ في الحقلِ رأَيْتُ نجمتي تسافرُ صُحْبَةَ عطارد،

وعُشّاقيَ الأَحَدَ عَشَرَ

بينَ صَريعٍ في الحُبِّ وصَريعٍ في الحَربِ.

هلْ يليقُ بواحدةٍ أخرى غيري هذا الكرسيِّ المُجَنَّح في صيدا،

أنا المرأةُ التي اختطفتْ السُّنبلةَ من هواءِ الحَقْلِ..

تحتَ شُرفتي مَرَّ الأَبطالُ إلى مصارعهم؛ ثيسيوس ومينيلاوس، ودوفيوس، وهيلينوس، وأخيلوس، وإنارسفوروس، وايدياس، ولينسيوس، وكوريثوس، وثيوكليمينوس،

ولمّا وضعتُ قدمي في مركبِ بارس.

رأَيتُ النَّار تشتعلُ في الماءِ،

وتحتَ أسوارِ طروادةَ نَزَفَتْ كواكبيَ الأَحَدَ عَشَرَ

دماءَها..

وبشظايا أنوارها

تلاطمت أمواجُ صورَ بمركبيَ النَّشوان

حتّى إذا ما وطأتْ قدمي أرضَ سوريا أدركتُ أَنَّ لا واحدة أَخرى يَلِيقُ بها كُرْسيِّ عشتار.

IV

أنشودة هيلن في مصر

أَأَنا إذنْ حَفْنَةٌ مِنْ جَمال إغريقيٍّ شَريرٍ

أَمْ وجْهٌ هائمٌ على صفحةِ الضّوءِ تُفَرِّقُهُ ضَرْبَةُ مجذافٍ في الليلِ؟

وهذا الهلالُ الذي يَرْمُقُني،

بأَسى،

من يكون،

أَهُو إلهٌ شَرْقِيٌّ حزينٌ

أمْ هو أَبولو مُتَنَكِّراً يقتفي أَثَري في مِصْرَ؟

أَيْنَ كان المُحاربُ السبارطيُّ عندما سَقَطَتْ التُّفاحَةُ في راحَتى

ووصَلَ العاشِقُ إلى ستارةِ الشُّرفةِ؟

لنسأَل أَبولو أَيَّهما أَسْبقُ،

نَهْضَةُ الحصانِ نحو أسوارِ طروادة،

أَمْ وصولُ الفتى الطرواديّ إلى شُرفَةِ هيلن؟

***

في البهو، أراكَ الآنَ، منلاوس، راجعاً مِنْ أُمّ المَقْتَلاتِ،

بسحنةِ الخائبِ ودرعِ المُنْتَصِرِ

سرابٌ يستقبلهُ صَفَّانِ مِنْ أكباشِ آمون

نظرتُكَ النَّدْبةُ المُتَحَجِّرَةُ،

جُرْحُ الإغريقِ

المكتوي بلظى السيوفِ، ونحيبِ الأراملِ ونارِ العَمائرِ المُحْتَرقةِ.

نَظْرَتُكَ المُنْتَصِرَةُ،

حِصانُك المراوغُ القلعةَ في الحربِ،

والفشلُ الذريعُ في الوصولِ خفيفاً إلى حُجْرَةِ المرأَةِ،

لأنَّ طيش الفؤادِ الأَخفَّ من نسمةٍ أقوى من الممالكِ وأَمضى من الّلهبِ.

***

لو كانَ تاهَ معي في الغُرفِ، لو كان استَبَقَ هناك معي على استُبْرقٍ وحريرٍ وفي كسورِ الأَشعَّةِ، رَهَجَ منه القلبُ، وتاهَ في المرايا، لو كان رأى صورَتَه ضاحكةً على الرخام..

لو كانَ رأَى ما رأَيتُ،

لو كانَ عَرَفَ ما عَرَفْتُ!

فلورنسة / لندن ما بين أواسط أيار وأوائل تموز 2021

 

II

الأَلْواحُ السَّبْعَةُ  

اللوح الأول

سَماءٌ في جِوارِ سَماءٍ، سَماواتٌ معلقةٌ على حِبالِ غَسيلٍ بَيْضاءَ جِيريَّةٍ، سَماواتٌ مُتجاوِرَةٌ، زَرْقاء عَمِيقَةٌ، سَماواتٌ هَفْهافَةٌ ولها رَوائِحُ غَسِيلِ أُمَّهاتٍ أُسْطُوريّاتٍ جَلَسْنَ في شَمْسٍ زَرْقاءَ، وغَنِّيْنَ للبَحْرِ.

نَهاريَ طَويلٌ، سَرِحٌ كأَغْنامٍ في سَهْلٍ، هُناكَ تَتَطَاوَلُ أَعْشابٌ خَضْراءُ وأَعْشابٌ صَفْراءُ وتُخْفي بِبَراءَةٍ ماكِرةٍ حُطامَ أَعْمِدةٍ لَها تِيَجانٌ مِنَ المَرْمَرِ، تَمْرَحُ في عَناقِيدِها الصَّخْريَّةِ سَحاليَ طَريفَةٌ، صِغارُها تُقَلِّدُ كِبارُها في التَّخَفِّي، كُلَّما سُمِعَ صَوْتٌ نَدَّ عَنْ خُطْوَةٍ أَو عَنْ هَبَّةِ هَواءٍ.

شكراً لك أيها الصبي لأنك، من دون الجميع، رأيتني أعمى، أعطيتني يدك ودللتني على الطريق، شكرا لك أيها الصبي الذي سيكبر ويَلُوْحُ ليَ من وراء الأبصار فتى بقميص يُلَوِّحُ، وفي حنجرته المشروطة هتاف شجي، جسد يافع مثقوب بالرصاص، حملته الأصواتُ على أكتاف فتيان تحدَّروا من كهفٍ في جبلٍ وملأوا المدينة بالجنازات.

الهواء أنشده

بصوت أزرق عميق

وعلقه

بين البحرِ والسماء

وتركه

يحرس القوارب التائهة.

أَنْتَ تَميمتي

 المُعَلَّقَةِ،

في أرضي المعلقة.

بين الأرضِ والسماء.

***

اللوح الثاني

نهاري مركب في زرقة تتخطف تحت سماء تتخطف، سرب مناديل هاربة، خفة أصوات في رياش مذعورة، ونوافذ تركت للهواء.. نهاري الأعمى خطا عمياء في شمس صريعة، وكنت قبل اليوم، أرسل الحصاة إلى النهر وأرى الحصاة في النهر شمساً ضاحكة وماءً يتكسر.

والآن شمسي مرثيتي

وشراعي الممزق.

سماء طيّ سماء، قطيع خراف تائهة في حقل شققته نباتات خائفة، أصوات هاربة.. أصوات أصوات، وألواح عائمة في زرقة غافلة، ومن جبال الموج أرى اليابسة تبتلع الهائمين على السفح، وأسمع رعدة القلاع وزعيق الطائر الهارب من السهم.

 عيناي المخضلتان بالملح تشتعلان، وتطلبان الأصياف.

***

اللوح الثالث

شاحِبٌ لِسانُ الحَرْبَاءُ،

وهي تتريثُ وتتلفت

وتنظُرني،

تَمُدُّ لسانَها لي، فيصيرُ أَطْوَلَ، وأَراني مُستلقيا على لسان أخضر شاحب وجفناي يترجفان، يطبقان ويرمشان على نظرتي الهاربة من بؤبؤي العسلي، نظرتي الطافية مع الأشعة على رؤوس أشجار الحور. تهوي وتلطخ غسيل الشمس.

ممدَّدُ على حائطٍ جيريٍ أَصْفَرَ في صَيْفٍ صامتٍ، الحَرْباء الصَّغيرة تَتَعَمّلَقُ، وتَمْلأُ الحائطَ، حتّى أَنَّ النباتاتِ بخضرتها الفاهية تهشمت، وملأت أذني بالأصوات.

لا زمانَ للزرقَةِ، ولا للترقب، في زرقة المساء، لما تنتشر الدكنة وتساقط النجوم على البيوت.

نشيج النافورة يرفع الأنشودة في هواء يصوِّح رائحة الدفلى وشبق الأرجاء.

اليرقات الصغيرة المضيئة تتوارى في لحاء الشجر،

والنعاس يملأ العين.

***

اللوح الرابع 

يا لهذا الطريق، ويا لتلك السماء

كم يطول بي الطريق ولا يلوح طائر في زرقة

ولا وحش في فلاة

ولا جبل يقول أنا دمشق.

سأترك وصفك، يا تميمتي الغائمة الأسيرة لعشاق في قوافل راجعة من صحارى طويت في كتاب، يعبرون الأقواس ويصفونك لمعشوقات قطِّعن شرايين معاصمهن غيرة من جمالك الغريب.

لفاتح مسحور جال تحت أسوارك ويريد أن يضيفك إلى خارطته المبللة بدم الأبطال، سأتركه يقلب ألواحه التي ملأها باسمك، يا دمشق ولا يعثر لك على أثر.

المحارب أرسل رمحه في حقل الشقائق،

ومضى في إثره.

الشهب الطائشة أشعلت الرمل، الهواء يلهو بالشباك

والصيادون الذين رجعوا من المغيب تركوا على الشواطيء ظلالاً تشتعل.

الزرقة تتوارى في القباب

الغيوم تخفق في الأشرعة والسماء تتخبط في المراكب

كيف لشاعر أن يلهج باسمك، يا سرَّة الأرض ولا تفتح لأجله الأبواب.

 

اللوح الخامس

هنا على الشواطىء المضيئة يرتطم المغيب،

ويهوي

في زرقة عميقة

السرطانات اللطيفات تمرح، تاركة وراء مياسمها المدببة قطرات الماء تلمع، وتتقطر،

العقارب الصغيرة تفلت من لسان الماء وتتركه يعود إلى خضرة فيروزية تتشمس، وبينما المويجات الهامسات تتفحص في الرمل نجمة بوسيدون، القلاع البعيدة تضيء شعلاتها،

والقوارب المتأرجحة، تترك الأصداء تتردد.

قرص المغيب يسترد حمرته من الواقعة ويدفنها في الأبصار.

أأنا هنا، أم أنني هناك.

اللوح السادس

هنا

انا هنا..

الهاوية تستيقظ، والمرآة عين مسمولةٌ تبرق في محجر فارغ.

النور الأهوج يغشي العيون.

هل أظل هنا

نزيل عصف تلو عصف في ظلمة،

وهواء مسموم يملا رئتي على ساحل رمادي مهجور.

الحجارة تحتجز رأسي، نبات شيطاني يلهث قرب عيني.

وعيني تنظر رقدتي.

نباتات الضوء تتنفس في كهوف غائرة وراء محاجر أتخمها سخام، مجسات العماء تشرب الضوء في أسلاك عملاقة تتلوى، الصور تهب في الأنفاق، وتهب بي، مسوخ بأجنحة ملونة يهيمون وراء أطرافهم العائمة في مجرى مقطّع الأوصال.

الغريزة ترمق المجرى، والعين الغسقية ترسل الإشارات، تملأ الهواء بقصاصات دبقةٍ، حمحمة تغرز نصالها في السمع، وقرون تنطح المجرى.

 قوس قزح آلي له أثداء وحلمات تضوي، يتلوى ويتلون ويتعطل في قنوات تسري فيها ظلمة. كلابات لها أذرع طويلة وصدور بحراشف تتشظى.

من يقف هناك؟ وهذا الوجه المشبع بالكدمات الزرقاء هل كان وجهي؟

***

هنا

أنا هنا..

أرى أجنحة عملاقة تهوي على إعلانات تتشقق.

كيف لي أن أنهض، كيف لي أن أنتشل رقدتي من هذا الشرك.

 

اللوح السابع

أفتحُ الأبواب وأخطو على الظلال، العشب يتطاول على الجدران،

العرائش الجافّة تغمر الخيالات وتتكسر في الشرفات والنوافذ،

لا أحد،

هنا

لا أحد

الدهليز الذي ارتجّ تحت خطوتي

حمل إليّ هواء أصياف صريعة.

***

أخطو، وأسمع حطام ضحكات تتفشى في زرقة على قماش أبيض مطرز،

رائحة الأمس تهبّ من خيالات نسوة عبرن خطفاً، وتوارين وراء الأصوات، الأنفاس المبهورة تركت أصابعها الصامتة في المناديل. ووراء الغلالات سمعتُ التوقعاتِ همسَ بنات صغيرات يتلاشى، وخطوات رهيفة تبتعد، واصطفاق أبواب تركت أُلهية للهواء.

***

الستائر لعبَ بها الوقتُ،

وانصرفَ.

وجاء الهواءُ وجلسَ في الأريكة.

***

الشمس تميل على أوراق العنب وتغرب في البيت

تاركة لي أنا الأعمى بكاء الشجرة ونشيج الأرائك في الظلال.

والآن،

تلفت معي، وأنظر، ولا تترك الصورة تهرب من عينك التي رأت.

***

من أي الطرق أصل إليك، يا دمشق، يا مدينتي المسحورة،

أي باب أطرق ليفتح لي، أنا الهارب وورائي سياط الصحراء،

أسير في أرض ضربتها الزلازل،

أخوض في عماء تحت سماء تتشقق،

المرايا تنفطر وتبتلع الجبال،

تائه تحت سماء هاذية، كلما بلغتُ أرضاً، رجمها الغيبُ وتشققت تحت قدمي،

حتى لكأنني هارب من آلهة لاهية لا ترمي لي قارباً إلا لترسل في إثره كرة من اللهب.

أُغمضٌ وأغيبُ في رمال لاهبة.

خفق عماء

خفق عماء

  

أنشودة أبولودور الدمشقي

تكونين في دمشقَ،

اللؤلؤةَ

الطريقُ إلى بيتكِ في جوارِ القلعةِ صاعدةً، وخطرةً

عبّدها عُمّالي

لقدميكِ الطائشتين..

الطريقُ، ضربُ صنوجٍ، وخطواتُك في نعلكِ نشيدٌ يانعٌ.

لستُ هنا، لأرى أطواقَ الغارِ ذابلةً،

وصمتَ الطريقِ حزنَ أزهارٍ عندَ درفاتِ النوافذ.

البهجةُ أثر من صِبْيةٍ فرّقهم لَهوٌ

أسمعُ أنفاسَهم نتفاً من كلامٍ خائفٍ،

أخطو وفي ذراعي الصّدعِ المتحدّرُ من قاسيون.

صرخات المصارعين ترجُّ البوابات

عيونهم النازفةُ تلمع في صفائحِ الدروع..

الأوهام تتقاطر، الأوهام تجوب الأرض والسموات، وتؤنسُ قَلبك.

مشيتكِ في الطريقِ من البيتِ إلى الحَمّامِ، نورٌ قديم على خطوات خضراءَ.

تكونين لؤلؤةً في دمشقَ، وفي روما الصحراء خطوتي تهلكُ.

 

الأبيغراما السورية 

لو مَرَرتَ بي وكنتَ سوريا مثلي،

وكنتَ هارباً في جزيرةٍ

فكن نظيري..

ولو لم تصل

مثلي

على مركب مبحر من صور

وفي قدميك نعل من جلد الحصان..

لو وصلت، لو رمتْ بكَ موجةٌ على هذا الشاطيء،

ووصلتَ،

أيها السوري،

فلتؤثر كوس على أثينا واسبرطةً معاً

فهي جزيرةُ الحبِّ وعلى هضابها يرقدُ العُشاق.

ولو وصلت عارياً على طوف سلوقي،

هارباً من حَمَلة السيفِ، وحراب الطاغية،

ووراءك عمائر سوريا المحترقة،

ولم تصل في مركب إغريقي ويتبعكَ بالصناديقِ عبدٌ من ساموس..

إذا ما مررتَ بقبريَ،

ووقفتَ هنا لتتهجى اسمي بلكنتك الجنوبيَّةِ

فلتتلْ لأجلي هذه الكلمات:

أنا ميلياغروس الجداري، ترعرتُ في هضابِ حوران،

وهبَّ على جبيني بارداً هواءُ حرمون

وعندما بلغتُ صورَ فتى عاشقاً

أغوتني أشرعةُ المراكبِ، ووجدتُ نفسي في كوس

لا يغرنكَ أن يكون اسم أبي إيوقراتيس،

فالسوريون جميعاً في ذلك العصر رفلوا بأسماءَ إغريقية.

كن نظيري،

أنا ميليا غروس الجداري،

واقرأْ لأجليَ هذه الأبيغراما المستلة من “الإكليل” عن مراكبِ السوريينَ الهائمينَ في البحر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خاص بأوكسجين


شاعر من سورية (دمشق 1956) مقيم في لندن، وأحد أبرز الشعراء العرب المعاصرين. من إصدراته الشعرية: "الصبي"" بيروت 1982، ""مجاراة الصوت""، لندن 1988، ""نشيد صوت""، كولونيا 1990، ""طفولة موت""، الدار البيضاء 1992، ""كأس سوداء""، لندن 1993، ""القصيدة والقصيدة في المرآة"" بيروت 1995، ""صعود أبريل"" بيروت 1996، ""حدائق هاملت"" بيروت 2003، ""طريق دمشق والحديقة الفارسية"" 2004، صدرت أعماله الشعرية الكاملة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في مجلدين، سنة 2008، وصدر هذا العام (2022) المجلد الثالث، كما ترجمت قصائده إلى العديد من اللغات العالمية."