الأسباب العاطفية ليست كافية
العدد 197 | 22 آب 2016
محمد رشو


هل أنت سعيد؟

الضوء معجزةٌ لمن يحيا في الظلام.

الربُّ ينبثق من بين الغيوم.

ويتبعه غير الأسوياء،

المرضى وأصحاب العاهات والفقراء والمنبوذون.

العبث أن يقول أحدهم أن الرب يتبول اليقين.

في الحروب يختفي الرب ولا يعود إلا مع المبشرين.

بينما يعاني اللاجئ من الندم والشوق والألم والذكريات والصداع والأكزيما التي تصيب الأطراف والملتحمة والركب والمناطق الحميمة، تقرع المبشرة باب البيت المزدحم بالظلال لتبتسم وتسأل:

هل أنت سعيد؟

وترتبك، تستطيع أن تجاوب على:

١- هل تنام جيداً؟

٢_ متى مارست الجنس آخر مرة؟

٣ _ هل تعجبك وجبات الطعام؟

٤ _ هل شفرات الحلاقة الزرقاء التي توزع عليكم جيدة؟

المبشرة تبتسم لأنها سعيدة، وقد خصصت ساعتين خلالها ستتكلم

لتخبرك كيف تجد السعادة،

أن تؤمن،

ولا شيء آخر،

فالرب أتى لتكون لك حياة، وإن آمنتَ لن تهلك، وستكون الحياة الأبدية في آخر الممر.

ولكن الممر أعرفه، ولا شيء في آخره سوى التواليت، والتواليت نظيف لكنه لا يعمل جيداً، ويبقى ملائماً لتهرش الجلد حتى ينبثق الرب،

الرب ينبثق من الحكّ،

من تحت الجلد،

من نسيان اليوم الذي أنت فيه،

من البيت الذي لم يعد بيتاً، من السماء التي لم تعد سماء،

من عدم الإيمان، من أنني عشت حتى الآن من دونكَ وأستطيع أن أكمل حياتي من دونك، من أنني لم أخطئ تجاهك حتى أركع لك وأقول لقد أخطأت،

من تفصيل الذل والممكن، من تفضيل السيء على الأسوأ،

من الذكريات، من أنا بعشقك وأنت عمري، من ملفات الساوندكلود، من قنوات السيكس، من لف الحشيش، من الأزرار، من الاختلاج، من تسارع الأنفاس، من التقاط الشفتين في الفم، من مص اللسان، من النزول والصعود، من الاصبع والإبهام الرطب، من الدعك والقبض والاستنشاق والتمرير والتحرير و الإيلاج والرهز والعضعضة والتفريش واللعق والتقريظ، من جهة البطن، من الخارج، من الداخل، من السريعة، من البطيئة، من التي يُغمى عليها، من التي يُغشى عليها، وثم لا تفيق إلا فاترة الأعضاء وحينئذ تستطيع هي أن تبتسم وأن تسأل بينما تمد نشرة التبشير على المائدة:

هل أنت سعيد؟

***

 

لون الأربعاء

في سنة ١٤٠٠ م بنى تيمورلنك برجاً من ٢٠ ألف جمجمة خارج المدينة، ثم خرج المغول وعاد الأهالي إلى بيوتهم داخل الأسوار إلا المسيحيين فلم يتمكنوا من العودة الى حيّهم القديم فبنوا مساكنهم في الجديدة في الضواحي الشمالية خارج أسوار حلب في المكان الذي سيشغل مركزه بعد ستة قرون بديهيات النوستالجيا:

التذكارات من عقود الفضة والذهب الأبيض والعقيق والخرز،

المقعد الإسوارة حول شجرة التوت،

الفول بالحمص، بالطحينة مع الزيت، مع البصل،

وتكتكات ماكينة الإكسبريسو الإيطالية.

رغم أنني مقتنع أن الأسباب العاطفية ليست كافية لإدانة الحرب، أية حرب كانت، فلدي عشرة أسباب عاطفية لأعود إلى المكان الذي لم يعد موجوداً، كان أبي يغفو على فخذ أمي وهو يشرب، وحين كانت تقوم لتتوضأ، كان يقول لها: الثلج بطريقك، فكانت تجلب مكعبات الثلج وهي توبخه: حرام، نحن في ليلة القدر، فكان ينظر إليها بحب، (كيف ينظر البشر بحب؟) ويقول لها: إدعيلي حبيبي، إدعيلي.

بالأمس رأيت، كانت تدعو له بالهداية، وكان الرجل الذي سيكون أبي في أوله، وأنا في لحظة أخرى، كان يقول لمن هي أمي، ومن سأشتهيها في لحظة أخرى، كان يقول:

ستأتي حرب وسيتقاتل الذي من ظهري مع الذي من بطنك.

كانت ساحة الحطب في الفجر حيث رائحة الخبز وقلة من البشر وكثير من الأشباح وكان يفكر في مؤخرتها النظيفة المؤمنة الخاشعة ترتفع وتنخفض في السجدات ثم لم يداري نفسه، انتصب معه وهو يغمض عينيه من لذعة اليانسون في العرق، كنتُ أبي وأغمضتُ معه عيني لأنتقل إلى سبب آخر من الأسباب العاطفية التي لا تنهي الحروب، تبقى صادقة، أجل صادقة لكنها ليست كافية.

فتحتهما معاً، كانتا لي، اليمنى لأراقب من أحب، اليسرى لأراقبه، إنه يتنفس، يتنفس، إنه حي، نبضه لا أعرف، قلبه لا أعرف، اليمنى تغرق في ماء الأغاني، اليسرى في رمل المراثي، هل من شيء آخر، كنت أعانق ميتاً في المنام، وبقيت أتأمل الساعات حتى عرفت أن الحكمة هو لون الأربعاء الذي طالما كنت لا أعرفه، الحكمة غير المجمدة في الفريزر، الحكمة موجودة في مكان ما، لابد أن تكبر وتكبر حتى تنالها في ضلالٍ ما، وفي اللحظة التي تقتلع عشبتها بيدك، تلدغك أفعى الحارسة في رقبتك لتقع على الأرض وأنت قابض على رائحتها.

عيناي الآن غرابان على الثلج،

كلما حلمت فقدتهما،

وتنعقان كالسكاكين كلما تذكرت شيئاً.

عيناي أعداء

وأنا الآن أعمى.

***

شامات الخطيئة

كيلا أهذي لن أجازف بما سيحدث غداً، سأقول: في كل الثورات التي حدثت، لم تجذبني سوى الخيانات، ثم سأقرأ وكأنني آكل يدي:

– داخل كل إنسان نبي وشيطان، الطمأنينة ليست هدنة بينهما، بل إدراكُ جمال الشرّ مع الاعتراف بفضيلة الخير.

– ما يفصل بين العاشق المبجل والفاسق المجنون هو دفقات المني من صنبور الشهوة، الامتناع والإفراط يوصلان إلى النتيجة نفسها، وأن تكون عاشقاً أو مجنوناً، تلك مسألة حظ.

– الحب واضح والكراهية واضحة، ونحن نفعل ذلك لا لشيء سوى لنسكب مخزون الشفقة الدنيئة التي تتراكم فينا كسمّ لا بد من إخراجه.

– أينما كنتَ، أنتَ في طريق بمنتصف غابة، شمالك نهر، يمينك شجر كثيف، وتنتبه فجأة أن خلفك أفعى تزحف نحوك، بين الماء والحشيش والخوف ستتخبط كمجنون وتسلك ما ستسميه طريقاً إن نجوت.

– يغني فتى وراء البيت:

حبيبي يا حبيبي،

تردد الفتاة وراءه:

حبيبي يا حبيبي،

يقول:

من أول الغابة إلى آخر البلدة وأنا أفكر بقضيبي كيف أدهنه لحبيبي

وتقول:

من أول الغابة إلى آخر البلدة وأنا،

تغمض عينيها وتضحك ثم تكمل:

كيف أدهنه لحبيبي.

أقرأ وأكتفي بأن أراقب غيوماً متقطعة تلدُ مطراً رعدياً يسقط فجأة في منتصف ليلة من تموز، وبطبيعة الحال، لا أكمل شيئاً، أراقب وكأنني الشخص الوحيد على هذه الأرض الذي رأى مطراً رعدياً في منتصف ليلة من تموز وثم أترك كل شيء مبتوراً لأقول شيئاً مبتذلاً لكن أظنه عميقاً:

ما الذي يعرفه الأغنياء عن الحرب؟

كيف تبدأ، لماذا لا تنتهي، ولماذا من شدة الخسارة لا نعود نتذكر كيف كنا قبلها، وكيف كنا نتوه في روايات تجريبية عن العاطفة والأسماء وحقلٍ من أشجار الفستق، كم نحصي أشجارها من الغرب إلى الجنوب وكم نصطاد غنج السمك البني من القدود تحت ظلالها، وحتى متى سنتحدث عن الموسيقى وكأنها ليست بشرية، وعن الفلسفة وكأنها كيلوتات خيطية غير مرئية ترتديها القحبات في الملاحم القديمة؟

اكتب لي عن الأشياء التافهة،

يكتب دوستويفسكي إلى أخيه، عن الأشياء اليومية من الحياة،

يكتب وأقرأ وراءه، لأراه وهو يقبّل الصليب بعد أن كُسِرَ السيف على رأسه، أرى فيدور الصغير في ساحة القلعة أمام فصيل الإعدام، نظيفاً بكفنٍ نظيف، ثم يأتي القيصر ويؤكد أن الأمر لم يكن سوى مزحة، يضحك ويقول: انظر هناك، الكاميرا الخفية هناك خلف الشجرة، ويضحك، الكاميرا الخفية، أهه أهه، ويضحك الجنود والضباط، وتضحك الأشباح، ونضحك نحن أيضاً حتى يرفع دوستويفسكي رأسه عن قدميه ويبتسم للا أحد، سعيداً ومهاناً من نجاة مهين وسعيد.

في السجن سيكتب لميخائيل: لحظتها لم أفكر سوى بك وحينها كانت قد بقيت له ثلوج سيبيريا والنقط السوداء، شامات الخطيئة، البشر، الغاضب والخائن والخاطئ والحالم والفاسق والعادل والملاك والشيطان والعاطفي والمتزن والمجنون والمكتئب والجذل والأخرس والمترجم، وكان عليه أن يصبر على الساعات ويحسّن الحبكات لنصبر على القصص.

انتبه،

لا تنتبه،

أكمل،

لا تكمل،

لا حبكة في الحياة.

فقط انظر تحت قدميك.

***

صبا

لم تقل لي خالتي سوى أن الماء جاء من الجبال ثم أحاط بالأصوات التي كانت تخرج منا، كنتُ أخافُ على نفسي من أنفاس الآخرين وأخاف عليهم من الغرق في دمهم،

ظلت الأبقار تمضغ العشب سعيدة بكونها أبقاراً تمضغ عشباً أما النار فكانت ضعيفةً تدلّ وبالكاد تترك فقاعات في تراب الأسماء،

وحين وصلنا القلعة، كان الناس مجتمعين أمام البوابة ينظرون إلى امرأة ورجل لا نعرفهما يقبّلان بعضهما ويتعريان على مهل،

لم ينجُ أحد لكن اللاجئين كانوا يتدفقون،

وحين سيصل غرباء جدد سيختلفون مع الذين سبقوهم على الأرض التي تركوها،

وعلى الحكاية كيف يروونها،

في الأعلى الأوراق،

في الأسفل الظلال،

وبينهما كان الهواء أخضر في شجرة الجوز وكانت خالتي بيضاء وتضحك،

شكوتُ لها أنني كلما أستيقظُ أجد طحالب على بطني وأسماكاً عالقة تحت إبطي حتى أسفل الظهر، ثم في غفلةٍ منها عقفتُ سبابتي اليمنى داخل فمي وأخرجتُ من تحت اللسان خاتماً بفصّ من العقيق الأحمر وألبسته خنصرها الأيسر فبكت وأغمضت عينيها على دمٍ من أسفل بطنها ثم ناولتني كفاً من السمسم وآخر من الزبيب وأشاحت بوجهها نحو الجزيرة البعيدة المليئة بالماعز والزيتون وقالت:

لن تحيا هنا ولن تحيا هناك،

ستبقى ميتاً حتى تحب ولن تخرج من الحب إلا ميتاً،

فلا تفرح ولا تجزع،

ولا بأس كي تدرك النقاهة في الوقت أن تتعلم اللغة،

أن تتعمق في التشخيص التفريقي لمرض النوستالجيا لتقي أو لتُشفى،

أن تستفسر عن خصائص الموت ومرادفات الحياة،

أن تشاهد ملفات اليوتيوب عن مدينة لم تعد موجودة،

أن تزور حديقة ديناصورات على خرائط غوغل،

أن تعدد أسباب النجاة من الذئاب ومحصّلات الغرق في القصص،

وأن تدخن الحشيش ليلة الأحد، لا ضير في ذلك، ومع الحشيش سيتسع الليلُ لتشاهد فيلماً تجريبياً عن خنثى يسكن منزلاً على شاطئ ما، وشى بنفسه للعدو ثم لم يبق له سوى طلب الغفران من اللا أحد، يمدّ الورق على مائدة العشاء وعلى الورق يبني شبكة من الكلمات المتقاطعة لا مربعات سوداء فيها، يظل يدندن على مقام الصبا، يفكر في اللا معنى وكيف أن سوء الفهم يغير وجه العالم،

يشتهي ويخطئ ويندم ويشتاق لنفسه بين البر والبحر: يُدبر امرأةً ويُقبل رجلاً حتى ينتهي امرأة على ذراعه اليمنى، رجلاً على ذراعها اليسرى.

***

لكنه نائم

أنتَ لا تعرفني لأني لستُ ما تعرفه عني، لقد تبدّل كلُّ شيء، وصل تيودور دوستويفسكي إلى باريس لينزوي في مزاجٍ سوداوي دون أن يلتقي بأحد، قابل فرانز كافكا فيليس باور في فندق ببرلين وخرج ليكتب المحاكمة بعد أن ظلّ يراسلها لأشهر، كل يوم ثلاثة رسائل، شُفيت الكدمة الزرقاء على وجه غابرييل وثم أنه أُصيب بألزهايمر ولم يعد يتذكر ما السيء الذي فعله بحق مرسيدس حتى يلكمه يوسا، كانت ليلةً طويلة نادى في وسطها أحدهم: كيف الطريق إلى باب الفرج، كانت سوداء وماطرة وجميلة، بقي روبيرتو بولانيو يحدّق في اسم أمه، ماريا فيكتوريا افالوس فلوريوس، على الصفحة الثانية من كتاب عشرون قصيدة حب وأغنية بائسة، طبعة ١٩٦١ دار نشر لوسادا، بيونس آيرس، ينام ويصحو وهو يحدق حتى اختلط عليه السرد والشعر لكنه ظلَّ يجر دمية نيرودا الضخمة خلف إصبعه على طاولة المطبخ، وكان رأسُ نيرودا الشبيه برأسي جيكرخوين ومحمد الماغوط يصطدم بمحارم الكلينكس والمنفضة وجهاز الريموت كونترول ومكعبات السكر، كانت الحرب طويلة حتى لم أعد أتوقف لأسأل كيف بدأت، كنتُ أحصي الخسائر وأصِفُ الطريقَ ثم لم أعد أهتم سوى بماركات النبيذ الأبيض والأحمر، السادة والكوكتيل، وبالطريقة المثلى لتثبيت ورق اللف على باكيت مالبورو نوع غولد 30 غرام، 3.50€ مع العلم أنني لم آخذها مرة واحدة بأقل من 4.5 يورو، أتذكّر، أرى، أحلم، لا أريد لأحد أن يخدعني بفكرة، كوردستان فكرة وحلب باتت فكرة أكثر شحوباً وثم لا نبالة في الأفكار، لم أعد تحت شجرة سرو في البلدة نفسها صغيراً على أن أمرّ بأبي دون أن أعرفه، أو أن أعرفه ولا أحييه، لأنني رأيته مرتبكاً حين سقط منديلٌ من يده أو لأنه سيخرج من الحكاية قبل أوانه دون أن يرى الحرب، كان أنيقاً في بدلة ميري ويتصرف بغرابة، يشاهد فيلماً قديماً بالأبيض والأسود ويشير إلى ميّتٍ بجواره ويقول: هذا أخوك لكنه نائم، ثم يستدير حتى حدود تركيا ويقول: أرضنا تمتد حتى هناك، ويستدير مرة أخرى على وشك أن يبكي شبيها بورقة الختيار الكبة في لعبة التريكس، أثبّتُ يدي من المعصم وأقذفها، ورقة الختيار، فاتحاً الإبهام والسبابة كمقص بحيث تبدو اليد كلها كمسدس ستاندر 9 مل ولتدور الورقة في الهواء وهو يبكي ويختفي مثل شبح والد هاملت بين أبراج القصر بينما هاملت يردد لنفسه: سجنٌ هي الدانمارك.

لستُ ما تعرفه أنتَ، وأنتَ أيضاً، لستَ ما أعرفه عنكَ، أنا أيضاً لا أعرفكَ.

*****

خاص بأوكسجين


شاعر من سورية. من مجموعاته الشعرية: "انتظر الهواء لأمر بك"" 2001 و""عين رطبة"" 2005rn"