الأرض يرثها النمل
العدد 278 | 16 تموز 2023
محمود عبد الدايم


 

قبل 10 أعوام انقضت، أذكر دخولهم قريتنا في صباح صيفي خانق، كانوا ثلاثة أشخاص، وكعادة القرى الصغيرة، سرعان ما عرفنا أنهم من المركز، من الإدارة المحلية، لكننا لم نفك لغز العبوات البيضاء الضخمة التي وضعوها أمام دار عمدة قريتنا، اكتفينا بالاقتراب من السور، تابعنا الترحيب المصطنع الذي حاول العمدة إضفاء لمسة من الحقيقة عليه، لكنه فشل.

الأفواه الثلاثة التي لم تضحك على أي من نكات العمدة كشفت لنا وله، فشله في وضع الموظفين الثلاثة في جيبه، بعدما طلبوا منه أن يتركهم ينهون عملهم سريعاً رافضين دعوة للغداء، فـ “النمل سيطر على القرية”، هكذا قالوا بصوت أظن أنهم تعمدوا أن تكون نبرته حادة وبلهجة سكان المدينة، وأكملوا “سنأكل نمل قريتكم قبل أن يلتهمكم”، وبدأوا في نقل سائل أبيض من العبوات الضخمة إلى عبوات أصغر، اختفى نصفها قبل أن تبدأ معركة انقاذنا من “مجاعة النمل”.

منذ 20 عام مضت، ضبطتني أمي أشعل ناراً في بقايا صحيفة قديمة ألهو بها قرب الجدار، مسرعة ضربتني على يدي، سقطت شعلة النار، لكن أمي عاجلتني بصفعة على وجهي بعدما تأكدت أن ناري التي كنت ألهو بها لم تكن مجرد محاولة طفولية لإعادة اكتشاف الحياة، فقد كنت أحرق النمل الذي عبر من أحد شروخ حائط كان يفصل بيتنا عن بيت عمي. نهرتني يومها بقسوة، وهي الأم التي لا يمكن أن تكون غاضبة، حدثتني عن النار، الجحيم، العذاب، ودققت النظر في عيني جيدًا وهي تردد: “النار لخالقها”.

العاشرة صباحًا.. أسراب نمل ضربت من حولي حصاراً، أدراج المكتب الثلاثة، الدولاب العتيق الذي يحتل نصف الغرفة، الشقوق العشرة التي أحصيتها في الحائط المجاور لمكتبي الخشبي، نمل حقيقي يحاصرني.

لا عمل لدى الآن.. خلعت نظارتي الطبية، بدأت في إحصاء الأعداد، الجيش الضخم الذي تحاصرني جنوده. أصابني الدوار بعدما أحصيت 20 نملة ضربت حولي حصاراً مرعباً، ودون مقدمات، بدأت المعركة، نملة واحدة أخذت زمام إعلان الحرب، قبل أن تصعد على حذائي، سحقتها بقدمي، ضعيفة جداً كانت، لم تكن تستحق المعاناة التي تكبدتها وأن أضبط زاوية كعب حذائي على جسدها، لكن المحاولة كانت جيدة، أفرغت قليلًا من غضبي، وماتت النملة المتطفلة، وتراجع بقية سرايا جيش النمل، أدركت أنه، تراجع تكتيكي، على أمل أن تأخذني سنة فيبدأ الهجوم.

الرابعة مساءً. لمحت سرب نملٍ يتقدم على الحائط المتشقق بينما كنت أسرع للتوقيع في دفتر الانصراف، لم أجد الموظف المسؤول عن “الدفتر” لأفشي إليه بسر  النمل الذي أعلن حربه المقدسة على المؤسسة. أعددت قائمة بالأماكن التي تمركزت فيها قوات جيش النمل، كنت سأطلعه عليها، لعله ، بدوره، يجعلها موضوعاً للحديث مع رئيس مجلس الإدارة في رحلتهما سوياً إلى سيارة المرسيدس التي توفرها المؤسسة للرجل الكبير. أحصيت أماكن تمركز كتائب النمل في ورقة صغيرة: القاعة الرئيسية، القاعة الصغيرة، مكاتب صغار الموظفين، دورة مياه الرجال.  لم أتمكن من استكشاف  الأمر في دورة مياه السيدات، وكنت سأبادره بسؤال إن كان هناك من سبقني في الإبلاغ عن احتلال النمل، وإن كان مكتب استكشاف الأمرارة سقط، مثل مكاتبنا، في قبضة الغزاة الجدد، أم لا يزال يرفع راية المقاومة؟

مساءً. 4 زجاجات بيرة كانت كافية لأن تطفو فلسفتي على سطح المناقشات، بعدما أوقفت بنظرة واحدة، يعرف هو الصوت الذي سيليها، مسار حديث صديقي الأربعيني عن رغبته في تحقيق ما وصفه بـ “الخيانة الآمنة” ومنحت صاحب النكت الجنسية الوقحة «حبة زرقاء» قذفها في فمه، قبل أن يغادرنا مسرعًا خوفًا من أن ينتهي مفعولها الذي يبدأ في الظروف العادية بعد 30 دقيقة.

أخبرنا صديقنا وهو يحصي عدد الزجاجات التي قضى عليها ليسدد ثمنها، أن الدقيقة الأولى بعد مرور نصف ساعة تهاجمه أسراب نمل في جسده، تصاب أذنه اليمنى بسخونة مفاجئة. أُغلق باب المصعد قبل أن يخبرنا بالجزء الأهم، وتركني عالقًا مع  صديقي الأربعيني الذي أخرسني بنظرة إهمال عندما هممت له برواية حكاية جيش النمل.

الحادية عشر ليلًا. أقص على مسامع طفلتي حكاية “النملة النشيطة”، النملة التي تروى كاتبة أنها “تصحو مبكراً، وتجمع الطعام وتعود إلى عائلتها.. إلخ إلخ”، أنهيت القصة سريعاً، ولأن القصة فشلت في إدخالها عالم النوم، حدثتها عن الثقة التي يكمل بها النمل مسيرة حياته، طريقته في التكاثر، أسلوبه في تخزين الطعام، النظافة، فقالت بصوت نصف نائم: “لما أكبر عاوزة أبقى نملة، مش النمل بيحب السكر؟!”

منتتصف الليل، أنهت زوجتي رحلتها البحثية بين جروبات “ربات البيوت” قبل أن تضع بين يدي ورقة فيها رقم هاتف، وقالت بحماس: “فرصتك الذهبية، حاول لقاء رئيس مجلس الإدارة، أو مدير مكتبه، أو نائبه، أي واحد فيهم يكفي، ضع بين يديه الورقة هذه، وأنت تخبره عن مشكلة النمل، وأنك حصلت من الشركة التي وضعت رقمها بين يديك على خصم جيد مقابل تطهير المؤسسة”، وغمزت لي بعينها اليسرى قبل أن تعيد تثبيت شريحة “الخيار” عليها حتى لا تذهب فوائد قناع “الزبادي بالخيار” سُدى.

الثالثة فجراً.. استيقظت مفزوعاً بعدما وجدت نملة تدور وحيدة بالقرب من رأسي، لكنها لم تبق وحيدة طويلاً، الأعداد تتزايد، فكرت في سحقهم بحذائي، لكن الحذاء خلعته منذ الخامسة مساءً، لم أسمع يوماً عن شخص يرتدي حذائه في منزله، في غرفة نومه، لكن، كيف كانوا يتخلصون من جحافل النمل التي تطاردهم.. لا أعرف! ربما هناك وسيلة غير السحق، لم أكتشفها بعد.. ربما!

صباحاً.. بحثت في محرك “جوجل” العالمي عن النمل، كتبت في خانة البحث “أسرار عالم النمل”، واجهتني 2 مليون و370 ألف نتيجة، جميعها أصابتني بالذهول، العالم به 12 ألف نوع من النمل، ونحن نوع واحد، النملة ترفع 20 ضعفاً من وزنها، بينما أكافح كل صباح لأرتدي بنطالي وقميصي دون أن أصاب بالدوار.

بعد 100 عام: “الأرض يرثها النمل” عنوان سيحتل صدر الصفحات الأولى لنسخة الصحيفة الأخيرة التي يصدرها البشر..  12 ألف نوع أمام نوع واحد، من سيربح المعركة؟!

 

*****

 خاص بأوكسجين


كاتب وصحافي من مصر.