اعترافات مُراجع كتب
العدد 195 | 25 تموز 2016
جورج أورويل


   في غرفة نوم وجلوس باردة ولكن فاسدة الهواء أرضيتها مكسوة بأعقاب سجائر وبأكواب تحتوي بقايا شاي، يجلس رجل بملابس متهرئة على طاولة متداعية، يحاول أنْ يجد حيزاً لآلته الكاتبة بين أكوام الأوراق المغبرَّة من حوله. إنه لا يستطيع أنْ يرمي الأوراق لأنَّ سلّة المهملات مترعة أصلاً، ثم أنه بين الرسائل التي لم يُردّ عليها والفواتير التي لم يُسدّدها من المستحيل أنْ يوجد شيك بقيمة جنيهين هو متأكّد تقريباً من أنه نسيَ أنْ يصرفه. وهناك أيضاً رسائل تحمل عناوين يجب إدخالها إلى دفتر عناوينه، وفكرة البحث عنه، أو في الحقيقة البحث عن أي شيء، يولِّد لديه دوافع حادة للانتحار.

   إنه في الخامسة والثلاثين، لكنه يبدو في الخمسين. أصلع، عروقه بارزة ويضع نظارات، أو سوف يضعها إذا لم يكن قد أضاعها كعادته دائماً. إذا كانت الأمور بصورة اعتيادية فسوف يُعاني من سوء التغذية، ولكن إنْ حالفه الحظ مؤخراً فسوف يعاني من آثار السُكر. حالياً الساعة تبلغ الحادية عشرة والنصف صباحاً، ووفقاً لجدول أعماله كان ينبغي أنْ يكون قد باشر العمل قبل ساعتين: ولكن حتى لو أنه بذل أي قدر من الجهد الحثيث ليبدأ لأُصيب بالإحباط بسبب الرنين المستمر للهاتف، وصراخ الطفل، وهدير المثقاب الكهربائي الصادر عن الشارع، ووطء الأحذية الثقيلة لدائنيه وهم يرتقون ويهبطون الدرج. آخر مرة قوطِعَ فيها كانت وصول البريد التالي، الذي جلب له إعلانين ومطالبة بضريبة دخل مطبوعة باللون الأحمر.

   لستُ في حاجة إلى القول إنَّ هذا الشخص كاتب. لعله شاعر، أو روائيّ، أو كاتب سيناريوهات أفلام أو برامج إذاعية، لأنَّ الأدباء كلهم متشابهون، ولكن لنقُل إنه مُراجع كتب. وخلف أكوام الأوراق تستتر تقريباً لفافة ضخمة تضم خمسة مجلدات أرسلها له مُحرره مع رسالة يقترح فيها “أنْ يتم تحسينها”. كانت قد وصلتْ قبل أربعة أيام، لكنَّ شللاً معنوياً منع المُراجع من فتح اللفافة. وبالأمس، في لحظة تصميم، قطع الخيط ووجد أنَّ المجلدات الخمسة هي “فلسطين على مفترق الطرق” و “إدارة مزارع الألبان بطريقة علمية”. “موجز تاريخ الديموقراطية الأوروبية” (وهذا يتألّف من 680 صفحة ويزن أربعة أرطال)، و “العادات القبلية في شرق إفريقيا البرتغالي”، ورواية “من الأفضل الاسترخاء”، لعلها أُضيفت خطأً. ويجب تسليم مراجعته – التي تتألّف من حوالي 800 كلمة – مع حلول منتصف اليوم التالي.

  ثلاثة من تلك الكتب تناقش مواضيع يجهلها إلى درجة أنَّ عليه أنْ يقرأ على الأقلّ خمسين صفحة لكي يتفادى ارتكاب أخطاء فادحة تكشف أمره ليس فقط أمام المؤلِّف (الذي يعلم طبعاً كل شيء عن عادات مراجعي الكتب)، بل حتى أمام عموم القراء. ومع حلول الساعة الرابعة من بعد الظهيرة سوف يكون قد أزال ورق التغليف عنها ولكن لا زال يعاني من عجز عصبي عن فتحها. إنَّ ترقُّب اضطراره إلى قراءتها، وحتى رائحة الورق، يؤثّر عليه كتأثير ترقُّب أكل فطيرة أرز مطحون باردة مُنكَّهة بزيت الخروع. ومع ذلك ويا للغرابة سوف يُسلَّم عمله إلى المكتب في الوقت المُحدَّد. ودائماً ينجح بصورة ما في تسليمه في الوقت المُحدَّد. وعند الساعة التاسعة مساءً سوف يصفو ذهنه نسبياً، ومع اقتراب الساعات الأولى من الصباح سوف يجلس في غرفة تُصبح باردة أكثر فأكثر، بينما  يزداد دخان السجائر كثافة، وهو يخوض بخبرة في كتابٍ بعد آخر ويُنهي كل واحد بتعليق ختاميّ، ” يا إلهي، ما هذا الهراء! “. في الصباح، سوف يُحدق مدة ساعة أو اثنتين، بعينين زائغتين، مكفهراً وبذقن غير حليقة، إلى صفيحة فارغة من الورق إلى أنْ يُرعبه مؤشّر الساعة المُهدِّد ويدفعه إلى العمل. وفجأة سوف يبدأ. سوف تقفز كل العبارات القديمة البائتة – ” إنه كتاب لا ينبغي أنْ يُفوَّتْ”، و “ثمة في كل صفحة شيء لا يُنسى”، و “إنَّ الفصول التي تناقش كذا تتصف بقيمة خاصة، إلى آخره… – إلى مواقعها كما تُطيع برادة الحديد المغناطيس، وسوف تنتهي المراجعة في المدة المُحدَّدة بالضبط وزيادة بضع دقائق.  في  حين أنَّ كمية أخرى من الكتب المبعثرة، الكريهة، سوف تكون قد وصلت. وهكذا دواليك. ومع ذلك هذا المخلوق المسحوق، ذو الأعصاب المُحطَّمة، بدأ حياته المهنية قبل بضع سنوات فقط.

   هل يبدو أنني أغالي؟ إنني أطرح سؤالي على أي مُراجع عادي – على أي شخص يُراجع، على سبيل المثال، حداً أدنى من الكتب مقداره مائة كتاب في العام – إنْ كان يُنكِر بكل صدق أنَّ عاداته وشخصيته هي كما وصفت. على أي حال، إنَّ كل كاتب يشبه هذا الشخص، لكنَّ مُراجِعة الكتب دون تمييز، وعلى المدى الطويل، هو عمل لا يلقى الشكر، ومُثير للأعصاب ومُرهِق بصورة استثنائية. إنه لا يتضمن فقط مدح الحثالة – على الرغم من أنه يتضمن هذا، كما سأُبيّن في الحال – بل ويختلق ردود أفعال حول كتب لا يكنّ لها الشخص أية مشاعر عفوية. على الرغم من أنَّ مُراجع الكتب قد يكون مُنهكاً، إلا أنَّ الكتب تثير اهتمامه مهنياً، ومن بين الآلاف التي تصدر في كل عام، لعل هناك خمسين أو مائة سوف يستمتع بالكتابة عنها. وإذا كان متفوقاً في مهنته قد يراجع عشرة أو عشرين منها: والأرجح أنْ يراجع اثنين أو ثلاثاً. أما ما تبقّى من عمله، مهما كان مراعياً ضميره في مدحها أو إدانتها، فخداع صِرف في جوهره. إنه يريق روحه الخالدة سدى، على دفعات.

   إنَّ الغالبية العظمى من المُراجعين يقدمون سرداً غير وافٍ أو مُضللاً للكتاب الذي يعالجونه. ومنذ الحرب والناشرون أصبحوا أقلّ قُدرة من ذي قبل على الضغط على مُحرري الأدب لكي يدفعونهم إلى الإفراط في مدح كل كتاب ينشرونه، ولكن من ناحية أخرى هبط معيار المراجعة بسبب الافتقار إلى الوقت ومنغصات أخرى. وعندما يرى الناس النتائج، يشيرون أحياناً إلى أنَّ الحل يكمن في انتزاع عمل مراجعة الكتب من بين أيدي الكتّاب المأجورين. فالكتب ذات المواضيع المتخصصة يجب أنْ توضع بين أيدي خبراء، ومن ناحية أخرى فإنَّ الكثير من المراجعات، خاصة للروايات، يمكن إسنادها إلى هواة. وكل كتاب تقريباً قادر على إثارة مشاعر قوية، حتى وإنْ كانت شعوراً عنيفاً بالكراهية، عند بعض القراء، الذين يكوّنون أفكاراً عنه قيِّمة أكثر من آراء أولئك المحترفين المملين. ولكن، لسوء الحظ، وكما يعلم كل مُحرر، مثل هذا الأمر من الصعب جداً تنظيمه. عملياً يجد المُحرر نفسه دائماً يعود إلى فريقه من الهواة – فريقه “المعتاد” كما يسميه.

   ليس لأي من هذه المشاكل حل ما دام يُسلَّم بأنَّ كل كتاب يستحق أنْ يُراجَع. فمن المستحيل تقريباً ذِكر الكتب في المُجمَل من دون المبالغة بشكل فادح في مديح مُعظمها. إذا لم يكن للمُراجع ما يُشبه الصِلة الحِرفية مع الكتب فإنه لن يستطيع أنْ يكتشف مدى سوء معظمها. وفي كل تسع من عشر حالات يكون النقد الصادق الموضوعي الوحيد هو “إنَّ هذا الكتاب لا قيمة له”، في حين أنَّ حقيقة ردة فعل المراجع الخاصة قد تكون “إنَّ هذا الكتاب لا يُثير اهتمامي بأي حال من الأحوال، ولن أكتب عنه شيئاً إلا إذا تلقّيتُ أجراً مقابل ذلك”. ولكن حالما تُذكَر القيَم، تنهار المعايير. ذلك أنه إذا قال المرء – وكل مُراجع تقريباً يقول مثل هذا على الأقلّ مرة في الأسبوع – إنَّ ” الملك لير” مسرحية  جيدة وأنَّ ” أربعة رجال عادلون” رواية تشويق جيدة، فما هو معنى كلمة “جيد” هنا؟

   لطالما بدا لي أنَّ أفضل عمل هو ببساطة تجاهل الغالبية العظمى من الكتب وإعطاء مُراجعات طويلة جداً – ألف كلمة كحد أدنى – للقلّة التي تبدو هامة. والملاحظات القصيرة من سطر أو سطرين قد تكون مفيدة، أما المراجعة متوسطة الحجم من 600 كلمة فلا قيمة لها حتى وإنْ رغب المُراجع حقاً في كتابتها. في المعتاد هو لا يرغب في كتابتها، ومع مرور الأسابيع من إعطاء تلك الملاحظات القصيرة سرعان ما يُختَزَل إلى الشخص المسحوق برداء النوم الذي وصفته في بداية هذا المقال. ولكن، كل شخص في هذا العالم لديه شخص آخر يستطيع أنْ يزدري، ويجب أنْ أقول، استناداً إلى تجربتي في المهنتين، إنَّ مُراجع الكتب أفضل حالاً من الناقد السينمائي الذي لا يستطيع حتى أنْ يمارس عمله في منزله، ولكن عليه أنْ يشاهد عروضاً تجارية في الحادية عشرة صباحاً، ومع استثناء أو اثنين، يُتوقَّع منه أنْ يبيع شرفه مقابل كأس من الشيري الرديء.

*****

خاص بأوكسجين